التطبير من الظواهر التي طرأت على الشعائر الحسينية في القرن الماضي والتي تعددت الآراء في مسألة أصولها ما بين المسيحية والهندية وكذلك كيفية دخولها وحشرها ضمن الشعائر الحسينية.
الا ان المتيقن أنها لا تمت إلى الشعائر الحسينية بصلة سواء على مستوى العقائدي او التاريخي أو الفقهي وحتى على صعيد وجود أي صلة لها بالشعائر وفلسفتها الأخلاقية..
الكثير من علماء التشيع المصلحين وقف بوجه هذه الظاهرة وحرم ممارستها والأعم الاغلب من الفقهاء التقليدين حرموها بالعنوان الثانوي بدون التصريح بتلك الحرمة وانما اشترط جواز ممارستها بشرطين مانعين والواقع ان تحققهما مما لا شك ولا لبس فيه وهما عدم ايذاء الجسد وعدم توهين المذهب .
اما من اجاز التطبير صراحة او اعتبره من المستحبات من العلماء فلا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ، وهم أنفسهم الذين اباحوا أيضا المشي على الجمر واستخدام السكاكين الحادة لجلد الظهر وغيرها من الظواهر الدخيلة على الدين والتي تشوه صورة الاسلام عموما والتشيع خصوصاً لما تشهده من مناظر دموية وضرر على جسم الانسان بدون بيان الدليل الشرعي والعقلي المقنع على جوازها .
التوجيه بترك التطبير
المرجع اليعقوبي في جواب على استفتاء قدم له وجه مقلديه ومن يستمع إلى نصائحه بترك المشاركة بالتطبير وكان توجيه سماحته بالنص (أما بالنسبة للتطبير وضرب الظهور بالآلات الحادة والمشي على الجمر ونحوها، فقد وجّهنا أتباعنا ومن يأخذ برأينا إلى تركه ) وهي فتوى صريحة بمنع التطبير .
والمرجع من خلال اطلاعه على سيرة من سبقه من العلماء المصلحين كان على علم بما سوف تتعرض له مرجعيته من تحديات كبيرة وخطيرة نتيجة إصداره هذه الفتوى الشجاعة ، وأخطر تلك التحديات هي الحملات التسقيطية والتحريضية التي لا حدود لها ، ومع ذلك قرر سماحته التصدي لهذه الظاهرة ، لتبدأ بعد ذلك مدافع الحرب التي شنت عليه شخصيا إلى حد الطعن بمرجعيته وعدالته وحتى عقيدته من قبل لوبي الشعائر الطقوسي بما يمتلكه من أدوات ووسائل ناعمة ومؤثرة فتوائية ومنبرية ومؤسساتية.
وقبل الدخول في تفاصيل استفتاء المرجع اليعقوبي بخصوص التطبير يجدر الاشارة إلى جملة من الحقائق لتوضيح بعض الملابسات وبيان هشاشة وهزالة استدلالات مؤيدي التطبير والمروجين له ..
التطبير رؤية شرعية وتاريخية
فعلى صعيد المناقشة الفقهية للتطبير فلقد اتضح أن أكثر الفقهاء اشترط عدم الاضرار بالجسد واذيته ، وهتك وتهوين المذهب لجواز ممارسة أي شعيرة في إجاباتهم على مشروعية التطبير، وهذا ما اشار إليه سماحة المرجع اليعقوبي في جوابه عندما اوضح الحكم الشرعي وأدلته في مقدمة استفتائه (لا يجوز في الشريعة القيام بكل عمل غير عقلائي أو فيه ضرر على النفس أو يوجب إهانةً للدين ولمدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) .
ولا يوجد أدنى شك لدى أهل الاختصاص الفقهي فضلا عن غيرهم من الواعين بتحقق الشرطين في مسألة التطبير وبالتالي دخوله في المحظور والحرمة بالعنوان الثانوي ، فضرب الرأس بالسكاكين والآلات الحادة الأخرى لا يمكن الا ان يؤدي الى الاضرار بالجسد ، وقد يصل حد ضرره الى الوفاة كما حصل للكثير من المطبرين اما بسبب نزف الدماء او بسبب تضرر الدماغ وغيره ، واما من جهة توهين الإسلام والمذهب فلقد بلغ السيل الزبى بأن لم يسلم من مقصلة التطبير حتى الطفل الرضيع ، بل أن بعض النساء أخذت تطبر وسط الرجال في وضح النهار وهذا من أوضح المخالفات الشرعية من جهة الاختلاط وغيره ، كل هذا والعالم اجمع يشاهد هذه الصور الوحشية تنقل عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي فأي هتك وتوهين للإسلام أكثر من ذلك ؟
اما على صعيد مناقشة التطبير من جهة الدليل الشرعي ، فلا يوجد أي دليل لدى رعاة التطبير على شرعيته أو على جواز ممارسته في اطار الشعائر في حياة المعصومين وإنما اعتمدوا على رواية تاريخية موضوعة كدليل على جواز التطبير تفيد بأن السيدة زينب ( عليها السلام) ضربت رأسها بمقدمة المحمل أثناء دخولها الكوفة ورؤيتها رأس الأمام على الرمح .
والجدير بالتأمل انه بعد الالتفات الى مصادر هذه الرواية نجد أنها ذكرت بالمصادر المتقدمة الا في مصدرين أحدهما (بحار الأنوار) الذي أخذ من ( منتخب الطريحي) والذي ذكر الرواية مرسلة أي بدون سند معتبر لها وإنما نقلها عن استاذ وعبر عنها بنقلها من كتب معتبرة ، اما الراوي (مسلم الجصاص ) فهو شخصية مشبوهة ومجهولة في نفس الوقت بحيث انه لم ينقل عنه أي رواية اخرى سوى رواية (نطح الرأس) في كل كتب الحديث عن الفريقين ، بالإضافة الى ان سياق الرواية يصفه بالموالي للأمويين وأنه يعمل أجيراً عند ابن زياد لترميم قصره أثناء دخول موكب السبايا إلى الكوفة .
أما كتاب (منتخب الطريحي) والمنسوب للشيخ فخر الدين الطريحي فهو عبارة عن كتب (روزخون) لذكر مصائب أهل البيت (عليهم السلام) ، ولم تثبت صحة نسبة الكتاب للعلامة الطريحي عند الكثير من العلماء كالشيخ عباس القمي صاحب كتاب مفاتيح الجنان وغيرهم ، فضلا عن الاختلاف الكبير في موضوعاته نتيجة الطباعة المتكررة للكتاب وعدم التحقيق فيه من قبل اهل الاختصاص .
وأما على صعيد مناقشة رواية ضرب الرأس بالمحمل من الناحية العقائدية فإن الاستدلال بها فيه تجني واساءة كبيرة من حيث يعلمون أو لا يعلمون الى شخصية العقيلة زينب (ع) ، التي وقفت برباطة جأش وثبات في كربلاء على جسد الأمام الحسين (ع) المقطع أشلاء و محزوز الرأس وهي توجه ابصارها بين اخيها والسماء وتقول بصلابة وصبر (اللهم تقبل منا هذا القربان) ، والتزمت بوصية الامام الحسين (عليه السلام) لها (يا أخية! إني أقسم عليك فأبري قسمي، لا تشقي علي جيبا، ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت) ، وواجهت بعد ذلك طاغيتي بني امية الارهابي ابن زياد والمتهتك يزيد في الكوفة والشام وهزمتهم شر هزيمة بمنطقها العلوي الفاطمي ، ويكفي في بيان جلالة وجلادة هذه السيد الجليلة منطقها المفعم بالإيمان والوعي والبصيرة وهي تخاطب ابن زياد الذي حاول استفزازها وإظهار الشماتة بقتل الامام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه (عليهم السلام) : ( ما رأيتُ إلّا جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتختصمون عنده، فانظر لمن الفلجُ يومئذٍ، ثكلتك أمّك يابن مرجانة (!!.
فأي خدمة يقدمها رعاة ومشرعين التطبير من حيث يعلمون أو لا يعلمون لأعداء أهل البيت (ع) من خلال تشويههم لجلالة سيدة الشموخ زينب (ع) واظهارها بهذا المنظر البائس الجازع الذي لا يليق بصلابة وإباء سيدة العفاف التي حافظت على وصية أخيها الإمام الحسين (ع) بأن لا تظهر أي شكل من الجزع والاسى الذي لا يناسب مقامها بعد شهادته .
ولذلك يؤكد المرجع اليعقوبي ضرورة ووجوب المراجعة الشرعية للفقيه من قبل المؤمنين في الأحكام والمسائل الشرعية لبيان الحكم الشريعة منها وعدم التسرع في الانجرار خلف كل من هب ودب من العمائم او الرواديد والشعراء لأخذ معالم الدين منهم ، لأن التشيع قائم في زمن غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) على الرجوع الى نواب الإمام بالنيابة العامة من الفقهاء العاملين المخلصين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ( نأمل من جميع إخواننا أن لا يصدر منهم قول أو فعل إلا بعد مراجعة ولاة أمورهم ومراجعهم من أهل البصيرة في أمور الدين والدنيا، فهم الذين يقدّرون الفعل المناسب في الظرف المناسب) .
الشعائر الأصيلة والدخيلة
أن اخطر ما يواجه الشعائر الحسينية ليس ما تتعرض له من طعن واستخفاف وتشكيك من قبل بعض الطائفيين او العلمانيين وغيرهم من الذين يعانون عقد شخصية من التشيع عموما ، بل ان الخطر الاكبر هو في الشعائر الدخيلة التي تتكاثر يوما بعد يوما وسط سكوت مطبق من القيادات الدينية ، بينما يتم إهمال الشعائر الحسينية الأصيلة التي ورثناها من أئمتنا الطاهرين (عليهم السلام) والتي طالما أوصوا شيعتهم بإحيائها ، لكن مع الاسف ان تيار التمرد على الشعائر الاصيلة قوي على صعيد النفوذ والمادة والاعلام ، وبدأ يزحف الى شعائرنا بشكل خطير يستدعي وقفات من كل المراجع الدينية وليس وقفة من مرجعية واحدة لإيقاف زحفه ، ولذلك يذكر سماحة المرجع في بيانه المؤمنين ومحيي الشعائر الحسينية بالفرق بين الشعائر الاصلية والدخيلة وضرورة الالتفات الى ما تشكله من تشويه لمفهوم الشعائر والقضية الحسينية هموما ويبين سماحته ذلك بالقول ( الشعائر الاصيلة (لقد ورثنا عن أئمتنا المعصومين (سلام الله عليهم) طرقاً لإحياء الشعائر الحسينية وتجديد ذكرى عاشوراء، بإقامة مجالس العزاء ونظم الشعر الواعي في رثائهم، واللطم على الصدور )، ثم يوضح سماحته ان الشعائر الدخيلة لو كان فيها نفع الاسلام والمذهب لما سبق اليها اهل البيت (عليهم السلام) أحد ولكانوا من الدعاة اليها والمبادرين بها ( وليس منها التطبير وأمثاله، كضرب الظهور بالآلات الحادة والمشي على النار ونحوها ، فإنها تسربت إلينا من أمم أخرى ، وقد رأينا في التقارير المصورة مسيحيين يقومون بذلك ويصلبون أجسادهم على الأعواد ويدمون ظهورهم، فلسان حال أئمتنا (عليهم السلام) (لو كان خيراً لما سبقونا إليه) ) .
الأحياء المطلوب للشعائر
ان المطلوب من الحريصين والغيورين على النهضة والشعائر الحسينية الارتقاء الى مستوى الواقع والتحديات التي تواجه الإسلام عموما والتشييع خصوصا ، والالتفات الى عناصر القوة الناعمة في المذهب واهمها الشعائر الحسينية والمنبر الحسيني والعمل على تطويرهما والاهتمام بهما ليكونا المدخل الى بيان عالمية القضية الحسينية وليس العكس ، فالإعلام أهم وسائل ونشر النهضة الحسينية وأدوات تلك النهضة اعلاميا هي المنبر والشعائر الحسينية ، وبالتالي يجب ان نكون أكثر حرصا على تصدير المشاهد والفعاليات بصورة ايجابية ومؤثرة في الآخر كما يحصل في الزيارة الاربعينية المباركة والتي تحضى بمتابعة اعلامية عالمية مميزة وثقت المسيرة المليونية لزوار الامام الحسين (عليه السلام) ومواكب خدمة الزائرين وما تشهده من مواقف وتفاني وخدمات شعبية تطوعية مجانية تعجز عن مجاراتها و القيام بها الدول الكبرى ، ويبين المرجع اليعقوبي في بيانه عن معالم الاحياء المطلوب في الشعائر الحسينية بالحث والعمل على (تجسيد المبادئ والقيم التي تحرَكَ الإمام الحسين (عليه السلام) لإقامتها، وأن يكون تعبيرهم عن إحياء النهضة الحسينية حضارياً ؛ لأن العالم أصبح كالقرية الواحدة وقد أُمرنا بأن نخاطب الناس على قدر عقولهم، وهذا الأمر فيه إطلاق شامل للأقوال والأفعال، أي أن لا تكون أفعالنا فوق تحمّلِهم خصوصاً تطبير النساء والأطفال ، وشامل لكل الناس أي للمسلمين وغيرهم ).
المواساة الحقيقية للإمام الحسين عليه السلام
ويؤكد المرجع اليعقوبي على ماهية المواساة الحقيقية التي يجب تقديمها تجاه القضية الحسينية والمتمثلة بالإصلاح على كافة المستويات ، والسعي لإحياء فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كانت وسيلة الاصلاح الاساسية في النهضة الحسينية ( وإنما خرج الإمام الحسين (عليه السلام) طلباً للإصلاح في أمة جده (صلى الله عليه وآله وسلم) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أراد مواساته بصدق فليعمل على تحقيق أهدافه المباركة ) .
كما يحث سماحته شيعة اهل البيت على الالتفات الى المصاديق الحقيقية والموازين العملية لتحقق معنى الطاعة للائمة المعصومين الهداة (عليهم السلام) ، ولأن يلتفتوا ان التفاني في النصرة والدعوة لهم لا تكون الا بالسير على خطاهم واتباع وصاياهم ، وان تكون الاعمال والتصرفات والسلوكيات هي عنصر الجذب للآخر من خلال اعطاء الصورة الناصعة عن التشيع ومذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) لنكون لهم زينا ولا نكون عليهم شينا (وان يكونوا كما أرادَ لهم الأمام الصادق (عليه السلام) (دعاة صامتين) جاذبين لولاية أهل البيت (عليه السلام) وليسوا طاردين أو منفّرين والعياذ بالله )
احمد البديري