15 نوفمبر، 2024 5:33 م
Search
Close this search box.

أزمة المسرح أم أزمة المسرحيين ؟

أزمة المسرح أم أزمة المسرحيين ؟

خاص : بقلم – د. محسن الميرغني :

ربما يبدو الحديث عن المسرح المصري؛ في ظل ما يحدث في الآونة الأخيرة من تبدلات متلاحقة في الأوضاع السياسية وتحولات عاصفة في المواقف الاجتماعية والثقافية، جهدًا نظريًا خالصًا، فيما نُدرك أنه لا يمكن لمستقبل أن يتحقق بغير محاولة مراجعة الحاضر ومُسّاءلة الماضي بشكلٍ جاد ومسؤول، لكي يتم بناء المستقبل على ثوابت فاعلة وليس مجرد تكهنات واستشرافات بلاغية لقيّم مجردة، وبالتالي عندما نتكلم عن نشاط المسرح؛ بعد مرور قرابة المائتي عام على ظهوره في دولة مصر الحديثة، وانتشاره وازدهاره كأحد الأنشطة الفنية والمجتمعية المؤثرة، لا نسّعد بأحوال المسرح المصري الراهنة – مع بقية فروع الفنون المصرية الأخرى كالغناء والسينما -، لأنه ومنذ عقود طويلة تبدأ من نهايات ستينيات القرن العشرين – كان ولا يزال – عالم الفن المسرحي أو بالتحديد القطاع الأكبر منه، محكومًا من قبل قوانين ولوائح تضعها مؤسسة الثقافة الرسّمية ممثلة في وزارة الثقافة بقطاعاتها المختلفة من ثقافة جماهيرية إلى بيوت فنية لمختلف فنون الأداء المسرحي والثقافي، وهي المؤسسات التي تحمل العبء الأكبر – والوزر الأكبر أيضًا -، في تعطيل فن المسرح المصري، فالجميع الآن يعلم أن حركة المسرح المصري ليست بخير حالٍ وأنه وعلى مدار السنوات الماضية تم تفريغ حركة المسرح المصري من قدرتها على اجتذاب الجمهور إلى القاعات والمسارح المعروفة، اللهم إلا بضع عروض وفرق مسرحية – تُعد على أصابع اليد – نجحت بشكلٍ لا يُجسّد تيارًا ولا فكرًا مسرحيًا متواصلاً لإحياء المسرح من كبوته وعثراته المتراكمة منذ عقود طويلة، ومّن مِن يرى ويُعّاين بعض فرق مسارح الدولة المحدودة الإمكانات الفنية والمالية، ويرى كذلك حال المواطن المصري في الشارع المصري بمقدراته المالية والسياسية، هذا المواطن الذي يُمثل نواة الجمهور الشعبي لأي مسرح جماهيري متحقق، يُدرك كارثية الأزمة المسرحية المصرية، وصعوبة إيجاد حلول أو تصورات فنية مستقبلية للظاهرة المسرحية في مصر أو حتى إيجاد رؤى فكرية تُعالج العيوب وتُجّدد الخراب الواقع في الظاهرة المسرحية ككل دون حل المعضلات الأخرى السياسية والاقتصادية، فنحن منذ ستينيات القرن العشرين والمسرح المصري في أزمة. فقبل وفاته بفترة قصيرة كتب دكتور محمد مندور مقالاً بعنوان “أزمة المسرح ورسالته”، ناقش فيها بعد مطالعته لبحثيّن من أبحاث طلابه، قضية نقدية وصفها بالأزمة، هي قضية التأصيل لظهور الظاهرة المسرحية بشكلها الأوروبي الحديث في بيئتنا المصرية المحلية، وعرض فيها آراءه حول حقيقة أن المسرح فن مسّتورد، وصل مصر في القرن التاسع عشر مع مجيء الحملة الفرنسية، وأن وجود الظواهر الأدائية الشعبية الموروثة – التي عّرفها فيما بعد د. علي الراعي باسم “فنون الفرجة الشعبية” –  مثل عروض المحبظين وخيال الظل والأراجوز وصندوق الدنيا؛ ما هي إلا مجرد أشكال فنية للأداء أمام جمهور، لكنها بدائية ولم تحمل مفهومًا واضحًا لفن الدراما كما حملته الظاهرة المسرحية الأوروبية الوافدة، هذا هو محور الأزمة الذي طرحه مندور في مقالاته وناقشه ضمن مجموعة أخرى من المشاكل والقضايا النقدية المرتبطة بالمسرح في مقالات نُشرت فيما بعد في كتابه “في المسرح المصري المعاصر”؛ مثل: أزمة التأليف المسرحي، والمسرحية بين الترجمة والاقتباس والإعداد، ومشكلة الإعداد المسرحي، وطوفان مسرحة القصص، والصحافة.. وواجب الأمانه والاحترام نحو الجمهور.

والمُطّالع لعناوين هذه المقالات سيكتشف أننا وحتى يومنا هذا – وبعد ما يقرب من ستين عامًا – لازلنا نقف في مكاننا دون أن نتحرك للأمام خطوة، والأدهى والأمر من ذلك وربما المضحك، أنك ستجد للدكتور “لويس عوض” مقالاً تم نشره في الأهرام يوم الجمعة 16 كانون أول/ديسمبر 1966؛ وأُعيد نشره فيما بعد في كتاب “الثورة والأدب”، يُسّجل به شرحًا تفصيليًا موثقًا لملامح وسّمات الأزمة التي خلص إليها تقرير أعلنه دكتور ثروت عكاشه؛ وزير الثقافة المصري في 7 و8 كانون أول/ديسمبر من نفس العام 1966م.

وستجد أنه من أبرز ملامح الأزمة وقتها غلبة الكم الرديء على الكيف الجيد فيما يُقّدم من أعمال مسرحية، وتفاقم الخسائر المالية للمسارح نتيجة سوء الإدارة وتأخرها، وغياب الرؤية والتخطيط فيما يتعلق بكل مقومات العمل المسرحي بدءًا من العاملين بالمسارح من ممثلين وفنييّن وعمال وصولاً لسياسات الفّرق المسرحية وأهدافها غير المُنفذةِ بشكلٍ منهجي سليم، ثم أوضاع المسارح وأبنيتها وعددها وأماكنها، وانتهاءً بمناقشته لطبيعة دور الدولة في رعايتها لفن المسرح والمسرحيين، وحقيقة كونها غير قادرة على تفهم طبيعة هذا الدور، في ظل عدم وجود “سياسة ثقافية” تحمل رؤية ثقافية وفنية شاملة. يُكتب هذا الكلام ويُنشر في مرحلة كان المسرح فيها يعيش على حد تعبير معظم نقاد ومسرحيي تلك الفترة؛ فترة ازدهاره الكبرى، خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، فما بالنا اليوم ونحن نطالع الملفات الصحافية واحدًا تلو الآخر تتحدث عن نفس الأزمة/ الأزمات وتُعيّد الحديث فيها إلى درجة تصل بالقاريء المتابع والمهموم بالأمر حد الملل والاختناق مما يقوله المسرحيون والنقاد والجمهور عن ملامح تلك الأزمة التي لا تتوقف أو تنتهي.

والرأي في هذه المسألة أن الأزمة لا ترتبط بالمسرح كظاهرة بل بالمسرحيين ومن يحيطون بهم من مجموعات مصالح جماعات وأفراد، فالقضية الحقيقية التي لا يتم طرحها أو تناولها في غالبية الملفات المكرورة عن أزمة المسرح المصري، هي المصارحة بأن الأزمة أزمة مواطنين مسرحيين وليست أزمة مسرح، فالمسرح كظاهرة وحركة مستمرة لم تتوقف رغم كل الصعوبات والمعوقات طوال تلك العقود وهناك حركة مسرحية ممتدة في كافة ربوع مصر رغم تفاوت مستويات الجودة والإتقان فيما يتم تقديمه للناس، بسبب كبر حجم السكان وامتداد مواقع الجهاز الثقافي في مختلف محافظات مصر ما بين قصور وبيوت ثقافة وكليات وجامعات ومسارح تابعة لوزارة الثقافة بمختلف قطاعاتها، وهناك مسارح خاصة بدأت في تقديم أعمال قليلة لكنها لازالت تُحاول، والمؤسف في الأمر ليس هو تناقص العدد ولا الكم الكبير للأعمال والعاملين ولكن أبرز ملامح الأزمة تظهر وتتبدى في الكيف أو الطريقة التي يُقّدم بها المسرح ودرجة رداءته وتأخره في مجتمع يُمارّس المسرح قرابة القرنين من الزمان، وهي أزمة ناتجة عن صراعات بيروقراطية مزمنة ومتجذرة في طبيعة البنيان الإداري لوزارة الثقافة وبقية القطاعات المنتجة لعروض المسرح، بالإضافة لوجود رقابة أمنية لا فنية مستمرة ودائمة، تستهدف قمع وخنق المجال المسرحي العام لا مجرد ترويضه، بالنظر إلى طبيعة الراهن السياسي، كما أن هناك أموالٍ كبيرة يتم ضخها في المسارح، ولكنها لا تؤتي ثمارها في صورة أرباح ومدخولات لجهاز الدولة والعاملين من المسرحيين، ولنضرب مثلاً واحدًا لمؤسسة من أعرق مؤسسات المسرح المصري التابعة لجهاز الدولة الإداري وهي “البيت الفني للمسرح”؛ كبيان حالة لراهن الأزمة، فالبيت الفني للمسرح هو المؤسسة الأولى بين أجهزة الدولة المنوط بها إنتاج ورعاية وتنمية وتنشيط الفن المسرحي في كافة مناطق وربوع جمهورية مصر العربية، سنراه اليوم بناءً مكبلاً ومقيّدًا يسّعى غالبية موظفيه للحصول على مرتباتهم وإعاناتهم المالية الشهرية، دون أي مقابل ومردود حقيقي من العمل لقاء ما يتقاضونه من أجور، لكن التفكير في أهمية المؤسسة وقيمتها وأعداد العاملين بها من الموظفين (فنانين) وإداريين (غير الفنانين)، وكيف ينظرون لمكان عملهم وقيمته وأهميته ؟ يُفجر في وجهنا قنابل وألغام موقوتة، حول حقيقة هذا الكم المهول من الموظفين الإداريين الموجودين لأداء مهمات إدارية في مؤسسة فنية (بالأخص موظفي قطاعي الشؤون القانونية والمالية)، وبما يضعونه من إجراءات وتعطيلات بيروقراطية إدارية، تُعاند وتُعّطل حركة العمل في المسرح والذي غالبًا ما يحتاج قدرًا كبيرًا من المرونة والجاهزية والسرعة، هذا الكم الهائل من الموظفين همهم الأول والأخير هو الحصول على رواتبهم الشهرية وإضافاتها وحوافزها باسّتدامة واستمرار دون انقطاع، ولا يهمهم لا مسرح ولا ثقافة، ولا يُعنيّهم بالمرة  بأي شكلٍ من الأشكال أن يزدهر المسرح في مصر، أو خارج مصر، أو أن يتغير أي شيء من أساسه.

وبعيدًا عن أي كلام مجازي واستعارات فإن القائمين على إدارة مؤسسات الثقافة في مصر؛ وخصوصًا مؤسسات وهيئات وقطاعات المسرح تحديدًا، معظمهم من الفاسدين وغير جديرين بالعمل في مجال المسرح الذي يحتاج للحرية والصدق والنزاهة كقيّم محركة لصناعه، والنماذج كثيرة دون ذكر أشخاص وأسماء، فكم من مديري هيئات ومسارح لا يسّتحقون وجودهم في أماكنهم؛ ومع ذلك لازالوا قائمين على إدارة هذه الأماكن إلى الآن.

 

  • نشر المقال لأول مرة بالعدد الرابع من مجلة (التحالف) الحزبية، عدد آب/أغسطس 2023.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة