15 نوفمبر، 2024 8:39 م
Search
Close this search box.

كتابة الواقع (20).. جمال التجربة درس كوني يستحق التدوين

كتابة الواقع (20).. جمال التجربة درس كوني يستحق التدوين

خاص: إعداد- سماح عادل

حين يشعر الكاتب بتأثير العالم الخارجي على ذاته، يحاول أن يكتب تلك التجربة بصدق يصل مباشرة إلى قلب وذهن القارئ، مستخلصا الجمال في تلك التجربة، حتى وإن اختلط بالألم والحزن والمعاناة، في محاولة منه لتخليد ذاته، أو لفهمها وفهم الحياة، أو لتجليد تفاصيل إنسانية عميقة تستحق التدوين.

شارك في هذا الملف كاتبات وكتاب من مختلف بلدان الوطن العربي، وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:

  1. هل السيرة الذاتية صنفا من الرواية، هناك من يعتبرها خارج إطار الرواية، وما حجم إعمال الخيال المطلوب حين يكتب الروائي/ة عن ذاته؟
  2. ماذا يهدف الروائي/ة حين يكتب سيرته الذاتية وينشرها في كتاب؟
  3. هل جربت أن تكتب عن شخصيات محيطة من العائلة والأصدقاء، وهل انتابتك المخاوف من رد فعل من كتبت عنهم؟
  4. ماذا كان رد الفعل الذي قامت به شخصيات كتبت عنهم؟
  5. البوح، أم التعري والانكشاف، أم التوثيق لأحداث فارقة، أم اعتبار الواقع مصدرا هاما للكتابة هو ما يدفع الكاتب/ة لكتابة ذاته والآخرين؟

رواية الزمن..

تقول “فاطمة الشيدي” كاتبة وشاعرة وأكاديمية من سلطنة عمان: “لعل الرواية هي ضرب من السيرة الذاتية إلى حد ما في الحقيقة؛ وذلك لأن اللغة هي وعينا بالوجود، والكتابة هي حالة تفكير قبل كل شيء، فكل ما نعيشه ونشاهده ويمر في وعينا يتصاعد إلى ذاكرتنا؛ ذلك المخزن الكبير التي تختلط فيه الأزمنة والأمكنة والحكايات والنصوص والتفاصيل الكثيرة ومنها إلى اللاوعي الإنساني الفردي والجمعي وهو ما تمتح منه المخيلة فعليا طاقتها اللانهائية وتفردها الإنساني العجيب، فالمخيلة التي هي خصوصية الكائن البشري وميزته؛ هي الأكثر تجليا وفرادة عند المبدع والفنان بكل مسمياته وإبداعاته؛ لذا فكل ما يكتبه يمتح من ذلك المعين ويصب في اللغة ومن ذلك العمل الأدبي عامة والرواية خاصة.

ولذا لا توجد رواية خالصة تخلو من بعض سيرة كاتبها، ولا توجد سيرة تخلو من الخيال، ومعظم الكتاب يعترفون أنهم ضمّنوا رواياتهم الكثير من حيواتهم الشخصية وسيرهم الذاتية (نجيب محفوظ على سبيل المثال)، أو أن سيرتهم الذاتية ليست محضة وبها الكثير من الخيال.

ولذا نجد “فيليب لوجون وجورج ماي” وهما المنظران الأشهر للسيرة الذاتية يجعلان السرد يتدرج ضمن الذاكرة السردية من السيرة الذاتية فالسيرة الروائية فالرواية السيرية فالرواية حسب قربها من الواقعي وبعدها عن المتخيل، وفي خط عكسي بالنسبة للسرد التخييلي أو الرواية”.

وعن هدف الروائي/ة حين يكتب سيرته الذاتية وينشرها في كتاب تقول: “السيرة الذاتية فن أدبي ينطلق من فعل إنساني خاص (والخصوصية أو الفرادة هنا لا تعني العظمة والقوة بالضرورة بل قد يكون العكس تماما هو الصحيح) ويروم ترسيخ تلك الحالة أو التجربة عبر الكتابة سواء من صاحبها (سيرة ذاتية) أو من شخص آخر يجد في الكتابة عن تلك الشخصية متعة وقيمة، وهي ترجمة أدبية كما عُرفت في الثقافة العربية أو سيرة غيرية كما تترجمها الأدبيات اليوم، وهي فن قديم بدأ التنظير له منذ “جان جاك روسو” في كتابه (الاعترافات) في حين أنها فعليا قبل ذلك بكثير.

وليس السارد/ الراوي فقط من يحق له كتابة سيرته؛ فعلى مستوى الكتابة كل صاحب قلم يحق له كتابة سيرته؛ كالشاعر والناقد والمفكر والفيلسوف وغيرهم، ولذا ف”خارج المكان” ل”ادوارد سعيد” سيرة من أجمل السير الإنسانية، و”سبعون” ل”ميخائيل نعيمة”، و”غربة الراعي” ل”إحسان عباس”، و”رحلتي الفكرية” ل”عبد الوهاب المسيري” وغيرهم كثر، أما خارج الأدب فهي منطقة واسعة جدا ومفتوحة لكل صاحب تجربة مغايرة سواء تجربة علمية مثل سيرة “مدام كوري” أو “انشتاين” أو “أحمد زويل” وغيرهم، أو رياضية مثل سيرة “بيليه” وسيرة سياسية مثل سيرة “غاندي” و”مانديلا” وسيرة فنية مثل سيرة “شابلن” وغيرهم كثر في كل المجالات الإنسانية

واليوم تظهر بقوة سيرة الملهمين وخاصة المتحدّين لإعاقاتهم الجسدية والنفسية، وواقعهم المرير ليمثّلوا قيمة إنسانية تلهم الكثيرين للتحدي والمقاومة وأبرزهم “كاي جاميسون” في كتابها “عقل غير هادئ”، وهناك سيرة المنفى التي ظهرت مع شتات المنفيين من أوطان قست على إنسانها فغادرها بعضهم قسرا، وتوزعوا في العالم فكتبوا تجاربهم وحنينهم ليقرأ من يجئ بعدهم حكاياتهم التي تستحق الخلود والدراسة أيضا.

وتواصل: “ما ما يحاول كاتب السيرة قوله في نصه فلعلها محاولة للتخلص من عبء الذاكرة وتفتيتها على الورق، محاولة لسرد الماضي، وسرد الحياة والصمت والمواقف والدموع والضحكات والبلاد والبلاءات والنجاحات والسقوطات والقيامات والعشق والخذلان التي تخللت عمر بأكمله، إنها رواية الزمن عبر محور شخصية واحدة وتفاعلها مع مختلف الأزمنة والأمكنة والشخوص في عقد متعددة ونهاية إنسانية معروفة وهي الموت الذي يغيب السعداء والتعساء والغرباء والأشقياء والأغنياء والفقراء.

إنها محاولة لفهم الذات وتقديم العزاء والمواساة لها من جهة، وفهم للحياة وتقديم الاستهزاء والسخرية اللائقة بها من جهة أخرى، وتقديم أنموذج تحدي كدرس كوني وتجربة معاشة يمكن أن يستفيد منها شخص ما في زمن ما أو في مكان ما يقع تحت عبء نفس الظرف الإنساني والوجودي يوما ما.

فقد يكتب الكاتب السيرة ليدرك حقيقته ويفهم روحه، ويبرر أخطاءه، ويسامح من ظلمه، ويغفر لنفسه زلاتها ويربت على كتفها أن لا بأس كان هذا درسا عظيما ولقد عبرناه بهدوء. أو يكتب ليتذكر من غاب بشكل ما أو بشكل نهائي، وليشكر من وهبه فرحا في مكان ما، أو لمن دعمه في طريقه الطويل.

كما أن الكاتب يكتب سيرته كما يرسم الفنان نفسه (فريدا كاهلو، وفان جوخ مثلا) ليرى نفسه من بعيد، لينظر لها نظرة عرفان وامتنان ومواساة، كما يكتب لأن هذه طريقته في محاولة الخلود، كما يفعل كل إنسان ليعيش عمرا أطول قليلا خارج الفناء الجسدي، كمن ينجب الأطفال، أو يجترح معجزة فنية، أو علمية أو رقما رياضيا أو فعلا بشريا عظيما؛ ليواجه الموت أو يدفعه، ولتظل ذكراه قليلا خارجه، إنها محاولة الخلود البشري التي تأتي من خوف البشر من الموت، فهذا الكائن الواعي بوجوده لا يستطيع أن يتخيل الفناء النهائي لذا صنع الكثير من الأفكار التي تخفف عنه عبء هذه الفكرة، ومنها الفن بكل تجلياته وأشكاله، والأديان، والتحنيط، وبناء المقابر وغيرها الكثير.

قد يكتب سيرة غيرية عن شخص يشبهه أو شخص غيّر مساره الوجودي، أو أهداه فكرة، أو مبدع يظن أنه يستحق الخلود وقد تجاهله العالم؛ فيرد له دين الوجود ويظهره للعلن جزاء لما قدّم للبشرية”.

الكتابة عن الموتى..

وعن تجربة أن تكتب عن شخصيات محيطة من العائلة والأصدقاء، وهل انتابتها المخاوف من رد فعل من كتبت عنهم تقول: “نعم ولكني كنت واعية بقلق الإنسان من وضعه في مختبر الكتابة الفاحصة، مهما بدت طيبة، لذا فكنت غالبا أكتب عن النص أو كنت أخفي الأسماء أو أموهها أو أغيرها، وغالبا أكتب عن الموتى؛ أحب الكتابة عن الموتى، أسبغ عليهم رقة الحزن، وشفافية الغياب وحنين الفقد، أغفر أخطاءهم أو أقزمها، وأرفع مقامهم وأكبر أعمالهم، الكتابة عن الموتى تأتي من الداخل تماما، ولا أحد سيظن في نفسه أجمل مما كتبت عنه، إنهم هناك في سرمد الغياب وأنت هنا تواجه ضميرك في سردهم من منطقة تلتقي فيها بهم بمحبة وحزن، تقرأ حيواتهم في أجمل ضفافها وأعذب دروبها ومساعيها، ترد جميل ما قدموه لك أو للبشرية”.

وعن رد الفعل الذي قامت به شخصيات كتبت عنهم تقول: “لقد كتبت عن نصوص الأحياء أو عن حيواتهم في النص، وعن أرواح ونصوص الغُيّاب؛ لذا  من كتبت عن نصوصهم وانعكاس أرواحهم فيها شعروا بجمالهم في مرايا اللغة، أما الموتى فقد شاركني الأحياء جماليات الركون إلى تلك الرفعة في حيواتهم، وأظن أرواحهم في البرزخ كانت ترفرف فرحا بذلك التلاقي والامتنان”.

وعن البوح، أم التعري والانكشاف، أم التوثيق لأحداث فارقة، أم اعتبار الواقع مصدرا هاما للكتابة هو ما يدفع الكاتب/ة لكتابة ذاته والآخرين تقول: “كل هذا معا؛ ولعل آخر ما يشغل المبدع الحقيقي تقديم الدروس أو حتى تمجيد الذات، المبدع الحقيقي مشغول بذاته بانعكاس الخارج في روحه ووعيه ولغته، وكل ما يمر عليه من جمال هو درس كوني يستحق التدوين، وكل سقوط هو لذة تعطي فكرة عميقة للكتابة.

المبدع الحقيقي يعتني بأحزانه وجراحاته وخذلاناته وسقوطاته ليكتبها، يربي الألم ويصاحبه ويكتب به عنه، المبدع الحقيقي يكتب عن الحرب بملح دموعه، وعن المنفى كجرح لا يندمل، وعن الوطن كفردوس مفقود، أو جنة يتناهبها اللصوص،  ثم يأتي كل ذلك ضمنيا؛ البوح والتعري والانكشاف في طريقة الكتابة الصادقة والمنبثقة من أعمق منطقة في  الوعي والمتمتعة بالصدق والمسئولية وبلا تزيين أو تجميل، والتوثيق لأحداث فارقة عاشها وصنعته كالحروب والحركات السياسية وتقلبات الطبيعة وتغير الأحوال أو ما قد يعانيه من أمراض أو عجز يعطي الكتابة الذاتية الصدق الذي يجعل لعمله طاقة الحقيقة فتصل للقارئ فيتحد بها ويصدقها  لأنه واقعية حادثة في زمن الكتابة ومن ذاتها الفاعلة؛ لذا فالكتابة هي تاريخها الأصدق ومصدرها الموضوعي.

إن كل من وما يعترض قلم الكاتب وما قد عاشه واختبره يجعل له الاستحقاق أن يصبح شاهدا عليه. وبالتالي ملهما له لكتابة واقعية صادقة تستحق القراءة من قارئ متجدد عبر الزمن والمكان، وتستحق الخلود كدرس كوني وتاريخي وإنساني ممتع ومفيد في ذات الآن”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة