15 نوفمبر، 2024 10:49 م
Search
Close this search box.

السينما الكوميدية وكتابة تاريخ مقاومة الاحتلال البريطاني

السينما الكوميدية وكتابة تاريخ مقاومة الاحتلال البريطاني

خاص : دراسة بقلم – علاء الشرقاوي :

مدخل:

علاقة السينما بالتاريخ..

بشكلٍ عام؛ فإن العلاقة بين السينما والتاريخ لهي علاقة وثيقة لا شك في هذا، خصوصًا لو كنا نتكلم عن تسّليط السينما على جوانب بعينها في المجتمعات قد لا تُغطيها الوثائق أو المواد التقليدية لكتابة التاريخ، فتكون في هذا مثلها مثل المصادر غير التقليدية كافة. ولكن الحالة التي نُسّلط عليها الضوء في الأسطر القادمة هي مختلفة بعض الشيء، إذ أن الحديث هنا سّيدور حول تجربتين سينمائيتين في خمسينيات القرن المنصرم تحدثتا عن مقاومة الاحتلال البريطاني وسّجلتا بعض الوقائع لا شك في هذا، ولكنها أيضًا على الجانب الآخر رسّمت صورة معينة مطابقة لأهداف صناع الفيلم والسلطة المتحكمة في الخلفية، وعليه يمكن أن نقول أن الفيلمين محل الحديث هنا لهم صفة العلاقة الجدلية بين فكرة الوثيقة التي تؤرخ لواقع معين كان قائمًا وقت إنتاج الفيلم، وأكثر من ذلك طبيعة كتابة التاريخ الذي يُسّجل وقائع معينة وفقًا لآراء وإنحيازات صاحبه، ولكنه هو الآخر يحمل مادة تاريخية إذا ما كان موضوعنا هو كيف تم كتابة الحدث لا الحدث نفسه.

لمحة تاريخية..

وقبل أن نخوض في موضوع المقال، فمن الضروري تقديم الخلفية التاريخية للأحداث.

وقّعت كل من مصر وبريطانيا في آب/أغسطس من عام 1936؛ المعاهدة “الأنكلو-مصرية”، التي حددت من منطقة قناة السويس مقرًا للقوات البريطانية وحصّرت عدد هذه القوات وما إلى ذلك، وكانت في الواقع مجحفة بمصر، إذ أنها بداية أعطت شرعية وجود قوات الاحتلال فوق الأراضي المصرية وجعلت من مصر حليفًا لبريطانيا في الحرب التي كانت وشيكة آنذاك، وعلى كل حال كان من الواضح أن المعاهدة مؤقتة حتى تغير الظرف الدولي القائم آنذاك، وهو ما حدث إذ بعد عِقد من توقيع المعاهدة قامت المظاهرات داعية إلى تغييّر المعاهدة بما يتناسّب ومصالح مصر، لتبدأ أزمة جديدة ويظهر في المجتمع المصري صوت مقابل يرفض المفاوضات ويُطالب بالانسّحاب الكامل غير المشروط لقوات الاحتلال – وهو صوت لم يختفي تمامًا فيما سبق -، في الوقت الذي تحدث فيه حزب الأغلبية عن حقه في الوصول للحكم والتفاوض بدلًا من الأقليات وهو الأمر الذي لما تحّقق  لم يقود الاحتلال إلى قبول اٌقل مما أراد فرضه؛ الأمر الذي دفع بزعيم الأغلبية “مصطفى النحاس”؛ في 8 تشرين أول/أكتوبر 1951؛ إلى إلغاء معاهدة عام 1936، لتبدأ بذلك عمليات الفدائيين ضد الاحتلال في منطقة القناة حتى توقفت بتغيّر الحكومة في أعقاب حريق القاهرة يوم 26 كانون ثان/يناير 1952، لتعد الحركة إلى نشاطها بعد استقرار الضباط الأحرار في السلطة لتشهد تحولًا من كونها حركة شعبية واسعة تضم صنوفٍ شتى من القوى السياسية وأصحاب التوجهات المختلفة إلى حركة تحت سّيطرة الدولة بالكامل موجهة لخدمة المفاوضات؛ كما يذكر أحمد حمروش في الجزء الثاني من كتابه (قصة ثورة 23 يوليو)، لتنتهي حركة الفدائيين بالوصول إلى مشروع المعاهدة ولا تعود إلا مع التوترات اللاحقة على تأميم قناة السويس في عام 1956.

الفيلم الأول:

“شمشون ولبلب”

لهذا الفيلم نصّيب عظيم من الشهرة ومن الاهتمام به؛ فالفيلم على الرغم من مرور 71 عامًا على إنتاجه لازال يُعّاد عرضه على القنوات الفضائية ونجد له شهرة لدى الأجيال التي ولدت بعد عرضه الأول، كذلك فللفيلم نصّيب لا بأس به من التناول بأشكال مختلفة بين الدراسات وبين الصحف… الخ.

فنجد من نماذج الدراسات كتاب محمود عبدالشكور (كيف تُشاهد فيلمًا سينمائيًا)، والذي وصفه بأنه أحد خمس أفلام سياسية ماكرة؛ منتبهًا للفكرة السياسية في الفيلم.

والفكرة السياسية مسّتترة وراء الإسقاطات الكثيرة، ولكنها تظهر بالتدقيق فيها، فالقصة تدور حول “لبلب” صاحب المطعم الشعبي في أحد حواري القاهرة وخطيب “لوزة” ابنة صانع الأحذية الطماع، وعناصر الحارة واضحة من خلال المحلات الموجودة فكلها تحمل شعارات الحركة الوطنية، مثل: “كشك الموسيقى الوطنية”، أو محلات: “الجلاء، الوحدة، الحرية، القناة”… الخ.

وتظهر شخصية “شمشون” بوصفه صاحب مطعم غربي أو صالة منوعات بين مطعم وعلبة ليل للرقص والخمور، وهو شخصية قوية من حيث البنيان الجسدي دخل الحارة منافسًا لـ”لبلب” لا في مصدر الرزق فحسّب، بل أيضًا على “لوزة” التي يصل إليها من باب أبيها الطماع. وهذه الشخصية واضحة فيما تُمثله من إسّقاط على المحتل الأجنبي الجاسّم على صدور المصريين آنذاك ودخل البلاد من خلال ما هو أشبه بدخول “عنتر” للحارة؛ معتمدًا على جيشه من المُرابيّن ومن أصحاب الحانات الأجانب الذين انتشروا في البلاد وتحدثت عنهم صحف الحركة الوطنية واحتفظ الوعي الجمعي للشعب بذكريات انتشارهم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

وعناصر الحارة أيضًا تُعبّر عن النسيج الوطني في ذلك الوقت والتعدد الذي شهده المجتمع، من ذلك البقال اليوناني الذي كان معجبًا بـ”لبلب” وبسّالته؛ ولعلها إشارة لتغيّر طبيعة قطاع من الأجانب المقيمّين في مصر من احتياطي للاستعمار إلى احتياطي لقوى التحرر.

والفيلم على الرغم من اعتماده على الإسّقاطات بشكلٍ رئيس، لكنه مع ذلك لم يغّب عنه التصريح في واحد من أجمل مشاهده وهو مشهد التفاوض بين “لبلب” و”رضوان” نائبًا عن “شمشون”، فعلى لسّان “القصري” يظهر الأمر حينما يقول: “الأرصدة والقنال”، في تعبير عن أزمتي قاعدة قناة السويس وأزمة الأرصدة الإسترلينية التي جمدتها إنكلترا للضغط على مصر في ذلك الوقت، وفي ختام المشهد أيضًا حينما يتوجه “شكوكو” إلى الكاميرا مهاجمًا السياسة الاستعمارية في شخص “رضوان” معلنًا انتهاء طريق المفاوضات؛ فإما الجلاء وإما القلم السابع، أي استمرار المقاومة. ولعل هذا المشهد بالرغم من نسّبة الكوميديا به إلا أنه مشهد جادي جدًا ربما أفضل ما يُصّور عملية المفاوضات “الأنكلو-مصرية” آنذاك.

الفيلم حتى هنا هو أشبه بكتاب تاريخ (مكتوب كتابة مسّتترة غير مباشرة)، ولكنه مع ذلك يُقدّم بعض اللمحات عن مصر في ذلك الوقت، ناهيك عن المفردات المسّتخدمة، إلا أنه يُظهر مثلًا على الهامش تعليقات حول حال الطرق في القاهرة آنذاك، بالإضافة إلى وجود طبيب التجميل الأجنبي أيضًا الذي كان “شمشون” ذاهبًا له، كذلك حال المطار والطيران في مصر آنذاك.

وما دمنا ذكرنا هذا الفيلم؛ فلنقف دقيقة عند جدال أثاره ويُثيّره الفيلم خاص بتغير اسمه.

من “شمشون” إلى “عنتر”

فبالبحث عن الفيلم اليوم؛ نجد أن اسمه تحول إلى (عنتر ولبلب)، أي أنه لم يٌعد “شمشون ولبلب”، وحول هذا دارت الأحاديث، ولا أدعي أنني أملك جديد في تأكيد أي من هذه الروايات أو لدي حتى رواية أخرى، وإنما فقط يمكن أن نقول أن الأدلة كلها تسّير في اتجاه النفي لما سّاد على اختلاف درجة الانتشار. وقبل الدخول في التفاصيل، فإن من يُشاهد الفيلم يُلاحظ ان نطق اسم “عنتر” مفتعل ليس بطبيعي بتقنّية تركيب الصوت، ولا يظهر اسم “شمشون” صراحة غير مرات قليلة من ذلك الظهور الأول لـ”سراج منير” وأهالي الحارة يتحاكون بما سّمعوه عنه في رهبة، أو في مشهد الصفعة الثالثة حينما يُذيع مقدم الحفل: “وحسّرتاه لقد فشل شمشون”.

فالرواية الغالبة والتي يرويها محمود عبدالشكور في كتابه المذكور سابقًا، والتي نجدها مكررة في كل مكان هي أنه جاء اعتراض يهودي على اسم “شمشون” نظرً لارتباطه بأحد الشخصيات اليهودية، والبعض يتلقى هذه الفكرة ويسّير بها إلى أن الاعتراض كان صهيونيًا لا من يهود مصر.

ويُمّدنا الأستاذ الدكتور محمد عفيفي في دراسته عن “شكوكو”؛ المنشّورة ضمن كتابه (تاريخ آخر لمصر)، عدة روايات عن سبب تغيير الاسم لا يتبنى أي منهم ويكتفي بعرضهم، فبعد أن يعرض الرواية الأولى الخاصة بمسّألة اليهود، يُنفيها استنادًا إلى أن إنتاج الفيلم كان عام 1952 أي بعد أربع سنوات من حرب فلسطين؛ الأمر الذي يجعل دور اليهود في المجتمع غير مؤثر، وهو أمر منطقي أن يتأثر نفوذ يهود مصر بعد النكبة، ولكن لم يختفوا بشكلٍ كامل إلا بعد ذلك.

والرواية الثانية هي أن صعوبة اسم “شمشون” على لسّان غالبية الشعب المصري آنذاك، وهو أمر أيضًا يمكن الرد عليه من خلال أن رواية “شمشون ودليلة” كانت تُعرض سنوات طوال وكان لها شعبية؛ وأن اسم “شمشون” نفسه كان اسمًا لعائلة قبطية في صعيد مصر كما تبيّن من البحث في أرشيف الأهرام باسم “شمشون”.

الرواية الثالثة تقول بأن الهدف كان قوميًا مصريًا من خلال استخدام شخصية “عنتر”، وهي رواية لا أجد دليل مادي قائم يُسّاعد على نفيها تمامًا خصوصًا وأن حتى هذه الفترة لم يكن أمر الانتماء المصري محسّومًا لصالح العرب بشكلٍ صريح، فحتى وإن كانت مصر في ذلك الوقت عضو في جامعة الدول العربية وأفكار وحدة العرب تجد انتشارًا بين قطاع من المصريين، لكن كانت الأفكار المضادة التي تؤكد على انفصال مصر عن محيطها العربي بل تدمجها في إطار آخر هو إطار البحر المتوسط والحضارة الأوروبية قائمة ولها قوتها؛ خصوصًا بين قطاع من المثقفين. كذلك لا يوجد ما يؤيدها وحتى النظرة لمصر كدولة منفصلة عن المحيط العربي لم تكن وحدها، ولكن من الواضح أن الفترة التالية على الحرب شهدت رواجًا لربط مصر بالمحيط العربي.

ولنّعد قليلًا هنا إلى الرواية الأولى؛ والتي كما سّبق الأكثر انتشارًا، تقوم هذه الرواية على حبكة تقول بأن الفيلم بعد عرضه تم سّحبه من السوق لتعديل اسم “شمشون” إلى “عنتر” نتيجة للضغط اليهودي، وتقوم هذه الرواية عند محمود عبدالشكور على أساس من أن بداية عرض الفيلم كانت في آذار/مارس 1952، وهي معلومة خاطئة إذ أن ظهور الفيلم طبقًا للصحف المصرية كان بداية من 17 نيسان/إبريل؛ وكذلك أفيش الفيلم يُمّدنا بالمعلومة ذاتها، وبالعودة لأرشيف الجرائد المصرية نجد أن ظهور اسم “شمشون ولبلب” ممّتد منذ يوم 17 نيسان/إبريل إلى 13 آيار/مايو 1952، أي أن الفيلم استمر قرابة شهر في دور العرض ذاتها إلى أن رُفع منها؛ وهذه المدة تعتبر مدة منطقية.

الأمر لا ينتهي هنا أيضًا، إذ أن الفيلم أعيد عرضه على شاشات السينما المصرية من ناحية، وبثّه التلفزيون المصري لسنوات منذ إنشائه في عام 1960، ونُلاحظ من خلال أرشيف (الأهرام) أن إعلان بثّ الفيلم تلفزيونيًا جاء باسم (شمشون ولبلب) حتى عام 1987؛ إذ تغيّر بعدها إلى (عنتر ولبلب).

على الجانب الآخر؛ عندما أعيد عرضه في عام 1966؛ نشرت جريدة (أخبار اليوم) إعلانه، ولكن هذه المرة باسم (عنتر ولبلب)، لكننا مع ذلك لا نجد أي إشارة في الصحف طوال هذه الفترة لعملية تغيير اسم الفيلم، ونجد أنفسنا أمام تساؤل بسيط نوعًا ما، وهو: لو كان ما يُقال حول الفيلم صحيح بأنه حورب من الحكومات الرجعية في نهاية عهد فاروق؛ لماذا لم يُعاد عرضه بوصفه الفيلم المحارب من العهد البائد كما أمور أخرى كثيرة ظهرت في هذه الفترة بهذه الصفة ؟.. أو كان أعيّد اسم الفيلم لما كان عليه خصوصًا مع تبلور الصراع بين مصر والكيان الصهيوني سواء بعد افتضاح أمر شبكة الجاسوسية الصهيونية في عام 1954 أو بعد غارة غزة 1955؛ لو كان التغييّر نتيجة للاعتراض اليهودي.

ومن اللافت أيضًا أن هناك نسّختين للفيلم شاهدتهم؛ في واحدة منهم جرى حذف صورة الملك من مشهد قسم الشرطة أو التشويش عليها، والثانية وهي الموجودة على الإنترنت حاليًا لا يختفي فيها الملك بما يعني أنها غالبًا النسّخة الأصلية التي عُرضت في البداية، ومع ذلك فالاسم أيضًا جرى تعديله صوتيًا وكذلك العنوان.

من الجدير بالذكر في ختام الحديث حول هذه النقطة؛ أن الشخصية الرئيسة تجاريًا في الفيلم كانت شخصية “شمشون”؛ التي أداها “سراج منير”، لذلك نجد اسمه متصدرًا قبل اسم “شكوكو” في الأفيش وفي تتر الفيلم بينما يأتي اسم “شكوكو” في النهاية بعد عرض أسماء الممثلين مصحوبًا بكلمة: “بطولة”، وهو أمر لا يعني شيء في ذاته إلا لو نظرنا إلى ارتباط اسم “سراج منير” باسم “عنتر” من خلال فيلمه الصادر في عام 1948؛ باسم (مغامرات عنتر وعبلة)، والذي قد يكون سببًا في تغيّير اسم الشخصية الرئيسة، ولكن تبقى هذه الفكرة ضعيفة هي الأخرى إذ لو كان هذا صحيحًا لماذا تغيّر الاسم نطقًا في الفيلم وبقي عنوان الفيلم نفسه طوال هذه الفترة (شمشون ولبلب) ؟

على أية حال؛ فالفيلم يحتفظ بإمتاعه وفكرته الرئيسة رُغمًا عن تغييّر الاسم وأيًا كان سبب تغييّر الاسم، وسيظل الفيلم جزءً من الذاكرة الجمعية التي سّجلت مقاومة الاحتلال حتى ولو بأسلوب الرمز والتورية، ولكن كان عرض مسألة الاسم في رأيي مهمًا بالنظر لما دار حولها من جدال.

الفيلم الثاني:

“كيلو 99”

هنا نكون أمام تجربة أخرى مشابهة لما سّبقها في مسألة كون الفيلم وطني فكاهي، وكونه كتاب تاريخ أيضًا، إلا أنه مختلف عن الأول في نقطتي المباشرة بدلًا من التورية والرموز وأنه ككتاب تاريخ مُعبّر عن الطرف المتحكم الذي أراد أن يصنع تاريخ متماشي مع مصالحه أو يخلق به ذاكرة جديدة حتى لمن عاش وعاصر الأحداث التي يتحدث عنها الفيلم كجزء من عملية فرض روايته والترويج لها باستخدام السينما الفكاهية، وعلى الرُغم من هذا فالفيلم أيضًا له أهميته كذاكرة حافظت على وقائع يمكن تذكرها بمشاهدته، كما يختلف أيضًا في أنه لم يحّظ بالحديث عنه باستفاضة ولا الانتباه له فضلًا عن نُدرة عرضه على الشاشة الصغيرة وعدم انتشار أغنياته. ويُشّير موقع السينما إلى أن العرض الأول للفيلم كان في 18 حزيران/يونيو 1956، أي بالتزامن مع إتمام الجلاء البريطاني عن قاعدة قناة السويس.

وقبل الدخول في تفاصيل الفيلم؛ أرى أنه من الأفضل الحديث عن لمحة تاريخية بخصوص منطقة “الكيلو 99”.

كما سّبق وذكرت في اللمحة التاريخية العامة في أول المقال أنه في آب/أغسطس من عام 1936؛ وقّعت المعاهدة “الأنكلو-مصرية” والمعروفة بـ”معاهدة 1936″، والتي حدّدت وجود القوات البريطانية في غير أوقات الحرب في منطقة قناة السويس. وعلى هذا الأساس كانت تُعتبر منطقة القناة في واقع الأمر مسّتعمرة بريطانية وكانت منطقة “الكيلو 99″؛ طريق “القاهرة-السويس” الصحراوي، هي بداية النفوذ العسكري البريطاني الصريح.

فنجد على سبيل المثال؛ شوقي عبدالناصر في كتابه (ثورة عبدالناصر)، يذكر منطقة “الكيلو 99” كبداية للمناطق الخاضعة للنفوذ البريطاني الممّتد حتى سيناء شرقًا (مع ملاحظة أنه يذكره بوصفه نقطة على طريق الإسماعيلية لا السويس).

كذلك نجد كتاب (محاكمات الثورة)؛ والصادر عن شؤون محكمة الثورة، يذكر “إبراهيم طلعت” في معرض دفاعه إبان محاكمة “محمود شكري” في الجلسة الحادية عشرة؛ المنعقدة في 12 تشرين أول/أكتوبر 1953، وجود بوابات بريطانية عند “الكيلو 99” طريق السويس متخصصة في تفتيش المارة.

ويذكر عبدالرحمن الرافعي في كتابه (مقدمات ثورة يوليو)، أن “الكيلو 99” كان نقطة التفتيش البريطانية الأولى؛ والتي تفنّنت في إذلال المصريين سواء مسّتقلي السيارات أو القطار.

وبالبحث في أرشيف (الأهرام) نجد عدة مواد في تشرين ثان/نوفمبر 1951 (بعد قرابة شهر من الإعلان المصري الغاء المعاهدة)، ذكر لعدة حوادث في منطقة “الكيلو 99” طريق السويس الصحراوي بوصفه مقر معسكر لقوة بريطانية، وفي 11 تشرين ثان/نوفمبر تحديدًا نجد إحدى المواد الصحافية تُشير إلى إيقاف القوات البريطانية للسيارات المارة عند هذه النقطة في الطريق ومعاكسّة مسّتقليها.

وفي جريدة (المصري)، أن هناك قوة بريطانية معسكرة في منطقة “الكيلو 99” طريق “القاهرة-السويس” الصحراوي تتفنّن في إذلال المارة المصرييّن بينما تُمّرر الأجانب، وسّرقت كاميرا من صحافي في مجلة (المصور) وتتحرش جنسيًا بالسيدات بحجة التفتيش.

بما يعني أن هذه المنطقة كانت سّيئة السّمعة بين المصرييّن المارين في هذه المنطقة؛ وحتى غير الماريّن الذين وصلت إليهم الأنباء عما يحدث.

أما عن قصة الفيلم؛ يتحدث الفيلم عن “حمادة”؛ (عبدالغني السيد)، سائق الشاحنة المتعاون مع الفدائييّن صباحًا والمطرب في فرقة “ماري منيب” ليلًا، الذي يمّر على طريق “القاهرة-السويس” بشكلٍ مسّتمر ويتعرض هناك لمضايقات القوات البريطانية مرة مع زميل رحلته “بقو”؛ (إسماعيل يس)، ومرة مع فرقته وهي المرة التي يختطف فيها أسيرًا ويُحرره “بقو”، الذي يختطف جنديان بريطانيان بالحيلة ويحتجزهما فوق سطح منزله في عشة الفراخ بعد زفة وفرح في الحارة؛ ثم ينضم بعد ذلك لـ”كتائب التحرير” حتى إتمام اتفاقية الجلاء في تشرين أول/أكتوبر 1954. وكما قلت سابقًا فالفيلم هنا يتحدث صراحة عن عدو محّدد هو القوات البريطانية المعسكرة عند “الكيلو 99” طريق السويس، والطرف الوطني واضح وصريح والطرف الخائن أيضًا واضح في متعهد تموين معسكر الاحتلال.

وتظهر أهمية الفيلم كوثيقة تاريخية؛ حينما يتحدث عن منطقة “الكيلو 99” بوصفها المنطقة التي يتعرض فيها المصريون إلى مضايقات بريطانية، ويظهر الموقف الشعبي في الفيلم من خلال غناء “إسماعيل يس” مونولوج (فتشّني يا جوني)، والذي فيه يروي تفنّن القوات البريطانية في مضايقة المارة وسّرقتهم وفي فظائعهم تجاه الأهالي في منطقة القناة إذ يسّرقونهم ويهدمون بيوتهم باستخدام القوات العظيمة: “يا لاطش الساعات وصيغة الستات وجاي بالدبابات وسّرب الطيارات تهد عشتين أو تسّرق فرختين”، بينما يُهّابون قوات الفدائيين: “قدامك المجال يا جندي يا شجيع يا خايف من خيال كتائب التحرير”. كما ينقل الفيلم وجهة نظر المصريين الأخلاقية في هؤلاء، فتظهر نساء المعسكر بمظهر الفتيات اللعوب ويظهر حبهم للكحوليات بمظهر يقوم على أساس من اعتبار شرب الكحوليات منافٍ للأخلاق، بل وبمثابة سُبة للبريطانيون الذين يُعاقرون الخمر في معسكراتهم؛ (ربما يمكن استخدامه في إطار من محاولة التعرف على الموقف العام من الكحوليات وشربها في فترة معروفة بانفتاحها عامة؛ وخاصة تجاه الكحوليات مقارنة بالفترة الحالية). ومن الأمور اللطيفة التي نجدها في مونولوج (فتشني يا جوني)؛ سابق الذكر، هو قول “إسماعيل يس”: “أجيب رومل منين يديكم علقتين”، وفي الواقع هذه إشارة لإظهار فكرة المقاومة في وقت الحرب العالمية الثانية على طريقة عدو عدوي صديقي؛ وأيضًا متماشية مع فكرة المقاومة لدى الدولة، إذ بعد أشهر من عرض الفيلم كان العدوان الثلاثي وكان من أسلوب “كتائب التحرير”؛ كما يروي أحمد القصير في كتابه (حدتو ذاكرة الكفاح المسّلح في القناة 51 وبورسعيد 56)، أن “كتائب التحرير” قامت بتوزيع منشورات على الجنود الفرنسيين تُذّكرهم بهزيمتهم في الحرب العالمية الثانية وتصف الفرنسيات بالعاهرات، كذلك ذكرت الإنكليز بهزائم قواتهم في الحرب العالمية الثانية، وإن كنا نشك في دقة رواية القصير لأسباب عدة من بينها أن الشك في المصادر هو خطوة أساسية في البحث التاريخي، إلا إننا لا يمكن أن ننفي أن هذا الأسلوب في الدعاية كان معروفًا ومطروقًا سواء في الدعاية الموجهة داخليًا لرفع الروح المعنوية بالاستهزاء بقوات الغزاة أو الموجهة إلى الغزاة أنفسهم لإحباط روحهم المعنوية وتذكيّرهم بحقيقة أنهم هُزموا قبل ذلك.

وفي الفيلم تظهر فكرة “الوحدة” من خلال الخادم النوبي؛ (الظهور النمطي لشخصية النوبي في الأعمال الفنية المصرية طوال تلك الفترة)، في المنزل الإنكليزي؛ (الذي ربما هو منزل السفير)، الذي تُعّلق فيه صورة “تشرشل” لا صورة الملكة، وعلى الرغم من عمله هناك لا ينسّى أنه بين أعدائه فيُظهر غضبه المكتوم على متعهد تموين المعسكرات عندما ينظر إليه غاضبًا وعندما يسُّبه بينه وبين نفسه، وهو أيضًا يتعاون مع الفدائيّين ويبلغهم بالمعلومات التي تصل إليه، بالإضافة إلى فرح السوداني على مصرية الذي تُحيّيه فرقة “ماري منيب” ويُغني فيه “عبدالغني السيد”: “أدي بنت النيل ويا ابن النيل والأرض الغالية بتحميكم الحب قديم والأصل كريم و قلوبهم حنوا لبعضيهم”، في إشارة إلى وحدة الشّعبين، وفي مشهد الفرح نفسه تعرض رقصة سودانية في أعقاب الرقصة المصرية في أمر شبّيه بتعريف الجمهور المصري بالفن السوداني. كذلك يظهر في الفيلم دور المرأة في المعركة، ولكنه أيضًا ظهور نمطي نوعًا ما من خلال التوقف عند إبلاغ الشرطة بالمعلومات المتوفرة، ولكن هناك ظهور آخر من خلال مشاركتها “بقو” في تحرير “حمادة” من معسكر الإنكليز، ولكن كلاهما يظهر في نهاية الفيلم في الاستعراضات العسكرية سواء الفرقة السودانية أو الفرقة النسائية؛ (والتي هي مشاهد حقيقية لاستعراضات عسكرية تظهر فيها أسلحة الجيش الحديثة)، ولكن يبقى الظهور الدرامي ظهورًا نمطيًا في رأيي حتى وإن كان يؤكد على أن هناك مشاركات جادة، وحتى الظهور النمطي له أساسه التاريخي في طبيعة الأعمال التي مارسّها القطاع الأوسّع من النوبيّون آنذاك؛ والتي يمكن أن تكون محورًا لمقال آخر.

الفيلم يبدأ بعام 1951؛ مع إلغاء الاتفاقية “الأنكلو-مصرية”؛ (ولكن طبعًا من دون ذكر اسم رئيس الوزراء الذي ألغى الاتفاقية في خطابه التاريخي)، ولكنه يعرض الأمر بمظاهرة حاشدة تهتف ومشمش الابن الصغير لماري منيب يهرب للمظاهرة ليهتف هناك بوحدة مصر والسودان، ومشهد المظاهرة وهو مشهد حقيقي تم دمجه في الفيلم؛ سنعود له في نهاية الفيلم مرة أخرى على أنه مظاهرة احتفالية بتوقيع اتفاقية الجلاء في تشرين أول/أكتوبر 1954، وهي محاولة صناعة ذاكرة تقول بأن المعاهدة قوبلت بالترحيب التام، في الوقت الذي تمّدنا فيه بعض المصادر التاريخية أن الأمر لم يكن كذلك، إذ يذكر أحمد حمروش في الجزء الثاني من كتابه (قصة ثورة 23 يوليو)؛ أن المعاهدة كانت أقل مما طّمح إليه الشعب، وتفسّير عدم الرضا الشعبي الذي تحدث عنه حمروش هو لإعطائها الحق لبريطانيا في إعادة احتلال القناة في مدة 7 سنوات ما إن تعرضّت الدول العربية أو تركيا لهجوم عسكري.

كذلك فإن الفيلم يُصّور عملية المقاومة في القناة بوصفها كانت حكرًا على طرف واحد منذ البداية إلى النهاية؛ وهذا الطرف هو “كتائب التحرير”؛ التابعة للدولة، بما يتماشى مع عملية مصادرة الكفاح المسّلح من القوى المتعددة التي ارتبطت به في المرحلة الأولى السابقة على تموز/يوليو 52، ليُصبح موجهًا في خدمة المفاوضات يشتعل كلما تعثرت المفاوضات ويهدأ كلما سّارت بهدوء، ويمتّد الأمر أكثر من هذا فيُظهر ضابط الشرطة الذي يأتي ليُحرر الأسّيرين البريطانيين ويطلب من “بقو” إذا ما أراد المشاركة في عملية المقاومة أن يكون ضمن إطار “كتائب التحرير” المشّرف عليها من الدولة؛ والأمر هنا مرتبط بنقطة إخفاء “النحاس” الذي ألغى المعاهدة التي سّبق وذكرناها، فالفيلم يُريد محو ما سّبق على 23 تموز/يوليو 1952، لهدف سياسي يتماشى مع الطبيعة الدعائية للفيلم، وهو بهذا يمّدنا بمادة لا بأس بها عند تناولنا لصناعة الدولة الناصرية للتاريخ في ذلك الوقت، فضلًا عن تقديمه لنا ما يمكن أن نقول عنه كتاب تاريخ يصنع لصناعة وعي المتلقي.

ولكن هذا لا ينفي قيمة الفيلم التاريخية وما حفظه لنا عما كان يحدث في “الكيلو 99” طريق “القاهرة-السويس” الصحراوي؛ وما عاناه المصريون الذين اضطروا لعبور هذه النقطة من الطريق، كل ذلك في إطار كوميدي يمكن لنا ان نسّتفيد منه في إنعاش الذاكرة الوطنية التي تناسّت حقائق ما حدث في الماضي.

ختامًا؛ فعلى الرغم من هدف الإضحاك في الفيلمين، إلا أنهما لهما دور لا بأس به في الحفاظ على جانب من التاريخ المصري المعاصر، سواء من خلال رواية الأحداث التي تُدّلنا على الأفكار العامة التي سّادت أو ما أراد الطرف المُسّيطر تصديره أو الحفاظ على وجوده في الذاكرة العامة الذي هو أشبه بكتاب التاريخ، وما تم حفظه بطريق الصدفة في إطار الدراما من عبارات بعينها أو أفكار… الخ.

…………………………………………………………………

مصادر ومراجع المقال:

أحمد حمروش، (قصة ثورة 23 يوليو) ج 1 و2.

أحمد القصير، (حدتو ذاكرة الكفاح المسّلح في القناة).

أرشيف دوريات (الأهرام، المصري، أخبار اليوم) ودورية (الجزيرة) الأردنية.

شوقي عبدالناصر، (ثورة عبدالناصر).

عبدالرحمن الرافعي، (مقدمات ثورة يوليو 1952)، (ثورة 23 يوليو 1952 تاريخنا القومي في 7سنوات).

مكتب شؤون محكمة الثورة، (محاكمات الثورة).

  • د. محمد عفيفي، (نوافذ جديدة تاريخ آخر لمصر).

محمود عبدالشكور، (كيف تُشاهد فيلمًا سينمائيًا).

موقع عين على السينما، (عنتر ولبلب.. كوميديا شعبية وطنية مدهشة).

موقع أصوات أونلاين، (جدلية العلاقة بين التاريخ والسينما.. هل تُصبح الأعمال السينمائية وثائق تاريخية ؟).

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة