أحياناً نسمع ببعض الحكايات ولكننا لا نشعر بها حق الشعور. نسمعها دون أن تكون لها وقعة في أنفسنا. هي مجرد حكايات يعيشها الناس ولا تعنينا بشيء كثير. كنا نتصور أنها مجرد سيناريوهات لأفلام لا تمد إلى الحقيقة والواقع بصلة. نسمع أن فلانا قد مات. يعني انه مات ليس الا كما ستموت كل المخلوقات دون أن نشعر بألآم أولاده أو والديه ولا نتخيل أصلاً ما عاناه هذا الميت وهو في سكرات الموت حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
قد نستفيد من تجارب الأخرين ولكننا لا نعتبر حق الاعتبار من كل ما نسمع. مثل تركماني شائع مفاده أن النار لا تكوي إلاّ المكان الذي تقع عليه. أي لا يكتوي بالنار سوى المكان المحروق، أمّـا المحيط من حولها فهو يتأثر نزراً يسيراً وحسب البعد المكاني من النار أي لا يؤلم الجرح إلا من به ألمُ.
كنا في السابق نشاهد الأفلام المصرية. هذه الأفلام التي كنا نتابعها بشوق ولهفة وكنا نتصور بأننا نفهمها جيداً. لكن بتقادم العمر علمت أنا شخصياً بأننا لم نكن نفهم الشيء الكثير منها ولم نتخذها إلاّ هزواً.
كنا نشاهد في الأفلام المصرية موضوعات لم تكن واضحة لنا وكنا نتعامل معها بالفكاهة والضحك. (القوة العاملة) التي كنا نسمع عنها والتي كانت العوائل المصرية تفرح فرحاً بالغاً عند ورود رسائل من القوة العاملة. ما هي القوة العاملة وما دورها ولماذا كانت العوائل المصرية تنتظرها بفارغ الصبر وتفرح فرحاً شديداً لاستلام هذه الرسائل. الأمر أصبح واضحاً بعد أن أصبحت النار تحيط بنا نحن أيضاً. أصبحنا نكوى بنفس النار التي احترق بها المصريين قبلنا والذين نقلوها لنا من خلال أفلامهم. إنهم كانوا يتحدثون عن العطالة والبطالة التي يعانون منها. كانوا ينقلون لنا صيحة المحتاجين إلى عمل ليرتزقوا منه. كانوا يعبرون عن مشاعر ألاف الشباب الذين أنهوا دراستهم الجامعية وهم بصدد تكوين مشاريع لحياة سعيدة مرفهة في خضم العوز المادي. تبين أن خطاب القوة العاملة هو بمثابة خطاب الأمل الذي ينعش أنفاسهم ويبعث فيهم الروح. كنا حينها لا نعرف ماذا يعني التعين والعمل ولم نكن نعلم أن التعين وايجاد عمل سيكون يوماً معضلة لنا أيضاً. لم نحس بمأساة الشاب المصري إلاّ بعد أن شاهدنا بأم أعيننا ما آل إليه حال شبابنا اليوم وهم يأنون بحثاً عن عمل يسد رمقهم. كانوا يتألمون وينقلون لنا ألامهم من خلال القوة العاملة التي دججوا بها أفلامهم. اليوم نحن نفهم جيداً معنى التعين وإيجاد فرص عمل.
اليوم فهمنا ما كانت الأفلام المصرية تعنيه في أزمة السكن وصعوبة إيجاد شقة صغيرة يسكنون فيها. اليوم أصبحت الصورة واضحة للأفلام التي كانت تنقل لنا معاناة الفرد المصري الذي يستيقظ من النوم صباحاً وهو لا يجد الماء لاستخدام الحمام. أصبحنا نعرف جيداً معنى أزمة السكن والكهرباء والزحام ومشكلة المواصلات، ذلك بعد أن عشنا كل ذلك وبكل حذافيره وصرنا قاب قوسين او ادنى من النار.
هكذا فإن الشعب المصري قد تقدم علينا بذلك بما يقارب الخمسين عاماً. سبقونا في أزمة التعين ومعضلة إيجاد العمل وأزمة السكن وزحمة الطرق والمواصلات وغيرها. سبقونا في إخلال حقوق الإنسان وهدر آمال الأخرين وقد فهمنا كل ذلك بعد زمن ليس بالقليل. لم نكن نعلم ما يعنونه المصرين بالجمعية حتى تبين أنها تقابل (السلفة) عدنا أي اشتراك مجموعة ما بتقديم مبلغ لأحدهم كل شهر والتي شاعت عندنا أيضاً.
هكذا فإننا ننظر اليوم إلى تلكم الأفلام بكل تمكن ونعيش ما جاء فيها ونشعرها بالتمام والكمال. فقد أصبحت النار الآن في مربعنا وتحرق أرضنا ونحن من نكتوي بها حق الاكتواء.
فهمنا معنى الشعر المصري القائل:
زحمة يا دنيا زحمة ، زحمة وتاهوا الحبايب ????
زحمة ولا عادش رحمة ، مولد وصاحبوا غايب????
أجي من هنا زحمة ، اروح هنا زحمة ????
هنا وهنا زحمة ، زحمة يا دنيا زحمة.
ولله درنا.