يحدثنا ابن ابي أصيْبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء ) عن (ثابت بن قرة) ت 288 هجرية فيقول :ص195-196
(اجتاز يوماً ماضياً الى دار الخليفة، فسمع صياحاً وعويلاً ، فقال :
مات القصّاب الذي كان في هذا الدكان ؟
فقالوا :
اي والله ياسيدنا البارحة فجأة ، وعجبوا من ذلك ، فقال :
ما مات
خذوا بنا إليه ، فَعَدَلَ الناس معه الى الدار ، فتقدّم الى النساء بالإمساك عن اللطم والصياح ، وأمرهن بان يعلمن مزورة ،
وأومأ الى بعض غلمانه بان يضرب القَصّاب على كعبه بالعصا ،
وجعل يده في مجسه ،
وما زال ذلك يضربُ كعبه الى ان قال : حسبك.
واستدعى قدحاً وأخرج …. دواءً فدافَه في القدح بقليل ماء ، وفتح فم القصاب وسقاه إيّاه ، فأساغه (اي شَرِبَهُ القصاب )
ووقعت الصيحة …. في الدار والشارع بأنَّ الطبيب قد أحيا الميت .
فتقدّم ثابت بغلق الباب ، والاستيثاق منه ،
وفتح القصّابُعَيْنَه ، وأطَعَمَهُ مزورة وأجلسه ،
وقعد عنده ساعة ،
واذا باصحاب الخليفة قد جاؤا يدعونه ، فخرج معهم ، والدنيا قد انقلبت – الى ان دخل دار الخلافة ، ولما مثل بين يديْ الخليفة قال له :
ياثابت ماهذه المسيحية التي بلغتنا عنك ؟
قال :
يامولاي كنتُ أجتازُ على هذا القصّاب وألحظُه يشرح الكبد ، ويطرح عليها الملح ويأكلها ،
فكنتُ استقذر فعله أولاً ، ثم أعلم أنَّ سكتةً ستلحقُه ، فصرتُ أراعيه ،
وإذْ علمتُ عاقبتَه ، انصرفتُ وركّبتُ للسكتة دواءّ استصبحتُه معي في كل يوم ،
فلما اجتزتُ اليوم وسمعتُ الصياح
قلتُ :
مات القصّاب ؟
قالوا :
نعم
مات فجأة البارحة ، فعلمتُ ان السكتة قد لحقتهُ ،
فدخلتُ اليه ، ولم أجد له نَبَضاً ، فضربتُ كَعْبَهُ ، الى أنْ عادتْ حركةُ نبضِه ، وسقيتُه الدواء ففتح عينيه ، وأطعمته مزورة ،….. وفي غدٍ يخرجُ من بيته”
أقول :
تدل هذه الحادثة على ان (ثابت بن قرّة ) طبيب بارع ، ذكي دقيق الملاحظة ، حيث كان قد رصد القصّاب وراقب ماكان يصنعه من أكل الكبد التي يطرح عليها الملح …كما انه قد توّقع ان يصاب الرجل بالسكتة ،
وبالفعل أصيب بها القصّاب، وكان يحمل معه الدواء الناجع لتلك الحالة .
واستطاع ببراعة ان ينقذ حياة القصّاب ، بعد ان كان أَهْلُه قد يئسوا منه وأقاموا عليه النوائح ..!!
جرى هذا قبل قرون عديدة، وقبل ان تكون بيد الأطباء أجهزة متطورة، ومعدّات طبية، يستطيعون من خلالها ان يكتشفوا العديد من الحالات المرضية الخطيرة، ويقدّموا لها العلاج المناسب .
وقد وقعت قبل أيام – وضمن الحادث الارهابي الفظيع في بابل والذي أودى بحياة العشرات من الشهداء – حادثة جديرة بالمقارنة مع هذه الحادثة .
لقد نقلوا جثة أحد المصابين المغمى عليهم ضمن جثث الشهداء، وَوُضِعَت الجثة في الثلاجة ، وبقيت لمدة ساعة .
وتنبهت أحدى عاملات التنظيف في المستشفى الى ان هناك جثة في الثلاّجة لم تفارق صاحبها الحياة، فأسرعت وأخبرت من جاء وأخرج الجثة من الثلاجة، وبعد الفحص تبين أنّ صاحبها في حالة إغماء، وسارعوا الى نقل المصاب الى غرفة العمليات، وأجروا له ما يلزم من العمليات الجراحية وأفاق من الأغماء ….
وأنقذه الله من موت مُحتّم لو كان من قد بقي في الثلاجة .
لم نسمع – للأسف – أنَّ واحداً من الكادر الطبيّ ممن راى الجثث ، أستطاع ان يميّز ” المصاب المغمى عليه ” من غيره ممن فارقوا الحياة .
ولعل هول الفاجعة أذهلهم فلم يعودوا قادرين على التشخيص ..!!
وهنا لابد ان نذّكر بكلمة ذهبية لأمير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (ع) حيث يقول :
” كفى بالأجل حارساً “