23 ديسمبر، 2024 12:11 ص

بصدد المحكمة الجنائية الدولية ومستقبل القانون الدولي

بصدد المحكمة الجنائية الدولية ومستقبل القانون الدولي

قد يستقيم استمراء أو حتى تَشَفِّي جحافل المقروحين والمكلومين بتجبر وطاغوت السفاح الرئيس الروسي بوتين، خاصة من أولئك الذين خبروا على جلدهم غيه وحديده وناره في سورية والشيشان وجورجيا ومن كان على شاكلتهم من المقهورين الخاضعين لمفاعيل دولته الأمنية، غير المستفيدين من منظومة فسادها وإفسادها؛ بعد أن تم إحالة ذاك المجرم المخضرم إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهم «التهجير اللاشرعي» لأطفال من أوكرانيا إلى روسيا، وهي الجريمة التي بدت في منظار المحكمة الجنائية الدولية بأنها «جريمة حرب» لا بد من مقاضاة مقترفيها لأجل «إحقاق العدالة ومنع حدوث مثل تلك الجرائم في المستقبل» بحسب تصريح رئيس المحكمة الجنائية الدولية PitorHofmanski، دون أن يشير إلى جريمة العدوان Aggression التي يعرفها القانون الدولي بأنها: «التخطيط، التحضير، والبدء أو التنفيذ من قبل شخص في موقع يخوله ممارسة الضبط وتوجيه الفعل العسكري والسياسي لدولة ما، للقيام بفعل العدوان، والذي بكينونته، ومستواه، ووطئه يمثل خرقاً صريحاً لميثاق الأمم المتحدة»، وهو الميثاق الذي تعتبر أوكرانيا عضواً فيه، بشكل لا يجعل مجالاً للبس بأن فعل نظام بوتين السفاح بشنه الحرب على أوكرانيا، دون تفويض من مجلس الأمن بحسب ميثاق الأمم المتحدة يمثل جريمة عدوان صريحة، تتطابق أيضاً مع التفسير الفقهي القانوني لمحكمة نورمبرغ Nuremberg، وهي المحكمة الدولية التي قامت بمحاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية في العام 1945 -من فريق الخاسرين فيها بشكل حصري دون أي من المنتصرين فيها- وكان بحسب تعريفها الصريح والواضح بأن جريمة العدوان هي «أعظم جريمة دولية» وباللغة الإنجليزية «The Supreme International Crime».

ولا يستطيع أي عاقل سوى التساؤل عن سبب عدم تنطع المنافحين عن القانون الدولي من مدعي المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة الطاغية بوتين بجريمة عدوانه الصريحة، وقصر ادعائهم عليه بجرائم «تهجير الأطفال» قسرياً، وهو التساؤل الذي لا بد أن أي إجابة فطرية عليه لا بد أن تستنتج أن محاكمة السفاح بوتين بجرائم العدوان، لا بد أن تشمل أيضاً وفق نهج القياس المنطقي والتاريخي والقانوني جرائم عدوان الأمريكان على العراق المهيض الجناح، وعلى أفغانستان الجريحة، وغيرهما من أرجاء الأرضين، وجرائم عدوان الكيان الصهيوني التي لم تتوقف على المقهورين الفلسطينيين في غزة وغيرها من أرض فلسطين التاريخية، وجوارها في لبنان وسورية والعراق ومصر لمن لم يتسرب التاريخ الحق من ثقوب ذاكرته التاريخية ووعيه بكينونته كإنسان عاقل لا يميزه عن أقرانه من الحيوانات سوى قدرته على ذلك التفكير وتكشف الخطل من الصواب. والتساؤل المُلَّح الآخر الذي يطرح نفسه عند النظر إلى قائمة الدعاوى القائمة راهناً ضد المتهمين بجرائم حرب في المحكمة الجنائية الدولية، والتي عددها في تاريخ كتابة هذي السطور يبلغ 31 قضية، لا بد أن يتطرق إلى أن جميع أولئك المتهمين بجرائم حرب، هم من القارة الأفريقية، وجلهم من ذوي البشرة القاتمة، وليس فيهم أي من السادة «البيض» كما لو أنهليس في عديدهم وتاريخهم الحديث والمعاصر والراهن أي من المجرمين الذين يستحقون المقاضاة وفق القانون الدولي بجرائم الحرب الشنيعة التي اقترفوها في المحكمة الجنائية الدولية. ولكن هيهات أن يفوت عتاة المنافحين عن القانون الدولي من مدعي المحكمة الجنائية الدولية تلك الملاحظة، والتي لا بد أن ينسف أسها وأساسها الادعاء على السفاح بوتين ببشرته البيضاء، مما ينفي الأساس العنصري الذي كان من المحتمل استبطانه عند النظر إلى قائمة من تقاضيهم راهناً المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما يفتح الباب من جديد للنظر والتفكر في أسماء وتأريخ أولئك المتهمين بجرائم حرب وتتم مقاضاتهم راهناً في المحكمة الجنائية الدولية، وهو التفكر الذي لا بد أن يفضي إلى استنتاج فطري مبسط عنوانه العريض بأن كل تلك الأسماء يجمعها بالإضافة إلى أن الأغلبية المطلقة منها باستثناء بوتين من القارة السمراء، بأنهم ممن يتم تصنيفهم وفق القاموس السياسي الأمريكي ومن لف لفه من أذناب وأذيال بأنهم من الأعداء والأخصام السالفين، أو العملاء السابقين المنتهين الصلاحية من قِبيل عمر البشير وسيف القذافي و من كان في رتبتهم من قبل.

ولا يسعنا في السياق الآنف الذكر إلا التفكر بسيرة أي من الطغاة العرب من المحيط إلى الخليج دون أي استثناء لأي منهم حتى لو كان مجهرياً، وأعني هنا بالتحديد كل الطغاة العرب منذ تاريخ استقلال مجتمعاتهم عن مستعمريهم وتحويلها إلى دول عسكرتارية أو شمولية على طريقة ممالك العصور الوسطى، وصولاً إلى كل الطغاة المعاصرين المتغولين على حيوات كل أبناء مجتمعات الناطقين بلسان الضاد.

ولا بد أن يقودنا تفكرنا ذاك إلى استحضار عشرات المفاصل التاريخية التي كان جوهرها السرمدي دأب و«صبر ومصابرة» كل أولئك الطغاة -دون استثناء- على «معاناة» استنباط وسائل وأدوات جديدة للتنكيل بشعوبهم وإذلالها وتغييب مئات الآلاف منهم في أقبية وسراديب ودهاليز فروع استخبارات دولهم الأمنية بامتياز، دون أن يفوتهم بالتأكيد «واجب» التنكيل بأطفال شعوبهم بمختلف الطرائق التي لا يمكن إلا لذهن الشيطان الرجيم نفسه بلحمه و شحمه لأن يتفتق بمثلها، دون أن يفلت من قائمة إنجازاتهم الخبيثة تحويل مئات الآلاف أو الملايين من أولئك الأطفال إلى يتامى مع وقف التنفيذ لا يدرون عن مصير آبائهم المفقودين بعد ولوجهم إلى برزخ أي من الفروع الأمنية العربية التي لا مخرج منها إلا كائناً مشوهاً بدرجات وحدات وتمظهرات مختلفة، أو كما في غالب الأحيان إلى الدار الآخرة على جناح السرعة.

ولزيادة الإيضاح والإفصاح في نسق المحاكاة الأخيرة، يمكن لنا استحضار محنة وجلجلة الشعب السوري المظلوم على سبيل المثال لا الحصر بالتأكيد، فكل الطغاة سواء على اختلاف مشاربهم وتلاوينهم.ففي تلك المحنة الأسطورية لم يسلم الملايين من الأطفال السوريين من شر التهجير بقوة الحديد والنار والبراميل المتفجرة والحصار والتجويع والتعذيب في أقبية الفروع الأمنية؛ وهو ما أفضى إلى نزوح الملايين من العائلات السورية أطفالاً وشيباً وكهولاً وشباباً إلى دول الجوار وغيرها في حكاية تراجيدية قد يستحيل على القاصي أو الداني من الناطقين بلسان الضاد التعامي عن حقيقة وجودها العياني المشخص.

وهنا لا بد من التساؤل عن السبب الذي دعا بمدعي المحكمة الجنائية الدولية للتنطع لمقاضاة فلاديمير بوتين بجرم التهجير القسري لبضع مئات من الأطفال أو حتى الألوف منهم من أوكرانيا إلى روسيا، وعدم الالتفات إلى ما فعله نظام السفاح بشار الأسد بملايين الأطفال من شعبه من تهجير قسري وتقتيل وإبادة جماعية بأسلحة التدمير الشامل الكيميائية، كما أثبتت ذلك تقارير لجان استقصاء الأمم المتحدة نفسها، أو عدم الالتفات إلى ما فعله أي من الطغاة العرب المعاصرين بشعوبهم المظلومة المقهورة، أو ما يقوم به بشكل سرمدي لا ينقطع نظام الفصل العنصري في الكيان الصهيوني بأبناء الشعب الفلسطيني وأطفاله في غزة وغيرها من أرض فلسطين التاريخية. وبالتأكيد فإن هناك الكثير من التحذلقات القانونية والبلاغات التزويقية من سياسي الولايات المتحدة ومن لف لفها من دول ذنبية، لتبرير «اصطفاء» جرم فلاديمير بوتين البليغ والتعامي عن مئات السيناريوهات المشابهة في غير موضع من أرجاء الأرضين حيث يعيش المقهورون المستضعفون كما هو حال الملايين من المظلومين في تركستان الشرقية، أو كما يسميها نظام الدولة الأمنية الشمولية الصينية إقليم شينجيان، أو ما يفعله النظامان الإيراني والتركي بأبناء الشعب الكردي المقهور، أو حتى ما يفعله السادة البيض من إجرام بحق السكان الأصليين لأراضي مستعمراتهم التي أصبحت مركز ثقل العالم، والتي قد تكون حكاية استلاب الكنائس الكندية حتى سنوات قليلة مضت بالقوة العارية لأبناء السكان الأصليين، لإرغامهم على نسيان ثقافتهم ولغتهم، وتبني لغة مستعمريهم ونمط حياتهم، ولمن كان ذاك عصياً عليه لاستبطانه والقبول به، فإن رحاب جنائن وحدائق وأقبية تلك الكنائس كانت حاضرة على «استقباله» في قعرها مدفوناً ليس هناك من يسأل بأي ذنب قتل ذاك الطفل المقهور بأيدي ظلامه من مستعمري أرضه و أرض أجداده بغير حق سوى قوة الحديد و النار و من كان أكثر قدرة على استخدامهما في غيه. وجميع تلك الجرائم التي لا تعد إلا غيضاً من فيض العسف الكوني الذي يمارسه الأقوياء الأثرياء وعملاؤهم وزبانيتهم ونواطيرهم بحق المستضعفين المقهورين في أرجاء الأرضين، والكثير منهم أطفال بالتأكيد، وهو فيض العسف الذي يحول جرائم فلاديمير بوتين إلى جرائم مجهرية إذا قورنت بتلك الكبائر العظام منها.

وفي الحقيقة فإن مبدأ مقاضاة مقترفي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية كما تم شرعنتها في القانون الدولي نظرياً، مبدأ سامٍ ولا بد من الدفاع عن واجب تطبيقه بشكل عادل ومنصف غير انتقائي بكل الأشكال المتاحة، دون أن يعني ذلك انتظار تحققه من تلقاء نفسه، من خلال المطالبة بصوت أعلى كل مرة من أجل تطبيق القانون الدولي بحق هذا المجرم أو ذاك من أولئك الذين لا يبصرهم القانون الدولي والشرعة الدولية وفق موازين القوى التي تنظم آليات عملهما الداخلية، والتي تنظر بأن المطالبة بتحقيق القانون الدولي حق حصري للأقوياء الأثرياء وليس لأي من المستضعفين المفقرين المنهوبين سواء كانوا أطفالاً أو مجتمعات أو حتى دولاً، وهو ما يعيدنا إلى الحقيقة المُرة العلقمية بأنه لا خيار للمستضعفين إلا بتغيير اشتراطات واقعهم المؤوف بأيديهم قبل أن يتغير نهج تعامل الأقوياء معهم، و هم الذين لا يعنيهم أو يضيرهم أن يصم آذانهم عويل وصراخ وتفجع المحسورين في أرجاء الأرضين المطالبين بإحقاق العدل وإنصاف المظلومين، وبالفعل فلا خيار للمقهورين من أجل قلب معادلة استضعافهم إلا بالاتكاء على سلاحهم الوحيد والذي ليس من سلاح فعلي سواه في أيدهم، ألا وهو قوتهم حينما ينتفضون جسداً جمعياً عملاقاً واحداً، كما فعل أبناء مجتمعات المقهورين من الناطقين بلسان الضاد في سياق الربيع العربي الجهيض، والتحضير لذلك بكل الوسائل المتاحة، والتي قد يكون على رأس قائمتها الحفاظ على العقل من إيغال الرأس الذي يحمله في الرمل، والاستسلام والتسليم بالأمر الواقع حقيقة تاريخية لا خيار في تغييرها. وللإنصاف فإن المطالبة الأخيرة قد تبدو مبالغة أو شططاً في سياق مفاعيل الربيع العربي المجهض قسراً وتآمراً عليه من كل الأفرقاء من موسكو بوتين إلى المستظلين بمظلة الحرية في نيويورك مروراً بكل الأذناب والأذيال والتوابع والنواطير والعسس والعملاء في الفضاء الجغرافي الذي يفصل ذينك الفريقين، ولكن الحقيقة المُرة والتي لا بد أن يستكنه مرارتها كل من لم ينخر التخاذل والاستسهال ذاكرته التاريخية، والتي مفادها بأن رحلة الانعتاق جلجلة مريرة لا بد من الصبر والمصابرة في كبواتها، والاستمرار في الدأب والاجتهاد والتحضير للنهوض بعد كل عثرة في طريقها الشاق العسير، إلى حين إدراك المقهورين لمفاتيح انعتاقهم بأيديهم، ودون ذلك فإن مصيرهم المحتوم هو المراوحة في حيز البقعة العمياء للمحكمة الجنائية الدولية والقانون الدولي.