الكاتب: محمد الطيب- السودان
رد الخليل في حسرة:
– ثريَّة لا تشبه واحدةً من النساء، خلقت من طينة تخصّها وحدَها، هذا لو أنها طينية من الأساسِ.
أومأ الطاهر برأسه متفهمًا:
– إذن، فقدْ كنت تحبها. هكذا يفعلُ الحب، يحول النساءَ العاديات إلى كائناتٍ نورانيَّة.
أشار نحو المكان حوله مكملًا:
– الآن فهمت، هذا تأثيرُ اللِّبأ عليك، لا بدَّ أنه تسرب إلى دمكَ قبل أن تلتقي القادمة الجديدة وجعلك تظن أنّها ثريَّة، لا بدّ أنه قد أخذكَ إلى هناك.
أومأ الخليل برأسه موافقًا دون أن ينبسَ ببنت شفة، أكملَ الطاهر قائلًا:
– هذا الحثالة بارعٌ جدًّا في لعبته التي وضع قوانينَها وفرضها علينا، يطرق أشدَّ الأماكن ضعفاً فينا، ويعود بنا جثثًا بلا روح من رحلته القصيرة.
– ليتني كنتُ كاذبًا لسلمت بكذبي، أو كنت صادقًا فلا أعاني من ويلاتِ ضميري.
قالها بصوت أقربَ إلى العويل وهو يبتعدُ عائدًا إلى منزله، ولِبَأ الحنين يتسلل عبرَ مسام جلدِه إلى دمه.
أغلق الباب خلفه بقوة، وسِرعان ما تمدد على أرضية الغرفة، ودمعة تتسلل من إحدى عينيه المغمضتين بقوة.
تقفُ صفية منتصبةً في وجهه، ترتجفُ من الغضب:
– ما علاقتُكَ بثريَّة هذه، ما الذي تريده منكَ؟
كان مضطربًا، وتفوح منه رائحةُ الكذب:
– ثريَّة مجرد متدربة، هل جننت، فيمَ تفكرين؟
– متدربة وتناديني باسمِها.
نهض من جلسته، وقفَ بالقربِ من النافذة:
– لأنها معي في المكتب طوالَ اليوم، لا شيءَ أكثرُ من هذا.
– الخليل سأقتلك، وأقتل نفسي بعدَك، ألا يكفي تحملي لقرفك اليوميّ لتأتي لي بر…
زعق مقاطعًا إياها وهو يغادر المكانَ:
– هذه الحياةُ لم تعد تُطاق!
لفحه هواء أوّل الليل، ظل يمشي في الشوارع بغير هدى، يمور عقله بمشاكلهما، أقلقت نومه، وقضت مضجعه مكالماتها الليلية الهامسة، انفرادها بهاتفها النقال بعيداً عنه، غيابها الطويل عن المنزل، بحث خلفها، قلب هاتفها، حاول التصنت عليها، بل وصل الأمر لمراقبتها، تخرج لمقابلة صديقاتها الثلاثة، مكالماتها معهن، حتى دردشة الوسائط، لا شيء يمكن أن يؤكد شكه، ولكنه لا يهدأ، لو كان ما تفعله طبيعياً، لماذا تصر على إخفائه عنه؟ لماذا تبتعد كلما رنَ هاتفها؟ واجهها، صرخ بأن ما تفعله لا يرضيه، تحدثت عن خصوصية علاقتها بصديقاتها، وأن ما يقال يخصهن بشكل مطلق ولكنه لم يقتنع، صمت على مضض، وكله يقين بأن المخبوء سيكشف يوماً، ثم تأتي اليوم لتشكو من ثرية التي تنبض براءة ورقة، ثرية التي تحيل نقاشهما العادي إلى لحن وأنسهما اليوميُّ إلى أشعار، زفر في ضيق، أخرج هاتفَه النقال واتَّصل بها:
– مساء الخير
أتاه صوتُها ناعسًا وهي تردّ تحيته:
– لن أستطيع النومَ قبلَ أن أسمع صوتك.
أتته ضحكتها الخجولة، فشعرَ بالتواءٍ في أمعائه، خرج صوته أجشَّ وهو يتخيلها مستلقية وهي تحادثه:
– افتقدك كأنّي لم أرَك منذ دهر من الزمان.
– لو سألتني فأنا أرغب في أن أكون برُفقتك إلى الأبد.
– حتى أغدو كهلاً ثرثاراً كثير الشكوى؟
– وبعد أن يحدثَ هذا، أرغب في أن أكونَ برُفقتك.
تأوَّهَ، انطلقت ضحكتها الخافتة عبر الهاتف، فكادت تزهقُ روحه.
حلّ الصمت بينهما هنيهةً، قالت بصوتٍ منكسر:
– ولكنها جميعًا مجردُ أحلام مع وقفِ التنفيذ.
قال جزعًا:
– لمَ تقولين هذا؟
– أنت تعلم جيدًّا ما أقصدُ.
– سنتزوج.
كان صادقًا في رغبته كاذبًا في وعده، ليس لأن الحبَّ أعمى، ولكن لأن الانتماءَ أقوى من المنطقِ، يعلم أن أقصى رغباته أن يتزوجَها، وهي أبعدها أيضًا، كان الطريقُ واضحًا، وإن لم يبصرانه، أخبرته بأنها كانت تبحثُ عنه منذُ وعتْ على الدنيا، وحين يئست من العثور عليه وجدته أمامَها، تحدثا عن فارقِ العمر، أخبرته بأنّها ابنته وحبيبته وتوأم روحِه فصمت.
سَمع الطاهر يناديه من الخارج:
– تساقطت أوراق شجيرات الحياة، وشرعت ماريَّة في انتزاع الأشواك منها.
نظر نحو السقف، حتى تملّ الشَّمس الشروق، ويغادر القمرُ رقعة السَّماء.
ليس للتاسوع شمسٍ أو قمرٍ، مثل سقفِ غرفته هذا، هل يكفي عدم رؤية الشّمس والقمر دلالةً على إيفائها بعهدها، أم أنّها ما زالت على قيده؟ تنهد وهو يحمل جاروفَه ومكنسته، دفع الباب خارجًا. جفّ لِبأُ الحنين في عدّة أماكن، ويبدو ربيع وهو يتقافز بالقرب من مناجم الحنين كخيالٍ وليس حقيقة. ماريَّة تقف بالقرب من منزله، تلتقط أشواكًا من شجيرة صغيرةٍ منتصبة، نظر إلى يديها، آلاف الأشواك تركت أثارَ معاركها الخاسرة عليها.
ندوب قديمة، وأخرى حديثة، جروح جفت دماؤها واثنان جديدان ما زالا يقطران دمًا، لمح دموعها الصامتةَ تنساب على خديها دون أن تمسحها، سبّ لِبأَ الحنين، عدو التسعة في التاسوع بلا منازع.
كنس بعضَ الأوراق التي تساقطت من شجيرة الحياة بجوارها في حذقٍ، قال بصوت خافت:
– هل أخذك لبأ الحنين إليها؟
مسحت خدها بظهرِ يدها، وأومأت برأسها موافقة في صمت.
يعلم التسعة في التاسوع ما عدا الذي لا اسم له حياةَ بعضِهم، وإن لم تكن بكلِّ تفاصيلها، يعلمون إلى أين يأخذهم لِبأُ الحنين حين يتسرب إلى دمائهم، فهم يميلون إلى البوحِ بعدَ ذَهاب أثره، لعلهم يخففون من وطأة أثره الثّقيل على النفس، وتظل هناك أسرارٌ لا تدرك لو لم يبح بها صاحبُها. ماريَّة التي تجمع الأشواكَ قبلَ أن تلتهم زهرات شجيرة الحياة، فقدت ابنتَها في عالمها الأول، قالت في أوّل قدومها، ليتها أدركت موتها يقينًا قبلَ أن تفقدها، ولكن ألّا تعلم أينَ هي؟ وما الذي حلَّ بها؟ وهل هي ميتة أم ما زالت حية ترزق. فهذا هو تاسوعها الخاصّ، الأشواك بالنسبة إليها سلوى عن القلقِ الذي يأكل لحمَها على ابنتها. حزنها المقيم عليها يجعلُ صمتَها ممتدًا، لم تتحدث عن ابنتها إلا في لحظة قدومها الأوّل من الدائرة المضيئة، قبل أن تفهمَ ما هو التاسوع، ولأيّ عالم قد ألقي بها، كانت أمًّا جزعة، في عالم غريب، سألتهم السّبعة عن ابنتها زينة، ذات الأعوام الخمسة، بضفائرها المجدولة، وعينيها الواسعتين، وحين علمت أن بينها وبين ابنتها عوالمَ ودوائرَ، وأنها قد لا تراها مرّة أخرى، لاذ الحزنُ بعينيها، واتخذها منزلًا، ولاذت هي بشجيراتِ الحياة، تلتقط الأشواك منها، لا تشاركُ في أحاديثهم إلا لمامًا، متدثرةً بصمتِها المكين.
كلُّ واحد منهم، يدرك علةَ منزله المختار في التاسوع، ويتفلسف الآخرون حسبما يعلمون عنه، فيجدون مبررًا منطقيًّا لمنزلته، تتلاءم مع قوانين هذا العالم، وتجعله أكثر إقناعًا وأقل غرابةً على الأقل، فيما عدا اثنين، الذي لا اسمَ له، المقيم خلف جبال المناجم، ولا يظهر إلا في لحظات الفناء، ثم يعود إلى منزلِه الذي يقع خلف حدودِ إدراكهم، وماريَّة، التي لا تتحدث عن عالمها السّابق مطلقًا، ولكن هاهو لِبأ الحنين يفرض سطوته عليها بنهاية يومِها الأوّل، وربما حان وقت انحسار دثار صمتها أخيرًا، فثرثرة ما بعدَ فناء الليل أو النهار، تعد فعلًا معتادًا، يذهب ثقل ما يخلفه اللبأ على النفس. هكذا فكَّرَ الخليل وهو يلتقط الأوراقَ الذابلة من حولها، ملقيًا إياها في جاروفه حينًا، وينظر نحو المنزل الذي يبدو من بين الغيوم الزرقاء وكأنه الخيال حينًا آخر.
– هو مَنْ أتى بي إلى هنا؟
نفضت يدها بعد أن وخزتها إحدى الأشواك، ثم نهضت وركلت الشجيرة، ورددت بصوت عالٍ:
– هو مَن أتى بي إلى هنا؟
ثم انكفأت على نفسها منتحبة، اقترب منها الخليل في حذر، ربت على كتفها، رفعت عينين غارقتين في الدموع.
– لا أدري كيف فعلَ هذا، ولكنه هو، أنا متأكّدة من ذلك.
– من هو يا ماريَّة؟
نظرت نحوه وكأنها تراه للمرّة الأولى، عادت إلى النظر بعيدًا، نحو سماء التاسوع بأشعتها الزرقاء المضيئة وقالت:
– ما الذي كنت تنتظره من امرأةٍ مطلقة لديها طفلة بلا مالٍ ولا سند في عالمٍ متوحش مثل الذي أتينا منه؟
أتى صوتُها غارقًا في المرارةِ وهي تكمل:
– التنازل، استغلال رأس المال الوحيد الذي تملكه، جمالها، ولا شيءَ آخر، وهذا ما فعلته.
نظرت نحوه، وكأنها تستنجدُ به، فأومأ برأسه متفهمًا، تنهدت وأكملت:
– بدأ الأمر بالتّقديم لوظيفة سكرتيرة في مكتب وكيل وزارة الطاقة، تزينتُ كما تطلب معاينة من هذا النوع، ولم يفت عليَّ تجاوزهم لأوراقي وشهاداتي واهتمامهم بجمالي والتفاف جسدي، ولكني تعاميتُ، كنتُ خائفةً، وفقيرة، وتنتظرني رضيعة في منزل بلا عائلٍ، ومنذ اليوم الأوّل في عملي أدركت متطلبات وظيفتي، التي لا تقف عندَ ضبطِ مواعيده، وترتيبِ أوراقه، وتنسيقِ اجتماعاته فقط، ولكني أتيت لأكونَ لعبته المفضلة. وقاومت، أقسم أنني قاومت، ورفضت هداياه القيّمة، ووعودهَ المغرية، ولكن عندما هددني بالطرد من الوظيفة، والعودة إلى الشارع بقسوته، والبرّاد الخالي، وبكاء رضيعتي الجَائِعة، أذعنت.
ذهبت في نوبة طويلة من البكاء والخليل يقف منتصبًا بجوارها دون أن يتحدث، مسحت دموعَها بظهرِ كفها وعادت إلى الحديث بصوتٍ مبحوح:
– هذا الشّيءُ الذي تدعونه لِبَأ الحنين، أخذني إلى هناك، إلى ذات اللحظة التي أذعنت فيها، عاد بي إلى اللحظةِ التي استبيح فيها جسدي، جعلني أعيشُ التفاصيلَ الدقيقة كلَّها مرّة أخرى، كلّ لمسة مقززة، وآهة كاذبة، وأنا أتحول من أمٍّ قلقة عاجزة، إلى مجرد عاهرة، كيف بالله عليك أحنُّ إلى لحظة مثل هذه؟ لو أن الأمر بيدي لانتزعت تلك الأيام من ذاكرتي وألقيت بها في قُمامةِ النسيان، باللهِ عليكم كيف تنعتون هذا الشيءَ بلِبأ الحنين، إنّه سم، قاتل محترفٌ، ويتلذذ بتعذيبِ ضحاياه ببطء قبلَ قتلهم.
ظهر الطاهر مقتربًا منهم، فلاذت بالصمت، وعادت إلى الانهماك في عملها العبثيّ، تنزع الأشواكَ من شجيرات الحياة متدثرة بصمتِها، حيَّاهم الطاهر، ردّ عليه الخليل في حين نظرت ماريَّة إليه وعادت إلى الانهماك في عملها مرّة أخرى، ابتعدا عنها بخطوات بطيئة، أشار الطاهر نحو المنزلِ المعلّقِ بين السّحب الزرقاء:
– لم تنزل من هناكَ بعدُ.
كان الخليل منهمكًا في التقاط الأوراق المتساقطة من حوله، وهو يتسكعُ رُفقة الطاهر، نظر نحو المنزل وقال بصوت خافت:
– ليتَها لا تنزل.
قال الطاهر مطمئنًا إياه:
– لا تقلق ليست هي من تظن، للتاسوع قوانينُه التي لا تُخرق.
– ما دامت هي في الأعلى، فسيظلُ وجود ثريَّة مجردَ احتمالٍ، ولكن نزولها إلى هنا، سيحوله إلى يقين لا مفرَ منه ولا قدرة لي على مواجهته.
– هل كنت تحبها إلى هذه الدرجة؟
تنهد الخليل، صمت وهو يتأمل صغير طائر التاسوع يحاول الطيران جاهدًا من دون فائدة:
– كنت مؤمنًا بأن التاسوع قاتلٌ متمرس للمشاعر، يجعل كل ما فينا يذوي، ما عدا الحنينَ والخوفَ، ولكني منذ رأيت ثريَّة، أدركت أن الحبَّ يبقى، يظل مطمورًا تحتَ رماد الخوف، ولكن ما إن ينفخُ فيه حتى ترتد إليه الحياة!
قاطعه الطاهر مكملًا:
– وترتدُّ إليك أيضًا، ربما لهذا لا يجمع التاسوع بين اثنين التقيا قبلُ، حذرًا من عودتهما إلى الحياةِ والأمل والتّطلعِ إلى المستقبل، والحلمِ بسعادة في قادمِ الأيام، ليس من أهدافِ التّاسوع، ولا شيء يدعوه للتنازل عن قواعدِهِ المنتقاة بدقّة، ليأتي بثريَّة إلى هنا، فيخرق ناموسه لعلةٍ غير مفسرة ومبررة عندي.
– تتحدثُ عن الناموس وكأنّ هناك مجلسًا من العقلاء يقوم بإدارته بإحكام، أنا أظنُّ أن كلَّ ما يحدث محض عبث، لا قانونَ له ولا علّة. وجودنا هنا محض صدفة لعينة، ونحنُ نفكر ونعلل بحثًا عن مواءمة ما يحدث مع المنطق، في حين أن كلَّ ما نصل إليه مجردُ فرضيات ليس إلّا، فنحن نفترض أن من يرحل عبرَ الدائرة المظلمة ميِّتًا، وأن مَن يذهب عبرَ الدائرة المضيئة قد عادَ إلى الحياة مرّة أخرى، لم يعد أحدٌ من هناك، ليخبرنا بما يحدث حقًّا، ولا أحدَ لديه إجابة لِمَاذا نحن بالذات من وقع علينا الاختيار لتعميرِ التاسوع، وإن كان كلُّ هذا صحيحًا، فما هي المنطقةُ الموجودة بين الموتِ والحياة التي نقبع فيها هذه؟ ولماذا لم يتحدث عنها أحدٌ قبل ذلكَ.
صمت الخليل مجمعًا أفكارَه قبل أن يكملَ بصوتٍ مغموس في الوجع:
– هل تدرك لماذا لم يتحدث عنها أحدٌ من قبلُ حقًّا؟ لأنه لم يعد أحدٌ من هنا إلى هناك ثانية، هذا هو شعاعُ الأمل الوحيد الموجودُ في التاسوع، وهو برقٌ خلبٌ كاذب. الآتون إلى هنا، آتون من طريق لا عودة منه، هي رحلةٌ في اتجاهٍ واحد يا صديقي.
قال الطاهر مترددًا:
– هناك دراساتٌ طبيّة تتحدث عن شيء قريبٍ من هذا، رحلات تسمى بالموتِ الأصغر، لا تتجاوز ثلاث دقائق على الأكثر، لمن يعانون نقصًا حادًّا في إمداد الأكسجين إلى الدّماغ.
ردَّ الخليل في سخريّة لم يستطع كبحها:
– ثلاث دقائق؟ نحن هنا منذُ دهر من الزمان، وتحدثني عن ثلاثِ دقائق.
قال الطاهر في عنادٍ:
– الزمن يعدُّ نسبيًّا، ما أدراك كم تساوي ثلاثُ دقائق من العالم الأرضيِّ هنا؟
– لا يهمني كمْ تساوي بالطبع، لأن الفرضيّة نفسَها ضعيفةٌ، وغير واقعية، ما زلت مؤمنًا بعبثية كلِّ ما يحدث هنا، نحن في ظلِّ عالمٍ بلا قانون أو منطق، وكلّ محاولة لتبرير ما يحدث، وجعله يقاس بمعيار متزن يفضي بنا إلى مزيدٍ من التيه، والفوضى، ونضطر إلى تجرعِ كل هذا الهُرَاء بحثًا عن راحة لن ننالها حتّى عبور إحدى الدائرتين، وربما لن ننالها حتّى بعدَ ذلك.
قال الطاهر معترضًا:
– نحن لن نستطيعَ أن نحيا دونَ تفكير، ودون السَّعي الإنسانيّ المعتاد،إلى الفهمِ. صدقني، الفضولُ هو الجرثومةُ التي أصابت الإنسانيّة منذ فجرِ التاريخ، ومن دونِها ما كنا سنحاولُ البحث عن علّة وجودنا هنا.
– وهل تظن أن الفضولَ هو من سيجعلنا نفهم هذا العالم الغريب؟
هز الطاهر كتفيه مجيبًا:
– مَن يدري؟ هناك احتمالاتٌ لا نهائية إلى ما سيقودنا إليه الفضول، هل تظنُّ مثلًا أن الإنسانَ في فجر التاريخ، لدغته الأفعى أولًا أم هو من اقترب منها فلدغته دفاعًا عن نفسها؟
مطَّ الخليل شفتيه ورفع حاجبًا واحدًا دلالةً على عدم معرفته ثم قال:
– قدْ تكون الأفعى من يدري؟
هزَّ الطاهر رأسه نافيًا:
– كلّ الكائنات الحية تقتل بدافعِ الجوع أو الإحساسِ بالخطر، المعتاد أن تتجنبَ الأفعى الإنسانَ، ولا تهاجمه إلا إذا أحسّت بالخطر. والإنسان فضوليٌّ بغريزته، وهذه الغريزة هي ما تجعل العيش هنا محتملاً، ما دام أن المغادرة ليستْ بيدنا.
ابتسمَ الخليل والتفت نحو الطاهر قائلًا:
– يكادُ الفضول يقتلني بالفعل من منازل النّاس في التاسوع، كيف لزيرِ نساء مثلِك، أن يعيش في التاسوع متفرغًا؟ في حين أنّ الآخرين يعملون كالسُّخْرَة وهم ليسوا بأسوأَ منك بحالٍ من الأحوال.
– تناقشنا قبلَ ذلك عن أن ما يدورُ في السّريرة هو ما يحدد منزلتك في التاسوع.
لوَّح الخليل بيده نافيًا:
– هذا تبريرُك، وهو يبدو منطقيًّا لو أدركنا جيّدًا ما يدور في سريرةِ الآخرين، ولكنّه غير مقنعٍ بالنسبة إلي، إنه السعي المعتاد نحو المواءمة، ولكني بتُّ موقنًا أَّن ربطَ المنازل بما يعتمل بالسّريرة محضُ هراء. هذا التاسوع غيرُ عادل في ترتيبه، أو أن وجودَنا في تلك المنازل رهن بالمصادفةِ وحدها، فمَن يأت يحل محلَ الذاهب من دون ترتيبٍ سابق، أو علّة منطقيَّة.
اقترب منهما ربيع، ولِبَأ الحنين الجافّ الملتصق بذيلِ قبعته قد تحول لونه إلى الأخضر الدّاكن، ولكنّه لم يبد مباليًا به وانتصب أمامهما لاهثًا، ثم أشار إلى جبال المناجم قائلًا:
– الزبير لا يريد الرحيل، قال إنَّ رحيله سيكون عبر الدّائرة المظلمة وهو لا يرغب في الموتِ الآن.
اتَّخذ الثلاثة طريقَهم نحو جبال المناجم، أضفت الدائرة المضيئة ألوانًا جديدة على التاسوع لم تكن معتادة، تُرى قمم الجبال من هنا مغطاة باللون الأرجوانيّ الممزوج بأشعة الدائرة الزرقاء والسّحب تخترقها من منتصفها، فتبدو للناظر من بعيد كالسحرِ.
فكر الطاهر في العلة في وجود الجمال في التاسوع، لماذا تبدو جبال المناجم جميلةً، ومن الذي يهتم لرؤية هذا الجمال؟ الحياة هنا قائمةٌ على الانتظارِ القلقِ والخوف، ولو أن جمالَ الجبال من هنا يبدو مخادعًا، فحين تقترب منها، لن تبصر سوى الصخور القاسية، بملمسها الناعم، وأطرافها الحادّة. والثلاثة المقيمون هناك، هم أتعسُ أهلِ التاسوع بإجماع الكلّ.
حين دنوا من الجبال، أبصرَ فُوَّهات الكهوف المشرعة، فبدت كوحوشٍ أسطوريّة تقف عندَ حدودِ عالم التاسوع الذي يعرفونه، في حين يعبر الذي لا اسمَ له خلفها، دونَ أن يدرك أحدٌ الوسيلة التي يستخدمها للعبور، وما الذي يوجد خلف جبال المناجم، ربما يختبئ هناك العالم الذي ينشدونَه، أو ربما توجد جميع الإجابات على الأسئلة التي لا تغادرُ تفكيره، أو ربما يوجد ما لا يخطر في بالِه، أو لا يوجد شيءٌ على الإطلاق ما عدا الذي لا اسم له مقيمًا بين حفنةِ من الصخور. ذات لعبة الاحتمالات اللا نهائية، كلّ احتمال يفضي إلى طريق مختلفٍ ونهاية مختلفة، ولكنه لا يملك سوى الانتظار، وعندها ستأتي الإجاباتُ تباعًا، أو هكذا يتمنى، فالأسئلةُ المتراكمة بلا إجابات عليها ليست بأقلَّ عذابًا من لِبَأ الحنين. يظن الخليل أنه بلا عملٍ واضح، ولكنه مؤمن أن الأسئلة التي تتولد في رأسه بآلاف الإجابات المحتملة التي تكادُ أن تفجر رأسه، هي العمل الأكثر مشقةً في هذا العالم، وأشدها تعذيبًا للنفس والجسدِ، مضافًا إليها عزلته الإجباريَّة كي يخلق جحيمه الخاصّ في التاسوع، ولكن لا أحدَ يشعر به على الإطلاق.
يجلسُ الزبير على واحدة من الصخور بجانب مدخلِ الكهف، الذي يشع ضوءًا أخضرَ خافتًا، وبجواره يقف صالح حائرًا، في حين يقف السّر بعيدًا عنهما يحمل معولًا وينهمك بتنظيف قاطرته التي تربض غير بعيد من مدخلِ الكهف، داهمتهم رائحة لِبَأ الحنين وغباره النفاذة، تباطأت خطواتهم، وانحازوا جانبًا من مدخل الكهف تجنبًا للدخان الأخضر الذي يخرج منه، ووقفوا غير بعيد من الاثنين، لوّح الخليل بيده محيّيًا، اكتفى صالح بإيماءة من رأسه ردًّا على تحيته، في حين انكفأ الزبير واضعًا رأسه بين ساعديه، انتبه الخليل لشعر رأسه الذي غلب بياضه على سواده، ولعروق يديه النابضة، وجسده المتداعي. كان التاسوع قاسيًا على هذا الشّيخ الهرم، العمل هنا، ومشقته، والمعاناة من غبارِ الحنين ودخان المناجم، وفي هذا العمر المتقدّم، كأن التاسوع يقوم بفعلٍ انتقامي، وليس البحث عن عدالة مرجوة، أيًّا كان الجرم الذي ارتكبه في حياته الماضية، وأيًّا ما كانت تمور به سريرته، لا يستحق وهو في هذا العمر هذا الجزاءَ، ألا يوجد بند للرحمةِ في قوانين التاسوع هذا؟ أين مبدأ التّجاوز والتّسامح والغفران؟ أم أن عشوائيّة الاختيار وسوء الحظِ هي ما ألقت به عند طرف التاسوع في قلب مناجم الحنين؟
دنا الخليل منه غير عابئ بدخان الحنين المتصاعد من فُتحة الكهف، لفحه الهواء السّاخن، فشعر أنه في بطن حوتٍ ضخم، قلّبَ صالح يديه، وهزَّ كتفيه دلالةً على حيرته، أومأ الخليل برأسه متفهمًا، وضع يده على كتف الزبير، فارتجف الأخير، ورفع وجهًا غارقًا في الدموع، امتزج في عينيه الخوف والرجاء، نظر نحو الخليل فربت الأخير على كتفه:
– أفهم الذي تعانيه، هذا طريق سنسلكه جميعًا، كلّنا نشعر بالخوف مثلك، لا يُوجد في الكون شيءٌ أكثر رعبًا مثل المجهول.
– أنحن موتى أم في الطريق إلى الموت؟ هل هذا هو الجحيم؟
تنهد الخليل قائلًا:
– لا أحد يستطيع الإجابة عن سؤالك هذا، ولكن لا يبدو لي أنّنا الأموات، لو كنا موتى هل كنا سنحن ونخاف ونأمل، الموتى في غفوةٍ طويلة على ما أظنّ.
– هذا يومي التّاسع، قضيت ثمانية قبله، ولم أفهم لِمَا نحن هنا، وما هي العلة من وجودنا، تمنيت صادقًا أن أكون مثل الشيخ جابر، الذي ذهب إلى المجهول مبتسمًا، ولكن كل ما أشعرُ به الآن هو الخوف، يجتاحني كالسّيل، ويفتني إلى قطع صغيرة لا أقوى على جمعها.
– الشيخ جابر لم يكن يخشى الموت، خوفنا الأعظم، بل تآلف معه، وذهب إلى الدائرة المضيئة وكأنه ذاهب إلى المسجد، كلّنا نغبطه على هذا، ولكن يا للأسف لا نملك خيار المقاومة!، فعدونا هو المجهول الذي رسمَ لنا طريقًا لا حياد عنه.
قال صالح الذي ظلّ مستمعًا لفترة طويلة:
– المخيف حقًّا هو انتظارُ نهاية أيامنا هنا، يبدو الأمر تمامًا مثل المحكوم بالإعدام، والذي يعد الأيامَ في انتظار يومِه المعلوم، نحن مثلُه، نموت كل ما انقضى يومٌ وبعث يوم آخر.
صمت الجميعُ للحظة ثم قال الخليل:
– بل إنما نعانيه أشدّ قسوةً، المحكوم بالإعدام يدرك أن مصيرَه الموت، ورغم الرعب الذي يتربص به هذا اليوم، فإنّه في النهاية سيجد راحةَ اليائس، المستسلمِ لقدره، ولكننا هنا، نتجرع جهلنا بالمصير الذي ينتظرنا، وإن أدركنا ميعاده، نتشبث بالأمل الكاذب بالنجاة، ولا نجني حتّى راحة اليأس التي ينالها المحكوم بالإعدامِ.
أتى صوتُ الزبير كالعويل:
– لا قدرة لي على الانتظار، أرغب في الموت الآن، لا أريدُ عبور إحدى الدائرتين، أيُّ عالم هذا الذي يصادر حتى حقّنا في الانتحار.
زفر الخليل ثم قال بصوت خافت:
– تشبث بالأملِ الكاذب، لا مفرَ من الحلم حتى وإن كنا على شفا الموت، قد تعبر الدائرةَ المضيئةَ وتجد فرصةً أخرى لرؤية حفيدتك التي تشتاق إليها، ألا يستحق الأمر المحاولة على الأقل؟
أطلق الزبير ضحكةً مريرة وردَّ بصوتٍ مبحوح:
– لا يهب التاسوع فجرين متتاليين، وقد ولد الفجر بين يدي الشيخ جابر، وأنا سأهبكم الظلام، وأغادر عبرَ دائرته المخيفة.
علا صوته قليلًا مكملًا:
– لن أرى حفيدتي مرّة أخرى.
نهض من جلسته كمَنْ أصابه مسٌّ، وركض نحو حافة الجبل بالقرب منهم، صرخ صالح من هول المفاجأة، وجحظت عينا ربيع، ومدّ الخليل يديه محاولًا إمساكه ييأس، واكتفى الطاهر بالمتابعة مندهشاً.
قفز الزبير من أعلى الجبل أمام أعينهم، أطلق الخليل سبابًا بذيئًا، وصرخ صالح صرخة أخرى كأنّما يُحتضَر، اقترب الطاهر من الحافة بحذر ونظر إلى الأسفل، تصلّب في مكانه، فاندفع الآخرون لرؤية ما حدث، وجدوا الزبير معلقًا في الهواء بقوة خفيّة لا يدركونها، ولا يخضع لقانون الجاذبيّة الذي يعرفونه، ركل الطاهر حجرًا بجواره، فاندفع نحو الهاوية بسرعة جنونيّة، مرتطمًا بحافاتِ الصخور، دونَ أن يفارق خطه المستقيمَ نحو الأسفل وعلى العكس من ذلك، ارتفع الزبير إلى أعلى مقتربًا منهم ببطء، تراجعوا إلى الخلف وهو يمرّ مرتفعًا بمحاذاتهم، ثم علاهم وكأنه يحلقُ في السّماء، وعبر من فوق رؤوسِهم جاحظَ العينين، يسمعون صوت لهاثه وكأنه يركض، ثم دفعته يد خفية نحو المنجم فهوى مرتطمًا بالصخور، وتكوم في مكانه من دون حركة، ركضوا نحوه، وحين اقتربوا منه أتاهم صوتُ أنينه الخافت، رفعه الخليل وربيع، وحين أداروا وجهه نحوهم، رأوا الدماء تغطي وجهَه مختلطة بدموعه، تعاون الاثنان على حمله، و أسنداه إلى صخرة تنتصب بجوار مدخل الكهف، وتراجعوا إلى الخلف وصالح يمسح الدماءَ بكفه عن وجه رفيقه في مناجم الحنين بجزعٍ، في حين أدرك الآخرون عقوبةَ التاسوع القاسيّة ويده الباطشة لمن يحاول خرق قوانينه، والتّحرر من قيوده.