لا اعرفه من قبل ولم التقي به نهائيا ولكن من باب المصادفة وانا اخرج من احد دوائر الدولة لكي اعود الى منزلي أَشرت بيدي الى سائق التكسي وعند توقفه اتفقت معه ان يوصلني الى المنطقة التي اسكن فيها كانت سيارته متواضعة رجل كبير بانت ملامح الوقار على وجهه… ملامحه تدل على انه كان في يوم من الايام احد وجهاء قومه ولكن الزمان قد اخذ منه كل شيء لم تكن صحته الشخصية متعافية بالمعنى الحقيقي لأنني شاهدت انياب الدهر قد بان آثارها وعرفت احزانه من عينيه سكت قليلا ثم قلت له وبدون اي تردد.. الله كريم.. فقال نعم الله كريم. ولكنه قالها ومعها اهات وحسرات سالته ما هو السبب فقال لا اريد ان ازعجك بموضوع لا ناقة لك به ولا جمل وانت مجرد عابر سبيل سوف تبقى معي بعض الدقائق وتغادر هذه السيارة وتصل عائلتك بسلامة ان شاء الله.. ولكنني اصريت ان يحكي لي قصته ومن باب الفضول لا اكثر وما اكثرنا نحن اصحاب الفضول الزائد الذين خلقنا الله حتى نعرف كل شيء عن الاشخاص الذين نتعارف عليهم… قال لي انا ابن هذه المدينة منذ ولادتي وآبائي واجدادي جميعهم من اهالي هذه المدينة وانا حفيد لأحد الاشخاص المعروفين في هذه المدينة وقد ورث ابي عن والده عدة املاك التي انتقلت فيما بعد لي ولإخواني واخواتي الموجودين على قيد الحياه وما ان دقت ساعه الحرب في هذه المدينة حتى خسرنا كل ما نملكه نتيجة القصف العشوائي فالعمارة التي نملكها قد هدمت بأكملها ويا ليتنا بقينا على الجانب المادي ولكن صدق يا اخي العزيز كنا مجتمعين اكثر من مئة شخص بين طفل وامرأة ورجل وكلنا ابناء جد واحد فجاءت صواريخ عشوائية فضربت المكان الذي كنا نسكن فيه لحظات ولم اسمع اي صراخ او ارى اي شيء لم ارى الا طفله صغيره تستنجد بي وسط الركام ودخان القنابل فأنقذتها ولم اشعر بنفسي ثم سقطت صريعاً على الارض ولم أشعر الا وانا داخل احد المستشفيات التي تقع في اطراف مدينة الموصل وعندما فتحت عيوني بعد الغيبوبة سألت الممرضين الموجودين اين انا وكيف وصلت الى هنا فشرحوا لي بأن سيارة اسعاف اوصلتنا الى هنا وان اشخاص من المنطقة التي كنا نتواجد بها قد انقذونا ولم يصل معي الا طفلة صغيرة وانهم يجهلون حتى اسمائنا وعندما سألتهم هل يوجد ناجون آخرون قالوا لي لانعرف شيء عن الموضوع… وقاموا بجلب الطفلة التي انقذتها وعندما نظرت اليها لم اميزها جيدا وبعد ان تماثلت للشفاء عرفت انها حفيدتي ابنة بنتي الكبرى وابوها هو ابن اخي وبعدها طلبت منهم اي يتصلوا بأحد ابنائي والذي احفظ رقم هاتفه لكن الخط كان دوماً مغلق وبدأت تراودني الشكوك بانني بقيت وحيدا في هذه الحياة الدنيا والا مرت ايام على وصولي المستشفى ولم يسأل عني احد ومن باب المصادفة كان بقربي شخص مصاب واصابته خفيفة جداً وعندما عرفته بنفسي قلت له قصتي وقمت بالطلب منه بالبحث عن عائلتي ووصفت له المنطقة التي تمت اصابتنا فيها… ذهب ورجع لي بعد يومين وانا اعيش مع الكوابيس ومع جراحي التي سببتها الشظايا التي انتشرت في اغلب مناطق الجسم..وكانت اخباره غير سارة جدا وابلغني ان الجيران قالوا له بان الجميع قد استشهدوا ولم ينجوا الا رجل وطفلة فتجددت الاحزان في قلبي عندما تأكدت بانني فقدت كل عائلتي وعائلة اهلي وكل ابناء عمومتي ولم يبقى سوى هذه الطفلة الصغيرة بعدها تم نقلي من هذه المستشفى الى مستشفى آخر يقع في مدينة اربيل وقبل صعودي بسيارة الاسعاف قال لي احد الممرضين ان بيته قريب من المستشفى وطلب ان تبقى الطفلة امانة عندهم لأنها بحاجة الى رعاية خاصة وان عائلته سوف يقومون بخدمتها اسوة بأبنائهم فتركتها عندهم وفي المستشفى الجديد اجريت لي عدة عمليات جراحية ولكن لشدة الاصابة أصبح لدي عوق في جسمي.. تماثلت للشفاء واخرجوني من المستشفى وأمنوا لي سيارة وعلى حساب احد المنظمات الانسانية ورجعت الى مدينة الموصل وعدت الى منزلي ولم اجد احد فيه لأننا قد تركناه وتوجهنا الى الساحل الايمن قبل الحرب وهناك حدث ما حدث.. وبعد عودتي ذهبت لاسترد الطفلة وفعلا وجدتها عند عائلة الشخص الذي اخذها معه وقد احسنوا معاملتها وقاموا بواجبها وكأنها ابنتهم…..
اخذتها معي وبقيت لا اعرف اين اذهب بها ومن سوف يقدم لي ولها الخدمة في البيت فاعتمدت على نفسي رغم اصابتي وتكفلت بذلك وبمساعدة الجيران الطيبين اعانوني على تربيتها وبعد ثلاث سنوات تقريبا اصيبت بفايروس كارونا عندما انتشر في كل دول العالم.. ويا حسرتاه فقد فارقت الحياة في المستشفى ومنعوني من رؤيتها وحتى دفنها لانهم من قاموا بذلك… بقيت وحيدا اندب حظي العاثر وانا ارى قساوة الزمان معي فعائلتي جميعهم قد رحلوا بدون وداع وبسرعة فاحتسبت امري لله وقد عرض لي الكثير من الاصدقاء موضوع الزواج ولكن قلبي الميت لا يصلح لهذه الامور فانا مازلت اعيش ذكريات عائلتي وكل ما اتمناه اللحاق بهم فنزلت دموعه بغزارة وقال كان لي ابناء بررة وقبل القصف بدقائق جاءني صغيرهم وهو طالب في احد كليات الطب وقال لي كلمات لم افهمها في حينها وكأنه يعلم بأن الاجل قريب وربما جاءني مودعاً عندما قال ((يا أبي ارجوك ان تكون من الصابرين اذا اصيب احدنا بسوء ثم اكملها الان يا ابي عرفت انه لا قيمة للشهادات والالقاب والمال مع الخوف والرعب من المجهول))
ثم ذهب وبعدها بدقائق تم قصف المنزل الذي كنا نسكنه…. وانا الان اعمل في هذه السيارة التي اشتريتها قبل مدة لمجرد قضاء الوقت انتظر موعد اللقاء مع من احبهم.. والعمارة التي اصبحت ارض قد بعتها وبنيت بمبلغها مسجد في احد المدن عن ارواح كل الشهداء الذين ذهبوا بذلك الحادث… وانا لدي راتب تقاعدي واعيش منه وعملي في السيارة لقضاء الوقت…
وهذه هي قصتي التي اصريت ان تعرفها فاستأذنته بكتابتها وقال لي انها كتبت في السماء قبل ان تكتب في الارض والامر متروك لك….