خاص: قراءة- سماح عادل
ينتقل الكتاب إلى الحضارة الصينية، ورغم المبالغة في الوصف الذي يتعارض مع الحس العلمي المحايد، يهتم بمعرفة أصل الجنس الصيني وجغرافيا الصين. وذلك في الحلقة الثانية والثمانين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الصين..
انتقل الكتاب إلى الصين: “لقد كانت دراسة بلاد الصين عملاً من الأعمال المجيدة التي تمت في عصر الاستنارة وقد قال فيهم ديدرو: “أولئك قوم يفوقون كل من عداهم من الأسيويين في قدم عهدهم، وفي فنونهم، وعقليتهم، وحكمتهم وحسن سياستهم، وفي تذوقهم للفلسفة، بل إنهم في رأي بعض المؤلفين ليضارعون في هذه الأمور كلها أرقى الشعوب الأوربية وأعظمها استنارة”. وقال فولتير: “لقد دامت هذه الإمبراطورية أربعة آلاف عام دون أن يطرأ عليها تغير يذكر في القوانين، أو العادات، أو اللغة، أو في أزياء الأهلين… وإن نظام هذه الإمبراطورية لهو في الحق خير ما شهده العالم من نظم”.
وهذا الإجلال الذي ينظر به علماء ذلك الوقت إلى بلاد الصين قد حققته دراستنا لتلك البلاد عن كثب، والذين خبروا تلك البلاد وعرفوها حق المعرفة قد بلغ إعجابهم بها غايته. انظر إلى ما قاله الكونت كيسرلنج في خاتمة كتاب له يعد من أغزر الكتب علما وأعظمها نفعا وأبرعها تصويراً: “لقد أخرجت الصين القديمة أكمل صورة من صور الإنسانية. وكانت فيها صور مألوفة عادية. وأنشأت أعلى ثقافة عامة عرفت في العالم كله. وإن عظمة الصين لتتملكني وتؤثر فيّ كل يوم أكثر من الذي قبله. وإن عظماء تلك البلاد لأرقى ثقافة من عظماء بلادنا. وإن أولئك السادة لهم طراز سام من البشر. وسموهم هذا هو الذي يأخذ بلبي. إن تحية الصيني المثقف لتبلغ حد الكمال! وليس ثمة من يجادل في تفوق الصين في كل شأن من شئون الحياة. ولعل الرجل الصيني أعمق رجال العالم على بكرة أبيهم””.
نظرة الصينيين للغرب..
وعن نظرة الصينيين للغرب يحكي الكتاب: “والصينيون لا يهتمون كثيراً بإنكار هذه الأقوال، وقد ظلوا حتى هذا القرن، ماعدا نفراً قليلاً في الوقت الحاضر، مجمعين على أن أهل أوربا وأمريكا برابرة همج. وكان من عادة الصينيين قبل سنة 1860 أن يترجموا لفظ “أجنبي” في وثائقهم الرسمية باللفظ المقابل لهمجي أو بربري، وكان لا بد للبرابرة أن يشترطوا على الصينيين في معاهدة رسمية إصلاح هذه الترجمة. والصينيون كمعظم شعوب الأرض “يرون أنهم أعظم الأمم مدنية وأرقهم طباعاً”. ولعلهم محقون في زعمهم هذا رغم ما في بلادهم من فساد وفوضى من الناحية السياسية، ورغم تأخرهم في العلوم، وكدحهم في المصانع، ومدنهم الكريهة الرائحة، وحقولهم الملأى بالأقذار، وفيضان أنهارهم، وما ينتاب بلادهم من القحط، ورغم جمودهم وقسوتهم وفقرهم وخرافاتهم، وقلة عنايتهم بتربية أبنائهم، وحروبهم المدمرة، ومذابحهم وهزائمهم المذلة”.
تفوق الصين..
ويعدد الكتاب في مبالغة واضحة مميزات المجتمع الصيني: “ذلك أن ما وراء هذا المظهر المظلم الذي يبدو الآن لعين الغريب عن بلادهم مدنية من أقدم المدنيات القائمة في العالم وأغناها: فمن ورائه تقاليد قديمة في الشعر، يرجع عهدها إلى عام 1700 ق. م، وسجل حافل بالفلسفة الواقعية المثالية العميقة غير المعجزة الدرك، ومن ورائه براعة في صناعة الخزف والنقش لا مثيل لها من نوعها، وإتقان مع يسر لجميع الفنون الصغرى لا يضارعهم فيه إلا اليابانيون، وأخلاق قويمة قوية لم نر لها نظيراً عند شعوب العالم في أي وقت من الأوقات، ونظام اجتماعي ضم عدداً من الخلائق أكثر مما ضمه أي نظام آخر عرف في التاريخ كله ودام أحقابا لم يدمها غيره من النظم، ظل قائما حتى قضت عليه الثورة ويكاد أن يكون هو المثل الأعلى للنظم الحكومية التي يدعو اليها الفلاسفة؛ ومجتمع كان راقيا متمدنا حين كانت بلاد اليونان مسكن البرابرة؛ شهد قيام بابل وآشور؛ وبلاد الفرس واليهود، وأثينة ورومة والبندقية وأسبانيا، ثم شهد سقوطها كلها.
وقد يبقى بعد أن تعود بلاد البلقان التي نسميها أوربا إلى ما كانت عليه من جهالة وهمجية. ترى أي سر عجيب أبقى هذا النظام الحكومي تلك القرون الطوال، وحرك هذه اليد الفنية الصناع، وأوحى إلى نفوس أولئك القوم ذينك العمق والاتزان؟”.
الدولة الوسطى الزاهرة..
يصف الكتاب وصف الصين جغرافيا في وقت ما قبل التاريخ: “إذا عددنا الروسيا بلادا أسيوية- وقد كانت كذلك إلى أيام بطرس الأكبر وقد تعود أسيوية مرة أخرى- لم تكن أوربا إلا أنفا مسننا في جسم آسية، وامتدادا يشتغل بالصناعة من خلفه قارة زراعية كبيرة، ومخالب أو نتوءات ممتدة من قارة جبارة مهولة. وتشرف الصين على تلك القارة المترامية الأطراف، وهي لا تقل عن أوربا في اتساع رقعتها وتعداد عامرها.
وقد كان يكتنفها في معظم مراحل تاريخها أكبر المحيطات وأعلى الجبال، وصحراء من أوسع صحاري العالم. لذلك استمتعت بلاد الصين بعزلة كانت هي السبب في حظها النسبي من السلامة والدوام، والركود وعدم التغيير، وهو حظ كبير إذا قيس إلى حظ غيرها من الأمم. ومن أجل هذا فان الصينيين لم يسموا بلادهم الصين، بل سموها تيان- هوا “تحت السماء ” أو زهاي “بين البحار الأربعة”أو جونج- جوو “الدولة الوسطى” أو جونج- هوا- جوو- “الدولة الوسطى الزاهرة” أو الاسم الذي سماها به مرسوم الثورة جونج- هوا- مين- جوو- “مملكة الشعب الوسطى الزاهرة”.
والحق أن الأزهار اليانعة كثيرة فيها، كما أن فيها كل المناظر الطبيعية المختلفة التي يمكن أن تهبها إياها الشمس الساطعة، والسحب السابحة، وشعاب الجبال الوعرة، والأنهار العظيمة، والأغوار العميقة، والشلالات الدافقة بين التلال العابسة. ويجري في قسمها الجنوبي الخصيب نهر يانج- دزه الذي يبلغ طوله ثلاثة آلاف ميل، وفي الشمال يتحدر الهوانج هو، أو النهر الأصفر من سلاسل الجبال الغربية مخترقا سهولا من اللويس، ويحمل معه الغرين ليصبه الآن في خليج بتشيلي، وكان من قبل يصبه في البحر الأصفر، ولعله سيعود في الغد فيصبه في هذا البحر مرة أخرى. على ضفاف هذين النهرين وعلى ضفتي نهر الواي وغيره من المجاري الواسعة.
بدأت الحضارة الصينية تنتزع الأرض من الوحوش والآجام، وتصد عنها الهمج المحيطين بها، وتنظف الأرض من الحسك والعليق، وتطهرها من الحشرات المهلكة والرواسب الأكالة القارضة كأملاح البوتاسا وغيرها. وتجفف المناقع، وتقاوم الجفاف والفيضان، وما يطرأ على مجاري الأنهار من تحول يعود على البلاد وسكانها بالخراب والهلاك، وتجري الماء في صبر وحذر من أولئك الأعداء الأوداء في آلاف القنوات، وتقيم يوما بعد يوم خلال القرون الطوال أكواخا وبيوتا ومعابد ومدارس وقرى ومدنا ودولا. ألا ما أطول الآجال التي يكد الناس خلالها ليشيدوا صرح الحضارة التي يدمرونها في سهولة وسرعة عجيبتين!”.
أصل الصينيين..
ويحاول الكتاب تتبع الأصول العرقية للصينيين: “وليس في الناس من يعرف من أين جاء الصينيون، أو إلى أي جنس ينتسبون، أو متى بدأت حضارتهم في الزمن القديم. وكل ما نستطيع أن نقوله واثقين أن بقايا “إنسان بيكين” توحي بأن القردة البشرية جد قديمة في بلاد الصين. وقد استنتج أندروز من بحوثه في تلك البلاد أن منغوليا كان يعمرها من عشرين ألف سنة قبل الميلاد أجيال من الناس تشبه أدواتهم الأدوات “الأزيلية” التي كانت أوربا تستخدمها في العصر الحجري الأوسط، وأن خلفاء هذه الأجيال انتشروا في سيبيريا والصين حينما جفت منغوليا الجنوبية وأجدبت واستحالت إلى صحراء جوبي الحالية. وتدل كشوف أندرسن وغيره في هونان ومنشوريا الجنوبية على أن ثقافة تنتسب إلى العصر الحجري الحديث وجدت في تلك البلاد متأخرة بألفي عام من مثيلتها في عصر ما قبل التاريخ في مصر وسومر.
ويشبه بعض ما وجد من الأدوات في الرواسب الباقية من العصر الحجري الحديث، في شكله وتسنينه، المدى الحديدي التي يستخدمها سكان الصين الشمالية في هذه الأيام لحصاد الذرة الصينية، وهذه الحقيقة على ضآلة شأنها ترجح القول بأن الثقافة الصينية قد دامت سبعة آلاف عام متواصلة غير منقطعة، وهو عهد ما أطوله، وقل أن يوجد له في غير الصين نظير.
على أن طول هذه العهود يجب ألا يغشى أبصارنا فنبالغ في تجانس هذه الثقافة أو تجانس الشعب الصيني نفسه. فقد يلوح أن بعض فنونهم وصناعاتهم الأولى جاءتهم من بلاد النهرين والتركستان. من ذلك أن خزف هونان المنتمي إلى العصر الحجري الحديث لا يكاد يفترق في شيء عن خزف أنو والسوس.
والجنس “المغولي” الحاضر مزيج معقد اختلطت فيه السلالة البدائية مرارا وتكرارا بمئات السلالات الغازية أو المهاجرة من منغوليا وجنوب الروسيا السكوذيين ووسط آسية.
فالصين من هذه الناحية كالهند يجب أن نشبهها بأوربا بأكملها لا بأمة واحدة من أممها؛ فليست هي موطنا موحدا لأمة واحدة، بل هي خليط من أجناس مختلفة الأصول متباينة اللغات غير متجانسة في الأخلاق والفنون؛ وكثيرا ما يعادي بعضها بعضا في العادات والمبادئ الخلقية والنظم الحكومية”.