19 سبتمبر، 2024 10:39 م
Search
Close this search box.

قراءة رواية “المنكوح”.. رواية الأزمات الثلاثة

قراءة رواية “المنكوح”.. رواية الأزمات الثلاثة

كتب: عثمان خاطر

جوبا / جنوب السودان

قراءة هذه الرواية للكاتبة اللبنانية نسرين النقوزي تتطلب مني استحضار قراءة للأديب الكبير ميلان كونديرا لرواية ” السائرون نياماً ” في كتابه فن الرواية ص 66 إذ يقول: “يجب أن نقرأ بانتباه وببطء (رواية السائرون نياماً) وأن نتوقف عند الأفعال اللا منطقية والتي يمكن ومع ذلك فهمها لنرى النظام الباطني والتحتي التي تتأسس عليه قرارات أشخاص (سوف أتجاوز ذكر أسماء الرواية)، هذه الشخصيات غير قادرة على مواجهة الواقع كشيء عياني.  إذ أن كل شيء يتحول أمام عيونهم إلى رموز، وعندما يحسبون أنهم يؤثرون على الواقع، فإنهم إنما يستجيبون في الحقيقة إلى الرموز”.

هذه المقولة تنطبق بالحرف الواحد على شخصيات رواية المنكوح التي أحاول قراءتها وفحصها عن قرب.

– ففي بادئ الأمر تضعنا الرواية أمام أهم ثلاثية خطيرة من الأزمات المجتمعية، ولمواجهة هذه الأزمات تحتاج منا الغوص أعمق وبشكل دقيق، وهذا يعيدنا إلى “كتاب سيكولوجية الإنسان المقهور” د/ مصطفى حجازي. إذ أن الكائن الإنساني الذي يقطن بلدان العالم الثالث متخلف بالفطرة، كأنما محكوم بالشتات. بالنظر الى ما بداخل الرواية من تفاصيل مثيرة للتساؤلات والاستشارات تجعلني أسمي المنكوح برواية الأزمات الثلاثة التي تجسدت في؛  أزمة المثقف، وأزمة المجتمع، وأزمة السلطة . وكل واحدة من هذه الأبعاد الثلاثة تضعنا في وضع معقد تفكيكه يعني الولوج إلى نفسية الأنا الغائبة في جوهرها الموضوعي، مثل التنقيب عن شيء لا وجود له في وجودية وجوده. الرواية هي دائما تبحث عن المعنى، معنى الحياة، الموت، ومعنى الأشياء بوجه عام، والخريطة المتبعة لديها توجه العالم الغير محسوس بما هو عليه في صناديق الواقع.

الصياغة هنا تعيدنا إلى أصل القراءة الأدبية.  فكل قراءة أدبية ونقدية هي التحليل اللغوي، ينطوي على دراسة متعمقة في الادعاءات المطروحة. وبطريقة أخرى القراءة النقدية هي قراءة مجردة، إذ أنها لا تدخل السياق الذوق الشخصي، أو التوهم على إنها تحاول أن تكون مادة شخصية، بل إنها الحقيقة التي لا يراها أغلب القُراء في الرواية، فضلاً بحثها عن المتعة، السرد، اللغة، التاريخ، الزمكان، السياق، المفهوم، الأفكار، وتحليل الكلمات حتى يتسنى فك طلاسمها وألغازها المخفية، أو المستورة بقناع داكن، والهدف الأساسي من القراءة النقدية هي محاولة فهم الرواية على وجه الخصوص وتوخي الوضوح وتحسين المقروئية وفحص شخوصها فحصاً دقيقياً لمواكبة الواقع التي تسرد الرواية. وهي تبدو مثل محاكمة منصفة لكلا الطرفين (الكاتب/ة والنص).

– رواية المنكوح من نوعية الأدب الساخر، وتكمن سخريتها في بعديها الثقافي والسلطوي ( مصحوبة بتضاد الأنا والهو والآخر) . وتجسدت فيها سؤال الهوية المميتة، كمفهوم سردي ذات طابع تخيلي/ واقعي، ويتزن عندها الكم العبثي من الهموم الإنسانية والطبيعية في تجليات جمالية لإبقاء حظوظ الأسئلة من الحياة، على رغم من التنامي الغيبي في سلالم الأبعاد الموضوعية في الرواية، ولإيجاد ظاهرة الأنا التي برزت جلياً في السرد كانت “الأنا ” المتناقضة والغير محتملة على وجُوديتها، وبما أن السرد يحمل أجزاء كبيرة عن ما هو مقصود بصورة أكثر واقعية إلا إنه في جوهره الزمني تخرج عن السياق العام إذ تتخندق معه في ذاتٍ غير الأنا العليا والآخر.

وهذا التناقض تجسدها شخصية “حسان” الذي يشعر انه ليس هو كذاتٍ بذاته الحالي، يخفي حقيقته لنفسه. الرواية في اعتقادي استطاعت بشكل أو بآخر توصيل الغاية الأسمى، في نبش الخلل المجتمعي، والهدف العظيم في الرواية إنها حاولت بقدر الإمكان أن تقول ما لا يمكن قوله بلسان مباشر، وهذه هي الغاية الأهم من الكِتابة.

جاءت الرواية بعدد 104 صفحة، من ذات القطع الصغير، مكثفة لغوياً، بأسلوب شاعري ساخر، كأنما تود الاعتراف بشيء لم يسبق أن تطرق إليه أحد، مظهراً الأزمات المجتمعية الكثيرة، وبصورة أدق تناولت ثلاثة أزمات جوهرية، ( أزمة المثقف، والمجتمع و السلطة ” الهوية”) وهذه الثلاثية التي تعيق تطور العالم الثالث هي مجموع الذاكرة التاريخية العقيمة، حاولت الكاتبة تبرير الكثير من القبح المستعار في أغلفة الوجوه المستعارة، والغوص في هذه البحور تعمق الخيال لأبعد الحدود، كلما صعبت الوصول إلى الغاية، سهلت المضي قدما نحو الحقيقة .

– لفهم هذه الرواية بشكل دقيق سنكون بحاجة لبلورة جديدة لذاكرة المجتمع، وعقل والضمير الإنساني الجمعي، إذ أن تحليل اللغوي التي تجسدت هنا تتشابك موضوعياً وفكرياً، بتناولها أكثر من موضوع واحد على لسان واحد، وفي مثل هذه الحالة نحتاج لتحليل سيكولوجية البطل المأزومة ثقافياً واجتماعياً، والبُعد الغير المرئي الذي يتناوله الكلب، يعطي النص القيمة السحرية في مواصلة سخريتها الكامنة لدى النفوس، هذا التناقض الساخر جعل من الرواية ممتعة وعميقة لأسباب كثيرة، إحداها الظاهرة الكلبية في تناول القضايا ذات العلاقة بالإنسان، إذ أن غياب صوت البشر يعني ضمنياً موتهم الحقيقي في الواقع، والبعد الثاني في صعوبة فهم شخصية البطل على حقيقته الخفية، إذ أننا لا نعرف خلفيته، وطفولته، ( إذا استثنينا وصف صديقه له، شكله الرجولي، سماره، لحيته المشعة، عيناه الصغيرتان الرماديتان).

أما نحن القراء نعرفه أنه إنسان عانى من مجتمعه، من خلال أفكاره وأحلامه، (الأسلوب شبيه بأسلوب كافكا في رواية المحاكمة في رسم شخصية ك)، كما أننا نجد تناول الكاتبة أكثر من أسلوب واحد، وأكثر من فكرة وقضية. ونلاحظ شخصيات الرواية تعيش في عالم مختلف، متجاوزة زمنها اللحظي، كائنات غريبة، مهمشة وخارجة عن الوَهم الحياتي، حياة فقيرة، عبثية، ومعدومة، العالم الذي تم تصويره في العمل يبدو مثل العيادة النفسية كل شيء فيها تنتظر تحليله. تجسدت أزمة المثقف في بطل الرواية (مجيد) كأنما وجد نفسه بالصدفة أمام الواقع العصيب المخنوق بالحقد والاعتلاء الثقافي، ومعه تأخذ الحياة بُعد آخر أكثر واقعية عما عليه واقعياً.

مشكلة المثقف في العالم الثالث أنه يعيش مغترب وسط مجتمعه، يقتله الاستنفار الأيديولوجي، وينتج عن ذلك إنسان خارج عن المألوف يعاني التحوٌل الأناني والتوق إلى قبض الذات الحالم،  وهذا الفارق الكبير بينه وبين مجتمعه يخلق نظام يأخذ طابع تدميري أكثر من كونه أداة لفهم واستيعاب هذا الخليط الثقافي والديني المعتق في ذاكرة المجتمع، و لنفهم ما يدور في عقل مجيد، فإننا بحاجة لنفهم أزمة الهوية المصاحبة لحياتنا والتي تعيق الجميع في المضي قدماً، وهذا يقودنا إلى تقديم نقد ثانوي للمجتمع ذي الصلة في الجيل إنتاج جيل متوهم بالتاريخ يقوده الاعتقاد بإعلاء الأنا وهدم الآخر (أزمة قبول الآخر) وجعله يتماهى ويختفي وسط القطيع.

وهذه العقلية تتوفر في جدلية العروبة والاستعراب، عندما نقف لحظة لنفهم ما يريد مجيد قوله في هذا المضمار يقودنا إلى إدراك الضعف والدونية والحقد في نفسية مجيد تجاه العروبة كقضية إقصائية وسارقة هويات المجتمعات بل جعلها تتماهى في ثقافتها، “أن سبب كرهي للعرب ليس من أجل النساء هم طمسوا حضارتنا و نشروا سمومهم فيها وجعلوا العربية سادس أركان الإسلام ” صفحة 14″ أنا أومن بالإنسانية فحسب، هل أزعجتك عندما أسأت إلى العرب؟ ص 15.

هذا الحوار يكشف لنا ما تعانيها الثقافات التي طمستْ هويتها بفِعل ثقافات أخرى، كما يعري النفس البشرية التي ظلت تبحث عن تغيير وضعها الدوني، جدلية التمركز والتهميش حول التاريخ والثقافة. وأخيرا تأتي أزمة السلطة التي تلعب دور مميت في العلاقة الجدلية بين الثقافات والحضارات وغياب العدالة الاجتماعية، كل هذه المحاور تناولتها الرواية بأسلوب ساخر وغريب، في وسط البؤس والألم والموت والمعاناة، المجتمعات المتخلفة تعيش في خندق واسع ملئ بالفوضى والكآبة.

والشخصية الرئيسية في خلق الحياة الإنسانية فيها يتملٌكه الإحساس بالضعف واليأس، ليتحول الوتيرة إلى الحيوانات، وهذا الأسلوب في إعطاء الحيوانات حق التحدث بلسان البشر تعد واحدة من الأسلوب الفريد في هدم نفسيات الإنسان المتناقضة في ذاته، والسخرية هنا تعطي انتباه بأن الحياة الإنسانية شيء لا فائدة منها إذا رأيناها كما هي في واقعها التجلي المرسوم مسبقاً بذاكرة التاريخ، والإنسان كائن غريب يكمن غرابته في أنه لا يستطيع تبرير أفعال عقله المريضة. والمبرر هنا وجودي غيبي يعري حقيقته المعينة في هذا الفضاء السردي.

تجري الأحداث في الجزائر مع ظهور بعض المحطات المكانية كقضايا مجتمعية. نفهم من خلال قراءتنا الرواية:

١_ إن هناك مشكلة اجتماعية (الأزمات الثلاثة).

٢ _ صعوبة حياة المثقف في حقل مليء بالقطيع الفكري والمعرفي.

٣_ أهمية خلق مجتمع معافى من الحقد والكراهية والعنصرية والطائفية والظلم وقضايا الهوية والوجودية.

٤ _ العالم الثالث مليء بالتناقض والفوضى ويكثر بداخله المنكوبين.

٥_ ذاكرة المجتمع تحتاج لفحص جديد ونقد بناء لاستيعاب هذا التطور والحياة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة