15 نوفمبر، 2024 5:46 م
Search
Close this search box.

كلب المعمل

كتبت نجوى المغربي

يجهز ابراهيم البجلاتي روايته” كلب المعمل” كمريض في طريقة لغرفة العمليات, تلكالرواية الصادمة للروائي الطبيب, يكشف بها جانبا من تدني خدمات المؤسسات العلاجية, ومنظومة الكبرياء في القطاع الصحي والبحث العلمي, وإنهيار نظرية الإجتهاد والتحصيل المعرفي, في مقابل حيثيات أخرى متناثرة أقلها الكفاءة والطموح, وسيدها المال والثراء , ومتناثرات من الهراء والعبث, وكل ماليس له بالطب والإنسانية ومهنة خدمة البشرية علاقة, (كلب المعمل) رواية للدكتور إبراهيم البجلاتي- أستاذ جراحة المسالك البولية السادسة في ترتيب مؤلفاته,(لا تعلق قدماه بالتفاصيل, ربما كنا جميعا من بنات آوى,إن هذا المريض مدرج على قوائم الدخول بالمركز- لكن بعد خمس سنوات, الكلاب ال عندنا دلوقت ضعيفة, ثم عاد عاصفة تصب غضبها على كل شىء بدءا من عبد الناصرالذي فتح باب التعليم لكل من هب ودب- فصار أبناء الفلاحيين والأجراء جراحيين يمسكون بالمشارط ويقطعون في لحم الناس بغباوة وجهل, أرسل لي قبلة سريعة في الهواء قبل أن يختفي في دورة المياة, إذن التدجين مرتبط بالغباء, كنت وما أزال مفزوعا ومندهشا( كلب المعمل له نظرة حزينة)- السابقة عبارات للكاتب – أجرى الدكتور ابراهيم البجلاتي دراسة مهمة في روايته, التي خرجنا منها مثقلين معه بالجراح, لم نك نعرف الإجابة على الكثير من الأسئلة , فقرب منا معرفتها, في شىء من الجدية المعلوماتية تاره, وهزل ساخر محبب تارة أخرى, فهو كلما توجه إلى وجهة أنار دربنا بالكثير, وفقهنا فيه, أدخلنا حجرة الجراحة, وحجرة المسئول المتكبر, ودروب كثيرة للغباء, شغلنا ببحثه, وأشفقنا عليه من غضبه وعصبيته ووقوفه مصلوبا في غرف العمليات, وأفاض علينا بالمشكلات والمنعطفات, وأحوال صمام الكلب عينة بحثه– وجهد أبي شنب جالب الكلاب ومروضها, صعدنا معه في انتظارحلول البرابرة لكفافيس, وهبطنا عند إشعال النار في الكتب, ولعلنا إلتقطنا معه أنفاسا على كنبة الأنتريه قاسم تفاعلاته المختلفة المشترك, ( أغلقت بوابة الزمن ورائي, واختفى الماضي تماما, وحسم جامع النصر بمآذنه العالية المشهد) , يكتب الروائي البجلاتي بمخزون ذاكرة واسعة– رواية عن الكلب الذي يستفزه, ويخاف منه, ويتوجع لألمه ويجري عليه بحثه, ويتململ من روائح مخرجاته, ويصف لعابه في أحوال ومناسبات عدة وعديدة ويطرطش علي مريلته الخضراء دمه, الكلب الذي أعتقد أنه يسقطه على تلميحات ورموز وغمزات كثيرة,  كلب المعمل الذي ينجح في إخراج مافي نفس مؤلفه الطبيب الشاعر الباحث المجتهد- من أوجاع وندب لا يمحوها التطهير ولا البتر, تربك الكلاب القارىء على مر الصفحات, والعربات والشوارع التي تحملها, حتى أصواتها لا ينجو المؤلف من هلع يصيبه حين يسمعها, حتى أنه لينقل شعوره المكتوب بصدق عال وحرفية شديدة للرائي- حين يقرأ, فيجري تعاطفه معه ورغبته الشديدة في أن يسبق السيدة أمه حين لفته ورائها إتقاء لشر وخطر الكلب البرتقالي الداكن اللون ذو البقع البيضاء القادم إليهم, ويخفيه, ولعلالإجادة  في توزيع الرمز والدلالات المختلفة عبر صفحات الرواية, كانت تنقلنا في غير ملل لمراحل الحكاية وتنوعات مصادرها, كل كتابات الأطباء الموجعة وجع يحولونه إلى سخرية, يكتبوه, وهم يرجون منك أن تسامحهم على عرض كل هذا الأسى عليك, ولسان حالهم لا يكف عن الإعتذار لك , في صور العرض المضحك حتى البكاء, والبجلاتي الرائق في كتاباته, السارد لأحداث ملونه, العارض لكلاب وبشر شتى, وشخصيات معجونة بواقعها- كثير منها لم يقدم لمجتمعه شىء, بل عقد أموره وجمد صيرورته , فإستحق أن يعضه كلب مسعور, ليفكك عقده, ويتهاوى صولجانه, كما تهاوى الإتحاد السوفيتي المهيب وتهلهل وصار رمادا( العمل),(كان أحدهم يتكلم بحماس عن الخطايا السوفيتية الكبرى بدءا بتصفية تروتسكي ودكتاتورية ستالين الغليظة), يستعرض الشاعر البجلاتي لشخصيات تصعد وتهبط معه في طريق سيره , يقابل الدكتور محمود الزيني  فيقول له وهو يجالسه في حجرة الكشف يتبادلا الرأي في حالات المرضى( إنه يجب علي أن أكلم الباشا مرة أخرى, واذا لم يستجب أكلمه مرة ثالثة ورابعة حتى يقتنع أنني مصرعلى الدكتوراة, ومن ثم يوافق.

كررت على مسامعه أن هذه الطريقة لا تناسبني فقال:

مادام كرامتك بتنقح عليك كده يبقى تحمد ربنا إنك أخدت الماجستير.

وهو المفروض الواحد عشان ياخد شهادة يخسر كرامته؟

لأطبعا مش لازم… بس فيه ناس دماغها كده, ومش حتقدر تغيرها… يبقى تتنازل شوية ياسيدي عشان مصلحتك وإلا المركب مش حتمشي.

وأنا كمان دماغي كدا ومش هاغيرها إنشالله تغرق.

يااااااه… أنا عارف إن دماغك ناشفة بس ماكنتش أعرف إنها ناشفة قوى كده.

الموضوع مش كرامة بتنقح ولا دماغ ناشفة يادكتورمحمود.

أمال؟

دي حقوق.

اذا كان كده يبقى الباشا مش غلطان … من حقك تطلب ومن حقه يرفض.

والقواعد ؟

القواعد دي هو اللي بيحطها… إذا لعبتها بطريقته أهلا وسهلا … وإذا نشفت دماغكوحبيت تلعبها بطريقة تانية يبقى تروح تلعب بعيد أحسن… وهو مش خسران حاجة.

وأنا منسحب من اللعبة دي كلها.

يعيش الكاتب حالاته بين الهزيمة والإنتصار, لم يقصد أن يكون خصما لمنظومة, هي من أوصدت الأبواب في وجه أمثاله ليظل على أريكة المتفرجيين(وليظل بناة المجد وحدهم), تصاحب شجرة الأكاسيا المؤلف ربما لكونها ومواقفه مقدسان, والمؤكد أنها وسيجارته تحتضنه من حالة تعاسة, فتضمد بعض خدوش حول جراحه الكبرى, يعرج الدكتور البجلاتي على ملفات كثيرة, يعرض بعضها في سطور, ويشرح أخرى بإستفاضة, في غير سطوة على هندام الرواية, فهو لا يشغل القارىء إلا بالنافع( وزعمت أن الكلاب كالخنثى الذي لا هو ذكر ولا أنثى, أو كالخصي الذي لما قطع منه مايصير به الذكر فحلا, خرج من حد كمال الذكر, ولم يكمل لأن يصير أنثى, للغريزة الأصلية وبقية الجوهرية,وزعمت أنه يصير كالنبيذ الذي يفسده إفراط الحر, فيخرج به إلى حد الخل) ماقاله الجاحظ عن الكلب ويشغل بال المؤلف, كما يشغله مصرانه ودموعه ووضعية تثبيته على سريرالأشعة مصلوبا, وصعوده السلالم مساقا إلى ماينتظره, مختلط الدم باللعاب, تمكن البجلاتي من أدواته فعرض الآليات العلمية والطرائق الطبية والمصطلحات الخاصة سواء التنفيذية أثناء العمل وصلب الكلب على الطاولة ( ك حقن الصبغة ورشق القسطرة, وحبيبات الباريوم, والمثانة البديلة من الأمعاء وإرتجاع البول إلى أعلى , وعمل الصمامات الجديدة وتركيب قساطر تفريغ البول و….…) عرض ذلك بتقنية أدبية مبسطة لقارىء ليس متخصصا فى الطب, ويسعى لقراءة عمل هام, وقد كان , وتحققت عناصر الدهشة والإمتاع عبر فقرات الرواية وعبارات البجلاتي الخاصة(مثانة فرانكوفونية) لا يغلق الطبيب ابراهيم البجلاتي عليه ثقافته, بل يعجنها بمكسرات المجتمع الكبيرولغته الخاصة( فيقرأ زيوس, وينصت إلى الحصري, ويسحب غشاء المساريقا الملىء بالأوعية الدموية, ويسمح له بكلب إضافي, ويستغرب من غفلة الملوك والسلاطين, ويسأل أن كان أديب ويصا لازال يعزف الجيتار, ولا ييأس أن وقته خلص, وتشمله رائحة البن, ومولد الشيخ حسانيين, ويشغله الحزن في عيون كل الكلاب, ولا تكسر الأيام دماغه الناشفة,ويظل يدرب نفسه كرومانسي على كيمياء التسامح, ولا تعنيه كلمة الباشا الحمراءsorry , ويظل يردد:

                                  وهم يقولون لنا لم يعد هناك برابرة

                                 فماذا يمكننا أن نفعل الآن دون برابرة

                                 حقا لقد كان البرابرة حلا من الحلول

وأمام ثانوية بنات شارع فريدة حسن , تسوقه أقدامه ,مثلما فعل منذ عام مضى عندما رأى في الكلب حلا من الحلول ( الآن أكتشفت أن الفشل ليس سيئا تماما, بل يمكن أن يكون حلا من الحلول) انتهى كلام د ابراهيم البجلاتي في الرواية.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة