ناقشنا في الجزء الأول من هذا البحث مسألة وجود (مشروع إسلامي) محدد في العراق على وجه التحديد وإختلاط الإسلامي بالطائفي وتصارع مشروعيين كلاهما (إسلامي) وأقترحت على أصحاب المشروعين فك هذا الإشتباك و النزول إلى معترك السياسة بصفتهم الحقيقية (الطائفية) والتعامل كل طرف مع الأخر بصفته الطائفية وليس الغريم الإسلامي وترك حساسية التمثيل هذه!.
و اليوم نقترح مقترحين آخرين على أصحاب (المشاريع الإسلامية) علهم ينظرون بهما للوصول إلى تنحية الإسلام عن شبهات الصراعات السياسية والطائفية التي لا تمت للإسلام بصلة رغم أن القائمون بها لهم (الصفة الدينية) .
المقترح الأول هوتخلي الجميع عن (الصفة الإسلامية) وإختيار أسماء سياسية بحته غير إسلامية بخلفيات فكرية ومنطلقات دينية ويمكنهم أن يجسدوا الأخلاق والمثل التي يعتقدون بها مع إحتفاضهم وتمسكهم الشخصي بعقائدهم وعباداتهم ودينهم الذي يؤمنون به . وبذلك فهم يمثلون أنفسهم وأحزابهم وليس للإسلام صلة مباشرة أو واضحة بل إن ذلك يتيح لهم مرونة عالية في التعامل السياسي الحالي في العراق والذي يتطلب في أكثر الإحيان اقوال وافعال قد تتعارض مع الإسلام والمثل الدينية وفي بعض الإحيان حتى الأخلاق العامة .
بل إن ذلك ينأى بالإسلام عن التجربة الفاشلة للمشروع الإسلامي المعاصر في العراق والذي خلف (المحاصصة) السياسية المتخلفة و(الطائفية) السياسية البشعة والفساد المالي والإداري وفقدان السلم الأهلي وإنعدام النمو الإقتصادي وتردي الإنتاج الصناعي وتراجع الإنتاج الزراعي وإنعدام الإنتاج الفني والإنكفاء الثقافي وضعف الواقع الرياضي حتى أصبحنا في ذيل الدول المتخلفة وفي قاع الدول الفاسدة!
أما المقترح الثاني فهو بقائهم بصفتهم العقائدية الدينية بعيداً عن ميدان الصراعات السياسية يمارسون الدعوة إلى عقائدهم الدينية وتربية أتباعهم وفق هذه المنطلقات العقائدية بل إن ذلك لا يحرمهم من النقد السياسي وتقديم النصح للسياسين ودعم الحزب الأقرب لتوجهاتهم العقائدية والمطالبة بتصحيح مسارات العمل السياسي. كما يتيح لهم التاثير في مجالات قد يكون فيها التأثير السياسي ضعيفاً أو معدوماً أو سلبياً كما في الكثير من الحقول الإجتماعية والمناسبات الدينية والصلح المجتمعي والسلام الإجتماعي الذي قد تخربه السياسة في كثير من الإحيان .
نعم إن العقائد (وبالذات العقائد الدينية) مصانة ولا تقبل المساومة ولا أنصاف الحلول ولا تعرف التقارب بين الحق والباطل بل إن العقائد والعبادات في الدين أمور (قطعية) لا يجوز فيها الإجتهاد إلا في حالات ضيقة جداَ (في النازلة مثلاً) عكس ما يتعلق بالمعاملات فيجوز فيها الإجتهاد لذا لابد من النأي بالعقائد الدينية عن ميادين الصراع السياسي (وليس عن السياسة بمفهومها العلمي والشرعي) وذلك لأن من طبيعة الصراعات السياسية أن تمارس حراكها وفق ضوابط الصراع السياسي حسب ميدان (مكان) ذلك الصراع و (زمانه) وأطرافه ومعطياته فالتغيير وعدم الثبات والمناورة وعدم القطع هي من أول معطيات الصراع السياسي عكس ما هو مطلوب في أمور العقائد بشكل عام والعقائد الدينية بشكل أخص .
من البديهي جداَ أن نقول بوجود (نظرية سياسية شيعية) وهناك (نظرية سياسية سُنية) وإن لكل نظرية منهما خصوصيتها فهي عند الشيعة (أمر عقائدياً) مرتبط (بنظرية الإمامة) التي يقوم عليها أصل المذهب الأثنى عشري أو بمكملتها (نظرية الولي الفقيه) التي يؤمن بها قسم كبير من أتباع المذهب من مقليدي الأمام الخامنئي ؛ وهي عند السُنة بشكل عام عمل (إجتهادي) من المعاملات محكوم بالنص الشرعي وأصول الفقه إجتهد فيه الخلفاء الإربعة الذين خلفوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما أجتهد فيه الصحابة والتابعين والفقهاء رضوان الله عنهم اجمعين .
ولكن لابد ان نقر أيضاً بوجود مشتركات سياسية وإقتصادية وإخلاقية وإصلاحية في كلا النظريتين (المذهب الإقتصادي الإسلامي يكاد يكون واحداً في كلا المشروعين) ويتركز الخلاف في نظرية إدارة الدولة هل هي مرتبطة بشأن عقائدي قطعي لا إجتهاد فيه أم هو شكل من إشكال الإجتهاد السياسي.
ولما كان الطرفين متفقين على تأجيل الكثير من الأمور التي لا تنسجم مع الفكر الإسلامي بسبب عدم مناسبة الظروف الحالية لتطبيقها ومن ذلك (المذهب الإقتصادي الإسلامي) وكذلك المنطلقات والنظرية الإخلاقية الإسلامية والطرفين لا يجدوا ضيرا في تأجيل تطبيقهما لحين تقبل المجتمع لهذا التغيير وتوفر الظروف الملائمة لذلك. (ومن المناسب القول أن هذين المحورين من أقرب نقاط الإشتراك بينهما) فلماذا لا يتفق الطرفان أيضاً على تأجيل كل ما لا يناسب الظرف الذي يعيشه العراق حالياً ويؤدي إلى زعزعة أمنه و وحدته ويؤخر إعادة إعماره ويفتت الوحدة الوطنية ويضعف العراق من (النظرية السياسية) لكلا الطرفين إلى حين توفر الأجواء الصحية والعلمية المناسبة وتجنيب العراق مفاسد الإقتتال الطائفي . والتحول إلى تعزيز اللحمة الوطنية وإيقاف الإرهاب والمليشيات الطائفية التي تفتك بالشعب العراقي بغطاء المشروعين الإسلاميين ! إلا إذا كانت هناك نوايا (لإختطاف) الدولة من جهة سياسية ما رغم إرادة الشعب العراقي بكل طوائفه ومكوناته بعيداً عن الديمقراطية شاء من شاء وأبى من أبى!.
ولكن هل يمكن للأحزاب الإسلامية العراقية تجنيب العقيدة ميدان الصراع السياسي والتعامل مع المشروع السياسي كونه مشروع دنيوي (إجتهادي) يواجهة واقعاً و يبحث عن حلول عملية واقعية لمشاكلنا الحياتية بشكل خاص وتعمل على تغيير حيتنا نحو الأحسن والأفضل والتخلص من معوقات النمو الحضاري وتحقيق حاجات الانسان الأساسية وكل ذلك عمل فني دنيوي يحتاج الى الخبرات العلمية والتخصصات الدقيقة النزيهة وإلى برامج وخطط كفيلة بتحقيق هذه الغايات وتلك هي مهمة الأحزاب الحاكمة كما هي مهمة الأحزاب المعارضة مراقبة تنفيذ تلك المشاريع ونقدها وليس هدمها وبهذا تكون مهمة الأحزاب الحاكمة والمعارضة تكاملية تعايشية بغض النظرعن تناقضات المنطلقات والخلفيات العقائدية التي تحكم كلا الطرفين وتفصلهما عن بعضهما وهي في نفس الوقت مهمة المشروع السياسي الإسلامي قبل أي شيء آخر .
ودخول طرفي المشروعين (الإسلاميين) في مشروع سياسي واحد يخدم المشروع السياسي الشيعي كما يخدم الفكر السياسي الشيعي أيضا أكثر من خدمته للمشروع السُني كونه يسوق للفكر السياسي الشيعي في الوطن العربي والعالم الإسلامي بصيغة إسلامية جديدة بمعزل عن التجربة السياسية الإيرانية وبمعزل عن تجربة (الولي الفقيه) ويؤكد في ذات الوقت إنتمائه إلى العالم الإسلامي وليس إنفصاله عنه كما يدعي بعض الغلاة والمتطرفين من الشيعة.
فكيف للإسلاميين أن يتعايشوا مع الشيوعيين والعلمانيين والقوميين وهم لا يتعايشوا مع (إسلاميين) أمثالهم على الأقل بمشروع سياسي ومن خلال برنامج سياسي لمدة دورة برلمانية واحدة (على الأقل)؟! . وإذا كان الجواب بالنفي على الإسلاميين أن يصارحوا جماهيرهم ويصارحوا شركائهم في العملية السياسية و يدركوا أن ما يحصل من صراعات طائفية دموية وقتل على الهوية ما هي إلا ناتج لذلك الصراع الطائفي السياسي ويتحمل السياسيون مسؤولية كبيرة عن ما يحدث ولا يعقل أن يبقوا متفرجين والعراق يذبح وكل من يقتل من أي طائفة كان خسارة عظمى. يا أصحاب المشروع الإسلامي العراقي :
الإسلام دين سلام أوقفوا الدم ؟ أم ان مشروعكم مشروعاً دموياً ؟!!!
[email protected]