يذكرنا التاريخ بتواجد فرنسا في القارة الإفريقية منذ قرون مضت، عندما احتلت فرنسا عددا من الدول الأفريقية في عام 1624. وفي القرن السابع عشر وصلت مساحة المستعمرات الفرنسية في القارة السمراء قرابة 3.5 مليون كيلو متر مربع، ثم احتلال فرنسا للجزائر. بالتالي استطاعت فرنسا أن تفرض هيمنتها على قارة أفريقيا بأسلوب التدخل المباشر والغير مباشر في رسم معالم ونماذج الحكم في القارة الإفريقية. حيث تمتلك القارة السمراء مميزات هامة على الصعيد الاقتصادي، فنجد أنها خزان استراتيجي للثروات الطبيعية، فهي تعد عبر التاريخ ممرا هاما للسلع وشريانا تجاريا واقتصاديا بالغ الأهمية، كما أن وجود كميات هائلة من النفط والغاز الإفريقي على السواحل سهل من عملية استثمار هذه الموارد من قبل الدول الكبرى وخاصة فرنسا.
من شارل ديغول إلى ماكرون جدلية التناقض بين الخطاب والممارسة للسياسة الفرنسية اتجاه إفريقيا:
منذ عهد الرئيس الفرنسي شارل ديغول قامت العلاقات الفرنسية مع القادة الأفارقة على المحسوبية والعلاقات الشخصية، حيث دعمت فرنسا الأنظمة الصديقة بغض النظر عما إذا كانت تلك الأنظمة والحكومات ديمقراطية أم لا. بيد أن كل من استلم السلطة في فرنسا بعد ديغول فإنه ينتقد سلفه في سياسته اتجاه أفريقيا، ومع ذلك فإن الجميع موقفهم تجاه القارة الإفريقية لم يكن مختلفا بشكل كبير عن توجهات ديغول، ألا وهو تثبيت وتكريس المصالح الفرنسية في دول القارة بعيدا عن تحقيق حياة كريمة وعادلة للشعوب الإفريقية.
الجدير بالذكر أن كل الرؤساء الفرنسيين قدموا وعودا كاذبة بشأن تغيير السياسة الفرنسية اتجاه أفريقيا وتحديدا بعد الحرب الباردة، والابتعاد عن الممارسات الاستعمارية، وإنهاء العلاقات الخاصة القائمة على الفساد والمحسوبية، والممارسة الفعلية لتلك السياسة.
الأهمية الجيوستراتيجية والجيوبولتيكية للقارة الإفريقية:
تعد القارة الإفريقية من أهم القارات في العالم، من حيث الموقع الجيوستراتيجي الذي يتوسط العالم، فهي تمثل حلقة وصل طبيعية بين قاراته، كما أنها تستحوذ على ثروات طبيعية كبيرة، مما حولها لأغلى خزان استراتيجي عالمي للطاقة والموارد الأولية، بالإضافة إلى مساحتها الكبيرة واستحواذها على أهم الممرات البحرية في العالم، والتي تعد شريان اقتصاديا وتجاريا ودوليا.
وبناء على ذلك نجد أن القارة الإفريقية تمتلك مقومات ومميزات جعلتها فريسة لا طماع الدول الكبرى وتكالب الاستعمار عليها، ومصدرا للتنافس على ثرواتها، نظرا لعوامل عدة منها الإرث الاستعماري وهيمنة الدول الكبرى وضعف أنظمتها السياسية، وتبعيتها للغرب، وانتهاجها لسياسة الخنوع والاستسلام حفاظا على السلطة، والصراعات الإثنية والعرقية مما عمل على كثرة الحروب الأهلية وانتشار الجهل.
محددات السياسة الخارجية الفرنسية تجاه القارة الأفريقية بعد الانقلابات العسكرية الأخيرة؟
بلا شك فرنسا لن تتخلى عن مشروعها السياسي والاقتصادي في القارة الأفريقية، وكون أن هذه المشاريع تختلف وتحقيقها يتطلب مراحل وأجندات لكل مرحلة بتفاصيل سيناريوهات مسبقة يتم تنفيذها أو تمثيلها على أرض الواقع.
قطعا لا توجد مشاكل بين الشعوب الأفريقية، في الوقت نفسه ترفض هذه الشعوب تدجينها لتكون عبيد حيال إلوهية العِرق الفرنسي في وطنها. من هنا فإن الشعوب الأفريقية لا تطالب بالمستحيل وليس لأحد حق في مصادرة إرادتها، لكنها السياسة، تلك الممارسة التي لا تنفك عن التلاعب في مقدرات الأمم ولا تنفك عن التحايل وخلق جميع المشاكل، سياسة الاستعمار الفرنسي، ربما لأن نزعة الاستبداد غريزة لدى هذا الاستعمار الذي احتل الجزائر132 عاما، وإن القارة الأفريقية مكتوب عليها هذا الاستعمار الغاشم. ثم يستمر الاستعمار وبأساليب مختلفة ضمن سلسلة تاريخيّة وبطريقة كهنوتيّة تعجن دماء الكثير من الشعوب الأفريقية. بالتالي كانت سرقة خيرات هذه البلدان، والحروب الأهلية والجهل والأمراض أبرز انعكاسات هذا الاستعمار الغاشم لمن يدرس تعقيدها التاريخي ولا ترقى لأبعد من ذلك.
في السياق ذاته أن اغلب الحكومات في القارة الأفريقية باستثناء الدول العربية هي صنيعة فرنسا ووفق مشروع يسمح لفرنسا بالتوسع الجغرافي على حساب وجود مكونات أخرى ويثير القلق الدائم والأزمات، بمعنى أن هذه الحكومات تعمل بما يخدم أهداف القوى الاستعمارية الفرنسية التي خططت له وتدعم وجوده. وما تزال فرنسا هذا الكيان المغتصب يعيش ازدواجية، كونها وكما تدعي دولة ديمقراطية ليبرالية أو دولة استعمارية تهيمن على مقدرات الشعوب الأفريقية. هذه الازدواجية لا تقتصر فقط على فرنسا وإنما تشمل غالبية الدول التوسعية والاستيطانية، والتي أسست لأنظمة وحكومات في دول القارة الأفريقية، أنظمة هجينة سياسيا متناقضة فقيرة التجربة ومضطربة تتقلب في داخلها منذ تأسيسها من قبل الاستعمار. ربما أن الفرنسيين لن يخرجوا من أفريقيا رغم سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها سابقا وفي الوقت الحاضر، وما رافقها من خدع الاستقلال الذي رتبته الحكومات الفرنسية بتجنيد وكلائها من الحكام اللذين يجيدون تمثيل أدوار البطولات العنترية، تلك الأدوار المخزية التي نفذوا خلالها مسلسلات من السياسات المرسومة تفاصيلها بدقة وقائعها والنتائج المطلوبة منها ضمن إستراتيجية بعيدة المدى لا تزال أفريقيا تشهد كوارث ما ترتب عنها.
إن الحقيقة التي تشهر نفسها كالبدر في تمامه هي أكذوبة استقلال دول القارة الأفريقية. من هذه الحقيقة سنفهم بأن مجمل محددات السياسة الخارجية الفرنسية تجاه القارة السمراء تدخل في حيز ترويض الشعوب الأفريقية وتسخيرها وفق إستراتيجية غربية طويلة الأمد تهدف الى تحقيق نظام أفريقي يكون مركزه في قصر الإليزيه.
وتأسيسا لما تقدم، بعد التغيير في النيجر والغابون على فرنسا أن تعي بأن مستقبلها السياسي في أفريقيا سيكون محكوما بأنظمة وحكومات تملك إرادة مستقلة في كل شيء، وليس تلك الأنظمة التي تعمل وفق الأجندة الفرنسية بحدود ما يُسمح لها ضمن مساحة تُتيح للحكومات أن تخدع شعوبها. فلو استعرضنا سجال صفحات الأنظمة في القارة الأفريقية، سنكتشف أن أغلب الحكام الأفارقة على علاقة وطيدة بقيادات فرنسية حتى من قبل اعلان هذه الدول استقلالها، باستثناء الأنظمة العربية.
وفيما يخص سيناريوهات مستقبل العلاقات الفرنسية الأفريقية، يجب على أصحاب القرار في فرنسا ألا يستغفلون المجتمعات الأفريقية ولا يقحمون الشعوب الأفريقية في سخرية العداء والمواجهة معها، وأن يبادرون مستقبلا في إقامة علاقات مع دول القارة السمراء قائمة على احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول القارة، على أن يكون هذا بشكل علني واضح للعالم وبالتحديد للجماهير الأفريقية.
إن المكر السيئ يحيق بماكرون الماكر وبالسياسات الخاطئة لفرنسا، تلك السياسات التي تعقبها كوارث، لا شيء يستقر بدون توازن ولا يمكن تحقيق السلام إلا من خلال العدل.
بقلم: أستاذ الفكر السياسي
الدكتور: أنمار نزار الدروبي
نائب رئيس تحرير صحيفة العروبة اليوم