اذ ما عَلِمنا ان في بطون التاريخ كان قد سُجل تخصيب اول جنين شرعي لمفهوم الدولة السيادية، وحصراً في بلاد الرافدين، حيث ولدت مناسك حكومة ديموقراطية بدائية، فأن من دون ادنى شك، في عصر الحداثة والعولمة والمدنية وتحت شاهدة سماء الكترونية، سُجلت في العراق اقبح عملية شنق جماعية لأعناق السلطات الثلاث: السلطة التشريعية، السلطة القضائية، والسلطة التنفيذية. وفي طقوس اباحية صاخبة، حيث علقت اعناقها عالياً.
لم تهبط مشيئة الله حصراً وقتئذ (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) على مملكة ليون الاسبانية. رغم ذلك، انتدبت (ليون)، من اهلها رسمياً اول تمثيل لدولة المؤسسات في التاريخ عام 1118م. علماً ان السماء قد اختص اولى قولها وحثيثها قبل ذلك بخمس قرون، افئدة الانصار وفي دار ابن ايوب بالتحديد لنصرة النبي (ص): (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، فكان لهم الهجرة الى المدينة وحسن الثواب فيما تشاوروا. فخصّها القول: لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت. ولم تستثن المشيئة قبلئذ بقرون، داوودَ، فله نصيباً منها: ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق). كذلك الاغريق وروما. تلك اساطير الاولين، تداولتها الاجيال بالمودة والتسامح والعدل والوفاء الى حين.
ولأن (دولة المؤسسات) هي مدعاة فتنة، وقرة الكفر وقاعٍ للشياطين، او هكذا تراها الآن، احزاب الله التي لا تكن الاحترام السليم لصيرورة الزمن، ولإستحقاقات العصر، وللقيم الانسانية، لذا انتدبت احزاب الله نفسها وصياً ابدياً على إرادة الجماهير في تحديد شكل الدولة. فتحازبت وتكاثفت وتوافقت جهودها لخدمة مصالحها الفئوية تحت كساء المحاصصة، تحميها مقدرات المنطقة الخضراء، تاركة خارجها اعناق الناس وافئدتها ومعتقداتها تتطاير اشلاء بموجب شرعي.
إن الله أخذ على الحكام ثلاثاً: أن لا يتبعوا الهوى، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس، ولا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً. لكن احزاب الله الحاكمة بغت بغياً بغيضاً، فمرة، يضرب بعضهم رقاب بعض. ومرة يكسب بعضهم ود بعض، او يُنثر الرماد في العيون، مراعاة التوافق والتقارب، فكان المال العام غنائمهم، او كلما عاهدوا عهداً نبذوه. كان الرعية هي القرابين. فتهاوت فكرة الدولة الى مستوى الجحيم، لتتشظى بعدئذ سعيراً على رؤوس الناس كحجارِ من سجيل. فتعقدت اكثر احجية (فكرة الدولة) على مفاهيم الناس واتسعت متاهاتها.
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) هكذا تردد وتنشد الائمة على المنابر، حيث نادى الفقراء والموتى معاً، أُولُو العَزْم، احزاب الله: بايعناكم لشأن غير الذي فيه تختلفون. فما كان منهم مجيب، واغلبهم في الْغَيِّ قاعدون. فصدوا عن الناس معرضين. وإذ ما اكتمل نصابهم، ما كان الا حفل ذئاب، ينهش الخبيث فيهم الطيب، ويبكي اللئيم فيها على ليلاه. واذ قال العالم لهم: آن اوان البناء، وما هدمته اعاصير العصور الغابرة، فَليعاد تشيده. فظن اولياءنا انها دعوة للتناسب والتصاهر والتعارف، و وليمة على مائدة المحسنين. فتحول مجلس الشعب بازاراً وسوقاً للمنافع. وممثلي الشعب وحكامه تجاراً لماضيهم يثأرون. هكذا يخصون السلطة وقوانينها في التشريع، انفسهم وذويهم واحفادهم ان شاءوا . فضاعت حدود الله، وحدود العدل واحلام الناس وحقوق المظلومين. كما ضاعت كلمات الله: (فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم).
الم ترى كيف اسرفت احزاب الله في غيّها وغلوها في القتل والكذب والسرقة والتزوير وايهام الناس بغد افضل! وقلما يساورون الناس بالرأفة والرحمة. تود احزاب الله، لو مكثت في السلطة العمر كله، يدسون السم في الرحيق ابدا خالدين!. ومنهم من يعاند الله ويعاديه في آياته، وآيات الناس. ومنهم كالبليد من الانعام، ومنهم من يحلم بنكاح الصبايا. وفيهم الاخرق يزين المشهد. ومنهم كعبه فوق عنقه، خبيث لا يستكين. ومنهم الافلج، والكسيح والفصيح، والسفيه اذا اعتلى صوته في حين غرة، فكان الرطانة كلها، تضيع الكلمات منه قبل المبتغى الى حيث لا ندري. ومنهم من ابتلاه الله في مخرجه ومدخله. وفيهم الفتنة الكبرى. والموغل في التآمر، ومنهم كدبيب الرجس في الارحام، ومنهم من راح يلطخ وجه تاريخنا بالعار، كما لطخت الان احزاب الله، اجسادنا بالمياه القذرة ووجه الله بالوحل! فما كان لنا الا سوء العقاب، لينتهي بيت المال واحلام الفقراء والموتى تحت قباب السلطات الثلاثة في لعبة جر الحبل. وانتهى عمر الصبية في الارض قبل اوانه، فتلاشى منهم سمادا للأرض، ومنهم للعالم لاجئين.
فلو ارادت العشر سنوات الاخيرة ان تفضح المشهد برمته، وما انضوى تحتها من مآثم تسببتها السلطة الحاكمة بكل قذاراتها، لتحدثت هذه العشر عن تتممة لذات الجريمة وبذات الادوات القديمة التي تصطاد ذات الشعب الطريد الطريح المنبسط والمثير للتساؤل والدهشة والعجب والجنون! ولكشفت العشرة عن جرائم ابادة بشرية ودمار بيئي بدوافع لا تختلف ابدا عن سابقاتها التي مازالت انيابها وشماً تتوارثه الاجيال.
الصراع ما زال قائماً بين طرفي نقيض، بين احزاب الله وعباد الله. احزاب الله التي تسعى للسيطرة على جميع منافذ الحياة، فتضيّق على الناس سمواتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بهدف فرض نظامها الايدولوجي المبني على تجزئة المجزء وتحويلها الى دويلات مواجهة مذهبية. وعباد الله التي تسعى بمشقة الى استنشاق هواء الكرامة والتنمية والرخاء والسلام اسوة بشعوب العالم. وبين الاثنين، تتممة للظلمات او آمال الضياء المنتظر. وكُلُّ امرئٍ بما كسب رهينٌ.