تشكلت معظم الاحزاب السياسية العراقية، العربية والكوردية والتركمانية وغيرها، المشاركة في الحكم في ادارة الدولة العراقية ما بعد 2003 والتي يرجع تاريخ تأسيس البعض منها الى النصف الأول من القرن العشرين، والأخرى حديثة العهد والنشأة، تشكلت وفق أصول فكرية وعقائدية وأديولوجية مؤسسة لكينونتها وبنيتها ونظامها الداخلي والخارجي، السياسي والاجتماعي والثقافي، وهذا ما نلمسه لدى الأحزاب الدينية الاسلامية والعلمانية على حد سواء، فلكل منهما أصول وأسس فكرية ونظرية تستند عليها للعمل السياسي والجماهيري، واقناع كل حزب لجماعته ومتبعيه بما يملك من أفكار تغذي الزخم الفكري والعاطفي لديها لتحقيق الكسب والجذب المادي والمعنوي في تحركها نحو أكبر قطاع ممكن من الناس، ويتضح ذلك من خلال ما نجده من أدبيات وخطابات وكتابات فكرية وأيديولوجية منتشرة ومبثوثة بين جماهير كل قطاع يعمل المؤسسين لها على نشرها وتقديمها لقطف ثمارها، وتعمل الجماهير المتبعة لها على تبنيها والدفاع عنها بصورة مقدسة كما لو أنها شيء مقدس لا يمكن مناقشته، وتبذل الغالي والنفيس في الدفاع عنها، لما تحويه من أفكار وتوجهات منسجمة مع التوجه الفكري والاعتقادي لكل جماعة تسير خلف ذلك الحزب أو ذاك، مؤمنة ايمان العجائز بقدرة هذه الاحزاب على امتلاك الحل السحري للخروج بها من الانفاق المظلمة الى بر الامان، سياسياً واجتماعياً وروحياً، وهذا ما نلاحظه ونلمسه في واقع الشعوب والمجتمعات العربية عامة، وواقع المجتمع العراقي على وجه الخصوص، ولا بأس أن تؤمن الجماهير بذلك لو تم لها تحقيق ما تصبوا اليه من حقوق وحريات وامكانات وثروات ورفاه وتقدم، وتطابق العمل السياسي مع ما تنادي به تلك الاحزاب من خطابات وشعارات وأهداف، ولكن الكارثة العظمى ان الجماهير تسير خلف احزابها دون نظر أو تمحيص وغارقة في فقرها وبؤسها حد النخاع، وهي متلذذة بهذا المسير وتلك الطاعة العمياء لمن يقودها.
فيما يخص الاحزاب السياسية الدينية الاسلامية الحاكمة في الدولة العراقية فأن لديها مرجعيات ونظريات وأدبيات دينية اسلامية أشتقت اصولها وأسسها وفق مرجعياتها التأسيسية الدينية التي آمنت بها، وفق الشريعة الاسلامية، وعلى هذا الأساس بنت أفكارها ونظرياتها وقدمت برامج سياسية واجتماعية واقتصادية دينية وفق ذلك المنظور، وهذا ما نجده في أدبيات وكتابات الاحزاب السياسية الشيعية والسنية على حد سواء، فقد طرحت تلك الاحزاب رؤاها ومبادئها وفق المشروع الاسلامي المثالي، الذي يتمنى الجميع تحقيقه وتطبيقه بين الناس، لما يحمل من أفكار ونظريات انسانية ذات سحر عميق، تُمني الفرد والمجتمع بتحقيق الكمال والسعادة والرفاه والحرية والانسانية بين الناس، وهذه أمنية ما بعدها أمنية، ولكن واقع الحال بعيد عن ذلك تماماً.
خرقت الاحزاب السياسية الاسلامية دستورها ونظامها وخانت مرجعياتها وأصولها بعد أن تسنمت الحكم وشاركت في ادارة الدولة فعلياً، وتحولت كل افكارها وطروحاتها الى خطابات وشعارات فارغة لا قيمة لها على أرض الواقع، وتمرغت تلك الاحزاب في وحل السياسة والحكم ونزعت ثوبها القديم لتواكب العصر والواقع الجديد الذي تمثلته وتفاعلت معه، ونسيت كل وعودها الساحرة التي وعدت به جماهيرها ان تسنمت مقاليد الحكم، وتلك هي المصيبة الكبرى على ارض الواقع، فقد تحولت تلك الاحزاب المناضلة والمجاهدة الى أحزاب دكتاتورية طاغية تعمل عمل الطغاة والحكام الذين ناضلوا وجاهدوا وجدوا واجتهدوا في محاربتهم، فهم اليوم يسكنون مساكنهم ويحيون حياتهم ويسيرون سيرتهم، وما أشبه اليوم بالأمس، وكأن عقارب الساعة تعود الى الوراء من جديد.!!
الملاحظ تاريخياً وواقعياً ان أغلب الاحزاب السياسية تقدم طروحاتها وأفكارها وفق أجواء ساحرة ومثالية طوباوية تسحر به أتباعها ومريديها وتعمل على كسب وجذب عقولهم وعواطفهم، ولكنهم حين يمكنون من رقاب الناس ويستلمون دفة الحكم تتغير مسارات التفكير والتنظير وتتهافت كل المبادىء والاهداف التي طرحت في ساعتها الأولى، وهذا ما يلاحظ من خلال الرجوع لتاريخ هذه الاحزاب قبل استلام الحكم وبعده، فهناك بون شاسع بين لحظة التنظير والتأسيس ولحظة الممارسة والحكم، وتلك مشكلة كبرى تعاني منها الشعوب على مر التاريخ، وهذا شرخ كبير وازداوجية وخيانة عظمى ما لها من علاج، وهي مصداق لقول الله تعالى في القرآن الكريم : “كلما دخلت أمة لعنت أختها”، و ” كل حزب بما لديهم فرحون”، وتلك هي الكارثة المهلكة، أن تنظر بعيونك الرمداء ولا تبالي لمن هم يبصرون.!!
ومن الجدير بالذكر أن مبادىء وأهداف وطروحات وتنظيرات الكثير من الأحزاب السياسية ليست خاطئة، بل سليمة وناجعة، ولكن الخلل والفشل في التطبيق، فحين نقرأ أدبيات وطروحات بعض الاحزاب السياسية الحاكمة نجدها ذات أفق وعمق كبيرين، ومنها من يتشكل وفق مرجعيات وأسس دينية تارة، وتارة فلسفية، وتارة أخرى علمانية أو قومية أو علمية، ولا ضير في ذلك، فكلها تنشد العدالة والحرية والمساواة وتحقيق الرفاه واسعاد الناس على مستوى التنظير، ولكنها على أرض الواقع تخفق في تحقيق ذلك وتسعى لتلبية طموحاتها الحزبية الضيقة، وتكون تلك الخطابات والشعارات جسر للعبور وتحقيق مكاسبها الذاتية، وهذا ما نلاحظه في سيرة ومسيرة الكثير من الجماعات والاحزاب، فخيانة الاهداف هو خرق كبير تمارسه الاحزاب بعد تسلمها ادارة الحكم وتمكنها من رقاب الناس، وتخليها عن تنظيراتها المثالية الساحرة التي ضحت الجماهير من أجلها، وقد تقدم تلك الجماهير قرابين من الشهداء والدماء والتضحيات ساعة كانت معارضة لحاكم أو سياسة ما، وتعود صفر اليدين بعدما تتسلم الأحزاب المعارضة دفة الحكم حين تقضي على الحزب أو القائد الحاكم السابق، وفي الحالتين تعود الجماهير خائبة خاسرة، لأنها وقود المحرقة، وجسر العبور الذي يصعد على أكتافه من يجيدون قواعد اللعبة.
لعلّ سائل يسأل ما هو سبب تسليط الضوء على خيانة الاحزاب السياسية الاسلامية العراقية لجمهورها واهدافها ومرجعياتها، ما دام الأمر ينطبق أيضاً على معظم الأحزاب السياسية الحاكمة بمختلف توجهاتها ومسمياتها وكياناتها، فنحن أمام طبيعة بشرية وظاهرة سياسية ومجتمعية عامة لا تخص حزب دون آخر، وانما تشمل جميع من في الحكم، ولعلك تشوه بهذا التفسير والفهم الصورة لحركة الاحزاب السياسية الاسلامية ذات التاريخ النضالي الكبير، وبذلك تقدم هدية ثمينة على طبق من ذهب للأحزاب الأخرى المعارضة للتوجهات الاسلامية أن تصعد وتتصدر المشهد السياسي وادارة الدولة العراقية، وهناك الكثير مما يثير علامات الاستفهام والتعجب من قبل جماهير تلك الاحزاب الدينية الذين يثيرهم أو يزعجهم مثل هذا المقال.!!
ولكنني أجيب عن ذلك التساؤل والاستفهام بأن شعبية الأحزاب الدينية الاسلامية في العراق كبيرة جداً، فضلاً عن تاريخها الجهادي والنضالي وتقديمها للشهداء والتضحية في مقارعة السياسات والحكام الظالمين هذا من جهة، ومن جهة أخرى وهو الأساس فأنها ترجع في أصولها وفكرها وتنظيرها الى الشريعة الاسلامية التي تسعى نحو احقاق الحق وتنظيم حياة الفرد والمجتمع وبناء دولة انسانية عادلة يعيش فيها الناس بخير وسلام، وهذا ما يدعو له الاسلام في نصوصه المقدسة، والتي جندتها تلك الاحزاب وضمنتها في أجنداتها الحزبية وأدبياتها الأيديولوجية في تحقيق نزعة انقاذية خلاصية كمالية مقدسة تجذب الجماهير نحوها. ولكن للأسف كانت تلك الدعوات شعارات وخطابات طوباوية ساحرة فارغة مات مفعولها منذ وصول تلك الأحزاب للسلطة واستلامها دفة الحكم، وتبخرت كل الاحلام السعيدة، وأصبح ذلك التنظير والتفكير الحزبي المعسول قارب النجاة للوصول للسلطة والحكم من قبل المتحزبين، وجنت الجماهير منه البؤس والشقاء والحرمان، وتلك هي الخيانة الكبرى التي قدمتها الاحزاب السياسية الاسلامية على طبق من ذهب لأتباعها وجماهيرها المخلصة والمعذبة على مر التاريخ، وللأسف فأننا نلدغ مرات ومرات من ذلك السلوك المأساوي المشين، ونعود مرة أخرى نصفق ونزمر ونطبل لتلك الأحزاب كما لو أننا في سكرة غافلين، وما هذا المقال النقدي الا لتصحيح المسار ودعوة للصحوة وأنقاذ ما تبقى من وطن نحلم فيه بالبقاء والنهوض به وحمياته ممن يتزيون بزي الدين والاسلام والوطنية، واالسعي لأستعادة ثقة الجماهير بأحزابها ومن يمثلها، وحماية التاريخ المضرج بالدماء والشهداء لهذه الأحزاب الحاكمة الحالمة بالأصلاح والتغيير وبناء الدولة الديمقراطية الجديدة قبل أن نخسرها ونفقد ما تبقى منها وتزول التجربة السياسية ما بعد التغيير برمتها وعودة عقارب الساعة الى الوراء لا سمح الله.