20 سبتمبر، 2024 9:37 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (88): “المعرفة” أفقدت الإنسان  طهارته الذهنية والأخلاقية

قصة الحضارة (88): “المعرفة” أفقدت الإنسان  طهارته الذهنية والأخلاقية

خاص: قراءة- سماح عادل

يكمل الكتاب الحديث عن فلسفة “لو- دزه”، وكيف أنه كان يفضل العيش وفق قوانين الطبيعة، معتبرا أن التمدن والحضارة هما اللذان أصابا حياة الإنسان بالعطب”. وذلك في الحلقة الثمانية والثمانين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

المعرفة..

يكمل الكتاب الحديث عن فلسفة “لو- دزه”: “ويقول لو إن طبيعة قد جعلت حياة الناس في الأيام الخالية بسيطة آمنة، فكان العالم كله هنيئا سعيدا. ثم حصل الناس “المعرفة” فعقدوا الحياة بالمخترعات وخسروا كل طهارتهم الذهنية والخلقية، وانتقلوا من الحقول إلى المدن، وشرعوا يؤلفون الكتب، فنشأ من ذلك كل ما أصاب الناس من شقاء، وجرت من أجل ذلك دموع الفلاسفة. فالعاقل ادن من يبتعد عن هذا التعقيد الحضري وهذا التيه المفسد الموهن تيه القوانين والحضارة، ويختفي بين أحضان الطبيعة، بعيدا عن المدن والكتب، والموظفين المرتشين، والمصلحين المغترين.

وسر الحكمة كلها وسر القناعة الهادئة، وهي وحدها التي يجد فيها الإنسان السعادة الأبدية، هو الطاعة العمياء لقوانين الطبيعة، ونبذ جميع أساليب الخداع وأفانين العقل، وقبول جميع أوامر الطبيعة الصادرة من الغرائز، والشعور في ثقة واطمئنان، والجري على سنن الطبيعة الصامتة وتقليدها في تواضع.

ولعلنا لا نجد في الأدب كله فقرة أكثر انطباقا على العقل والحكمة من الفقرة الآتية:

أن كل ما في الطبيعة من أشياء تعمل وهي صامتة، وهي توجد وليس في حوزتها شيء، تؤدي واجبها دون أن تكون لها مطالب، وكل الأشياء على السواء تعمل عملها ثم تراها تسكن وتخمد، واذا ما ترعرعت وازدهرت عاد كل منها إلى أصله، وعودة الأشياء إلى أصولها معناها راحتها وأداؤها ما قدر لها أن تؤديه. وعودتها هذه قانون أزلي، ومعرفة هذا القانون هي الحكمة”.

الخمود..

وتتواصل فلسفة “لو- دزه”: “والخمود الذي هو نوع من التعطل الفلسفي وامتناع عن التدخل في سير الأشياء الطبيعي وهو ما يمتاز به الحكيم في جميع مناحي الحياة، فإذا كانت الدولة مضطربة مختلة النظام فخير ما يفعل بها ألا يحاول الإنسان إصلاح أمورها، بل أن يجعل حياته نفسها أداء منظما لواجبه، وإذا ما لاقى الإنسان مقاومة فأحكم السبل ألا يكافح أو يقاتل أو يحارب بل أن يتروى في سكون، وأن يكسب ما يريد أن يكسبه، إذا كان لا بد من الكسب، بالخضوع والصبر؛ ذلك أن المرء ينال من النصر بالسكون أكثر مما يناله بالعمل، وفي هذا يحدثنا لو- دزه حديثا لا يكاد يختلف في لهجته عن حديث المسيح!

“إذا لم تقاتل الناس فإن أحدا على ظهر الأرض لن يستطيع أن يقاتلك. قابل الإساءة بالإحسان. أنا خير للأخيار، وخير أيضا لغير الأخيار؛ وبذلك يصير الناس جميعا أخيارا؛ وأنا مخلص للمخلصين، ومخلص أيضا لغير المخلصين وبذلك يصير الناس جميعا مخلصين. وألين الأشياء في العالم تصدم أصلبها وتتغلب عليها. وليس في العالم شيء ألين أو أضعف من الماء، ولكن لا شيء أقوى من الماء في مغالبة الأشياء الصلبة القوية”.

الرجل الحكيم..

وعن رأيه في الرجل الحكيم يضيف الكتاب: “وتبلغ هذه الآراء غايتها في الصورة التي يتخيلها “لو” للرجل الحكيم. وقبل أن نرسم للقارئ هذه الصورة نقول إن من أخص خصائص المفكرين الصينيين أنهم لا يتحدثون عن القديسين بل يتحدثون عن الحكماء، وأنهم لا يتحدثون عن الصلاح بقدر ما يتحدثون عن الحكمة. فليس الرجل المثالي في نظر الصينيين هو التقي العابد، بل هو صاحب العقل الناضج الهادئ، الذي يعيش عيشة البساطة والسكون وإن كان خليقا بأن يشغل مكانا ساميا في العالم.

ذلك أن السكون هو بداية الحكمة، والحكيم لا يتكلم حتى على الدو والحكمة، لأن الحكمة لا تنقل إلا بالقدوة والتجربة لا بالألفاظ؛ والذي يعرف الطريقة لا يتحدث عنها؛ والذي يتحدث عنها لا يعرفها؛ والذي يعرفها يقفل فاه ويسد أبواب خياشيمه، والحكيم شيمته التواضع، لأن الإنسان متى بلغ الخمسين من عمره فقد آن له أن يدرك أن المعرفة شيء نسبي، وأن الحكمة شيء ضعيف سهل العطب؛ وإذا عرف الحكيم أكثر مما يعرف غيره من الناس حاول أن يخفي ما يعرفه “فهو يحاول أن يقلل من سناه ولألائه ويوائم بين سناه وقتام غيره؛ وهو يتفق مع السذج أكثر مما يتفق مع العلماء، ولا يألم من غريزة المعارضة التي هي غريزة طبيعية في الأحداث المبتدئين. وهو لا يعبأ بالثروة أو السلطان، بل يخضع شهواته إلى الحد الأدنى الذي يكاد يتفق مع العقيدة البوذية:

“ليس لشيء عندي قيمة، وأشتهي أن يخضع قلبي خضوعا تاما، وأن يفرغ حتى لا يبقى فيه شيء قط. يجب أن يبلغ الفراغ أقصى درجاته، وأن يحاط السكون بقوة لا تمل. ومن كانت هذه صفاته لا يمكن أن يعامل بجفاء أو في غير كلفة. وهو أكبر من أن يتأثر بالمكاسب أو الأذى وبالنبل أو الانحطاط وهو أنبل إنسان تحت قبة السماء”.

ويقدم مؤلفا الكتاب رأيهما في فلسفة “لو- دزه”: “على أن في هذه الفلسفة رغم هذا كله شيئا من السلوى وراحة البال. وأكبر ظننا أننا نحن أيضا حين تبدأ نيران عواطفنا في الخمود سنرى فيها غير قليل من الحكمة؛ وسنرى فيها السلم المريح الذي ينبعث من الجبال غير المزدحمة ومن الحقول الرحبة. إن الحياة تتأرجح بين فلتير وروسو، وبين كنفوشيوس ولو- دزه، وبين سقراط والمسيح.

وإذا ما استقرت كل فكرة زمنا ما في عقولنا، ودافعنا عنها دفاعا ليس فيه شيء من البسالة أو من الحكمة، مللنا نحن أيضا تلك المعركة وتركنا إلى الشباب ما كان قد تجمع لدينا من مثل عليا تناقص عديدها. فاذا ما حدث هذا لجأنا إلى الغابات مع جان جاك ومع لو- دزه وأمثالهما؛ وصادقنا الحيوان؛ وتحدثنا ونحن أكبر رضا واطمئنانا من مكيفلي إلى عقول الزراع السذج، وتركنا العالم ينضح بالشرور، ولم نفكر قط في إصلاحه. ولعلنا وقتئذ نحرق وراءنا كل كتاب فيه إلا كتابا واحدا، ولعلنا نجد خلاصة الحكمة كلها في الدو- دي- جنج”.

“كنفوشيوس” و”لو- دزه”..

وعن فلسلفة “كنفوشيوس” و”لو- دزه” يتابع الكتاب: “وفي وسعنا أن نتصور ما كان لهذه الفلسفة في نفس كنفوشيوس من أثر مؤلم محنق. فقد جاء هذا الفيلسوف في سن الرابعة والثلاثين، وهي السن التي لا يكتمل فيها نضوج الذهن، إلى لويانج حاضرة جو ليستشير المعلم الكبير في بعض أمور دقيقة ذات صلة بالتاريخ ويقال أن لو- دزه أجابه إجابة فظة غامضة قصيرة:

“إن الذين تسأل عنهم قد استحالوا هم وعظامهم ترابا، ولم يبق إلا ألفاظهم، وإذا ما حانت ساعة الرجل العظيم قام من فوره وتولى القيادة، أما قبل أن تحين هذه الساعة فإن العقبات تقام في سبيل كل ما يحاوله. ولقد سمعت أن التاجر الموفق يحرص على إخفاء ثروته، ويعمل عمل من لا يملك شيئا من حطام الدنيا، وأن الرجل العظيم بسيط في أخلاقه ومظهره رغم ما يقوم به من جلائل الأعمال، فتخلص من كبريائك ومطامعك الكثيرة، وتصنعك وآمالك المفرطة البعيدة. إن هذه كلها لا ترفع قط من أخلاقك. وهذا ما أشير به عليك”.

ويقول المؤرخ الصيني الذي يروي هذه القصة أن كونفوشيوس أحسّ من فوره بسداد هذه النصيحة، ولم ير في هذه الألفاظ ما يسيء إليه، بل أنه رأى فيها عكس هذا، وقال لتلاميذه بعد أن عاد من عند الفيلسوف المحتضر:

“إني أعرف كيف يطير الطير، ويسبح السمك، ويجري الحيوان؛ ولكن الذي يجري على الأرض يمكن اقتناصه، والذي يسبح في الماء يمكن صيده، والذي يطير في الجو يمكن إصابته بالسهام. غير أن هناك تنينا مهولا، ولست أستطيع أن أقول كيف يركب الريح ويخترق به السحاب ويعلو في أجواز الفضاء. لقد قابلت اليوم لو- دزه، ولست أستطيع أن أجد له مثيلا غير التنين”. ثم خرج المعلم الجديد ليؤدي رسالته، وليكون أعظم فلاسفة التاريخ أثرا”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة