عندما قال جيمس بيكر وزير خارجية أمريكا لوزير خارجية العراق طارق عزيز سنعيد العراق إلى القرون الوسطى ، لم نكن نعلم في وقتها. ان ذلك سوف ينصرف الى كثير من الدول العربية . حيث تشهد الان عصرا” من العصور المظلمة نتيجة سقوطها في فخاخ الافكار والعقائد البالية التي عفا عنها الزمن ، وكان يكفي لتنفيذ ذلك تسيد حثالات المجتمع ليتم ترويجها من خلال اللعب على وتر التدين الزائف . او حماية المقدسات لاستعطاف المواطنين وغسل ادمغتهم للسيطرة على الدولة والمجتمع ،
وتوج هذا النهج باختطاف الحركات الجماهيرية فيما سمي بالربيع العربي ، التي كانت تهدف الى الحرية ، والتطلع الى مستقبل جديد يتسم بالانفتاح السياسي والتقدم الاجتماعي . وفي السنوات اللاحقة استطاعت قوى الظلام والطائفية من احكام السيطرة على مقدرات بعض الدول العربية بدعم من قوى اقليمية ودولية ، فاشعلت حروبا اهلية. مازالت اثارها قائمة الى يومنا الحاضر ، وقد تسببت بفقدان الاستقرار السياسي وتأجيج الصراعات الطائفية والعرقية والتوترات الاجتماعية .
وعَرَّضوا بنهجهم التخريبي هذا الأمن القومي العربي للخطر ، مدفوعين بنظريات تعادي كل ماهو وطني ، فزادت التدخلات الاجنبية بالشؤون الداخلية للعرب .
ان عدم الاستقرار السياسي هذا قد خلق حالة من الفساد والفوضى في كثير من الدول العربية وأدى الى ظهور الحركات المتطرفة والراديكالية وتسبب في خلخلة التماسك الاجتماعي، حيث سعى الأفراد المحبطون إلى إيجاد مسارات عشائرية وقبلية بديلة عن الدولة ، بسبب الإخفاقات الملحوظة لحكومات ضعيفة
فانتشرت الجريمة والبطالة والمخدرات وضعفت الخدمات المقدمة الى المواطنين من تعليم وصحة وكهرباء وماء وغيرها من المستلزمات الاساسية للبشر ، وقد شهدت دول مثل العراق ولبنان وسوريا وليبيا واليمن ، ثم السودان الاضطهاد والتمييز تجاه الاقليات ،اضافة الى الفئات الضعيفة مثل النساء والاطفال. وتسببت في تآكل الحريات المدنية فيها كحرية التعبير والصحافة والتجمع ، وماتبعها من الفقر العلمي والثقافي والانغلاق الفكري ، ونتيجة لذلك تراجعت جوانب مهمة من الحضارة ، حيث يصر السياسيون الجدد على اجترار الماضي ومحاولة اعادة عقارب الساعة الى الوراء .مما ادى إلى نكوص التقدم العلمي والثقافي ،
في وقت ينشغل العالم في تعليم ابنائهم باعلى درجات العلوم والتكنولوجيا في مجالات الحياة كافة .
هكذا جرى العمل على تخريب العقل العربي وتعطيل مسارات التقدم بانماط مشوهة من المقدسات المزعومة والفتاوى الباطلة .
لعل من اهم مرتكزات تعطيل التقدم وتخريب القيم العليا هو افناء الطبقة المتوسطة من المجتمع التي كانت تحمي وتديم قيمه العليا وتحافظ على انجازاته الفكرية والاستثمار في التعليم والابتكار .
ومن هنا تأتي اهمية إصلاح وتجديد منظومتنا الاجتماعية والثقافية بما يتناسب مع روح العصر , فهذا الإصلاح والتجديد هو حجر الزاوية في اي محاولة للنهوض ، ومواكبة الوتيرة السريعة للتنمية العالمية.
ان التزام العالم العربي بهويته الثقافية له جذوره التاريخية العميقة. ويلعب التراث، على وجه الخصوص، دورًا مهما في تشكيل ثقافة وقيم العديد من المجتمعات العربية.
اننا لاننكر اهمية ذلك في حياة الشعوب، ولكن المبالغة في استذكار التاريخ ومحاولة انهاضه بادوات قديمة وبالية لهو التهافت بعينه .
ان الخروج من هذا المأزق لايتم الا عن طريق بناء الدولة المدنية العصرية على وفق اسس علمية رصينة تهدف الى مكافحة التجهيل والفكر الظلامي ، وتسير جنبا الى جنب مع النهوض الصناعي والاقتصادي .
كما اصبحت الضرورة حاسمة للموائمة بين الهوية الثقافية والتراث من جهة وبين التقدم العلمي والتواصل التكنولوجي من جهة اخرى لتجنب الركود المعرفي والانعزال الفكري السائد حاليا . والانطلاق نحو مستقبل أكثر إشراقا ، لنتجاوز مرحلة مظلمة هامشية في حياتنا سادت فيها اطروحات عقيمة عفا عنها الزمن . وغاب فيها العقل الرشيد والمنطق القويم .