لتلك الكلمات الأنيقة وقعها الكبير على مسامعي وأثرها الواضح في نفسي، لأنها ببساطة كانت أول أنشودة.. نعم لا ابالغ حينما أصفها (بالانشودة).. لانها أول قصة رددتها مع مطربها ياس خضر في طريق العودة من الحدود السورية بعد مغادرة قضاء سنجار محملًا بالأمل ومخططات التحول الاقتصادي الجديد في مشوار الحياة.. فبعد أشهر على تخرجي من الدراسة الجامعية وأكثر من عام على مرحلة النزوح وترك الديار بسبب الحرب الطائفية التي كانت مستمرة في حينها، قفزت فرصة العمل امامي وكانت حبل النجاة لانقاذنا من ايام صعبة ومريرة، فوجدت نفسي بعيدا عن الاهل.. ولكن بجيب منتعش ورصيد مناسب يساعدنا على هضم ايام الخوف.
فبعد نحو شهر على (الغربتين).. الابتعاد عن المدينة التي ولدت فيها.. والاسرة التي اجبرت على النزوح، كانت اول اجازة من العمل الجديد، فتحركت السيارة التي تقلنا باتجاه العاصمة بغداد في طريق لا يخلو من المخاطر لانك ببساطة لا تعلم متى يظهر امامك عناصر تنظيم القاعدة او جهات مسلحة لا تعرف انتمائها كانت تنشط في تلك السنة وتحديدا العام 2007.. فالمناطق التي سنتجاوزها من غرب مدينة الموصل المحاذية لحدودنا مع الجارة سوريا كانت تصنف ضمن المناطق الخطرة.. وبينما نحن منشغلون بالمخاطر الامنية واذا بالسائق يفاجئنا بتدوير مسجلة السيارة لينطلق صوت الارض باغنية.
(وداعاً ياحزن) فبدأت الكلمات والصوت الشجي ينساب لأرواحنا حتى اجبرنا على الصمت والاستماع بجميع جوارحنا.. فوجدت نفسي وبدون “وعي” اردد كلماتها مع مطربها ابو مازن وعلامات الفرح ترتسم على ملامحي.. (صبرنا وعوض الله.. علينا شما صبرنا).. واحسست وقتها بانني المقصود بتلك المعاني وكأن الفنان القادم من النجف لاسرة دينية قبل عشرات السنين اختار ابلاغي برسالة المرحلة الجديدة بطريقته الخاصة.
ورغم مرور نحو 16 عاما.. مازلت في كل مرة استمع للاغنية ولحنها باطراف اصابع الراحل طالب القره غولي، اتذكر تلك الايام وحجم السعادة عند سماعها لاول مرة… حتى تحولت لعلامة فارقة بين مراحل وسنين العمر وصفحة عنوانها… “كفايه تلومنه الناس على حزن الاغاني”، وقد تكون هناك العشرات من القصص المشابهة التي ترتبط نهايتها او بدايتها بالمشاعر التي غناها ياس خضر.. منذ ايام البنفسج التي احدثت “ضجة” في غرف النظام السابق حتى وصلت الاوامر بمنع بثها او تداولها… لمجرد ارتباط كلماتها بالشاعر مظفر النواب وليست لانها “سياسية” فهي بعيدة جدا عن السياسة ومشاكل الانظمة والحكومات، والجواب لا يحتاج لنقاش وتعمق كبير.. لان مطربها اختار البقاء في خانة الفن وبتلك الهيئة الانيقة التي عرفتها الاجيال منذ السبعينيات ببدلة “مرتبة” وربطة عنق لا تفارقه حتى في جولاته بعيدا عن الاستوديوهات واماكن التصوير قبل استبدالها بالزي العربي (الدشداشة والعقال)… لكن صورته لم تتغير فالمهابة ذاتها بالعقال او ببدالة رسمية.
اتذكر في نهاية التسعينيات حينما كنت طالبا في المرحلة المتوسطة شاهدت ياس خضر وجها لوجه ببدلة رصاصية اللون تجبرك على الاعجاب بهندامه، واستمعت لحديثه من دون اجهزة صوت وطريقته بالتبضع من احدى الاسواق الشعبية في منطقة السيدية وهي المرة الوحيدة و”اليتيمة” التي لم استطع توثيقها بالصورة، لغياب اجهزة الموبايل التي اصبحت في وقتنا اسرع وسيلة للاحتفاظ بالذكريات.. لكن قصتي مع ابو مازن لم تتوقف.. ففي احدى السنوات وخلال التجوال بشارع الحمرا في عاصمة باريس الشرق بيروت استوقفني سائق سيارة امريكية الصنع من مسافة عدة امتار وسألني انت عراقي.. وحينما اجبت بهز راسي.. رفع صوت مسجل السيارة باغنية “تايبين” وهو يصرخ استمع لاحلى صوت وغادر مناديا باسم ياس خضر.
رحل ابو مازن بعد تاريخ كبير من العطاء واضافات لا يمكن تغييبها عن التراث الفني، وغادر في رحلة ابدية لن يعود بعدها للمگير لتوديع احبته، او ينتظر الطواري القادمة من الظلمة في سولة سكتي، فثيابه اصبحت غربة، ومحبيه لن يترقبوا وصول “الريل وحمد” بعد ارتفاع صوت “على المامش علمتني”.. لتكون هذا حدنا مفتاح الخسارة في فراقك بعد ان شحنت نفوسنا بكلمات.. وداعاً ياحزن.