22 نوفمبر، 2024 6:41 م
Search
Close this search box.

علي الوردي وعلي شريعتي

علي الوردي وعلي شريعتي

ومنهجيات إعادة تشكيل الوعي الشيعي المعاصر
يتشابه الدكتور علي الوردي والدكتور علي شريعتي في توصيفهما المعرفي ومنهجهما ومنطقة اشتغالهما، لكنهما يختلفان اختلافاً جوهرياً في الدوافع والأهداف، فقد كانا مفكرين اجتماعيين ايديولوجيين، وليسا عالمي اجتماع، وكلاهما استخدم منهجيات علم الاجتماع الغربي، وكلاهما استخدم الاسلوب الانتقائي للحالات الاجتماعية الدينية الخاصة، فيعممانها ويطلقان عليها توصيف الظاهرة الاجتماعية الدينية، وكلاهما اشتغل على منطقة الوعي الشيعي الاجتماعي الديني.
لكن؛ جهود الوردي انطلقت من دوافع فكرية ايديولوجية علمانية، تقوم على قاعدة نزع ثقة الشيعة بنظامهم الاجتماعي الديني، وبث الفكر الاجتماعي العلماني بديلاً، أي أنه كان يهدف من وراء اشتغاله على منطقة الوعي الشيعي الاجتماعي الديني، الى حرف هذا الوعي باتجاه لاديني، زعماً منه بأن سبب تخلف الوعي الاجتماعي الشيعي يعود الى كونه وعي ديني، وان هذا الوعي هو عبارة عن شوائب، ما يجعل علي الوردي أحد مؤسسي منهجية ((تشكيل الوعي الشيعي المعاصر المضاد للذات))، والتي تحدثت عنها تفصيلاً في دراساتي عن موضوع الهوية.
هذه المنهجية العلمانية (الوردية) المخاصمة، ساهمت في دفع جزء كبير من شيعة العراق نحو الدونية وعدم الثقة بالنفس وبالهوية وبالنظام الاجتماعي الديني الشيعي. فهو في إطارها يستخدم أسلوب القياس الناقص للواقع الاجتماعي في تقويم الظواهر الاجتماعية الدينية، وليس منهج الاستقراء، ليقنع القارئ بطريقة ملتوية مزيفة باستنتاجاته العامة المبنية على حالات خاصة، وهو خطأ فاحش حتى في معايير علم الاجتماع الغربي، لأن الظاهرة كالعادة الاجتماعية، تستند الى معايير الاطراد والشمول، وهو ما لا يتوافر في الحالات الاجتماعية الدينية المنتقاة التي يستخدمها الوردي في تحليله الاجتماعي، وهدفه من وراء ذلك تشويه صورة الواقع الديني، كمقدمة لدفع النخبة نحو بديله العلماني، وهو بذلك يبث أفكاره المخاصمة بذريعة البحث العلمي. وربما لا يوجد مفكر اجتماعي شيعي منحاز ضد هويته الدينية الاجتماعية كالدكتور علي الوردي. وبالتالي؛ فإن المشكلة مع الوردي مشكلة شاملة، لا تقتصر على سوء المنهج، بل سوء الدوافع والأهداف.
بينما انطلق شريعتي في جهوده الفكرية من دوافع ايديولوجية دينية، تقوم على قاعدة تنقية الوعي الاجتماعي الديني من الشوائب، وتركيز التشيع الأصيل (وفق توصيفه) أو الدين الحقيقي (الذي يعدّه التوصيف المطابق للتشيع الأصيل) في هذا الوعي، وبلورة النهضة الاجتماعية على أساس الدين، خياراً حصرياً، وليس الفكر العلماني أو الماركسي أو السلطاني، أي أنّ اشتغالات شريعتي كانت في إطار الإصلاح الديني والاستنهاض الاجتماعي الديني، وليس تخريب الدين أو استعارة عامل للنهوض، بديل عن الدين.
وبالتالي؛ فإن المشكلة مع شريعتي ليست مشكلة شاملة، ولا تتصل بالدوافع والأهداف، وإنما تقتصر على الوسائل والأساليب، وتحديداً ما يتعلق بمنهجية الإصلاح الديني ونوعية الخطاب الديني النهضوي، وتشخيص الشوائب وتوصيفها وأسبابها وأساليب علاجها، وما إذا كانت شوائب فعلاً، وبالأخص إذا كان تشخيصها بحاجة الى تخصصات فقهية ورجالية وحديثية وتاريخية دقيقة، وهي تخصصات خاض فيها شريعتي بشكل عشوائي دون أن يكون لديه تخصصاً فيها، فضلاً عن هَوَسه بالمنهج اللوثري البروتستانتي في إصلاح التشيع ومؤسسته الدينية ومجتمعه. ولذلك؛ فهو في المقدار الذي فشل فيه فشلاً ذريعاً وأخطأ أخطاء فاحشة في مجال الاصلاح الديني المؤسسي والعلمي التخصصي؛ فإنه نجح نجاحاً باهراً في تركيز الوعي الاجتماعي الديني النهضوي والهوية الشيعية العصرية لدى فئات واسعة من الشباب، حتى غير المتدينين.
والمفارقة؛ إن بعض الفقهاء المجددين عارضوا المفكرَين معاً، ومنهم السيد مرتضى العسكري، الذي كتب ضد الدكتور الوردي وناهضه، كما كتب ضد الدكتور شريعتي وحاربه، حتى بسلاح الاستفتاء، رغم أن العسكري يُصنف أيضاً على تيار الإصلاح والتجديد الديني والحراك الإسلامي التغييري، وكذا الأمر بالنسبة للشيخ مرتضى المطهري، الذي أدرك فيما بعد، أخطاء بعض منهجيات شريعتي وأساليبه ووسائله في الحراك الاستنهاضي، وخطورتها على أصالة الهوية الاجتماعية الدينية، رغم أنه كان ابتداء وراء التعريف بشريعتي في أوساط النخبة الدينية الشيعية. أي أن التيار الديني الإصلاحي التجديدي، انخرط هو الآخر في جبهة المعارضين للوردي وشريعتي، ليس تأسياً بالتيار الديني التقليدي وإرضاء له، بل لاستشعاره خطورة التجديد الديني من خارج دائرة التخصص المتمثلة بالمؤسسة الدينية العلمية الشيعية، وبمناهج غير دينية، وهو ما يهدد حراك الإصلاح والتجديد الديني نفسه، قبل أن يهدد التيار الديني التقليدي أو الانعزالي أو المتحالف مع سلطة المال وسلطة السياسة.
وظلّ خطاب المعارضة للوردي وشريعتي متبايناً بين التيارين الإصلاحي والتقليدي؛ فقد اتسم خطاب التيار الديني الإصلاحي بالاعتدال، وركّز على كشف أخطاء شريعتي والوردي، وتحديد مجالات انحرافهما في المنهج والوسائل والأفكار والاستنتاجات، والتحذير من خطورتها، دون أن يصادر كل أفكار الرجلين ويلغي إنجازاتهما بالمطلق، بينما لجأ التيار الديني التقليدي – غالباً – الى الاستهداف الشخصي المعبّر عنه بخطاب التكفير والتفسيق والاتهام بالتسنن واعتناق العقيدة الوهابية، إضافة الى محاولات تحريك عوام المتدينين.
وفي النتيجة؛ فإن المقارنة بين المفكرين الوردي وشريعتي، تكشف عن نتائج مهمة لمصلحة شريعتي، وجهوده التأصيلية للهوية الدينية الشيعية النهضوية، وتكريس الدين في وعي النهضة، وإن أخطأ في كثير من الأساليب والوسائل التي أثارت عليه سخط أصحاب الاختصاص من فقهاء ومفكرين. وفي المقابل، يقف الوردي في مركزية الجهود الرامية لتفكيك الهوية الدينية الشيعية، ونزع الدين من عوامل النهوض الاجتماعي.
وعدم صلاحية المنهجين المذكورين، في بديلهما وهدفهما أحياناً، ومرتكزاتهما وأساليبهما أخرى؛ تقودنا الى المنهجية الصحيحة لإعادة تشكيل الوعي الشيعي المعاصر، في أساليبها ووسائلها وأهدافها. هذه المنهجية تنظر في الوقت نفسه الى تركيز الهوية الشيعية الأصيلة والعصرية الواحدة في عملية إعادة تشكيل الوعي، وتضع النهضة الشاملة هدفاً، والخطاب الاستنهاضي الأصيل والعصري والواقعي وسيلةً وأسلوباً، ويستند هذا الخطاب الى عناصر العقيدة والشريعة، والتراكم التاريخي، واستحضار عناصر القوة الإثني عشر، التي سبق أن فصّلناها في كتاب “الاجتماع الديني الشيعي، وتشخيص تحديات الحاضر ومعالجاتها، بما فيها وحدة الساحات والمسارات، ومركزية قيادة الحراك والمؤسسة الدينية، وثقافة انتزاع الحقوق، والسلطة الحازمة، والسياسة المرنة، والردع والإعداد للقوة، الى جانب عنصر استشراف متطلبات المستقبل.

أحدث المقالات