“إن السوسيولوجيا تزداد قوة كلما ازداد النقد الفلسفي صرامة وان الفلسفة لا يمكنها أن تقوم قومة حقيقية إلا إذا امتنعت السوسيولوجيا عن إضفاء المشروعية على كل أشكال التحريض ضدها”.
يعتقد البعض في وجود تنافس على الشرعية بين العلوم الإنسانية والفلسفة وخاصة بعد تحطم الشجرة الديكارتية واستقلال العلوم عن الفلسفة ويعزز مثل هذا الرأي منطقه بأن التفكير الفلسفي المعاصر صار تساؤليا مضاد للنسقية وأن الفلسفة لم يعد لها أي موضوع تهتم به غير اللانهائي والكليات والمطلق، بينما انقسمت العلوم الإنسانية أبعاده المتبقية ولكن مثل هذا الرأي متسرع ويفتقد إلى الدقة الضرورية لاسيما وأن الفلسفة حافظت على علاقة معينة مع الواقع الاجتماعي وخاصة في قسمها التطبيقي وظهر ذلك جليا مع مدرسة فرنكفورت النقدية وفكر 68 ، كما السوسيولوجيا لم تغيب كليا المفاهيم والمناهج الفلسفية من دائرتها واستخدمتها كآليات معالجة لمواضيعها.
من هذا المنطلق ليس كل تحليل اجتماعي للنظريات الفلسفية هو إعلان لإفلاسها وحفر لقبرها وليس كل بحث سوسيولوجي عن الممارسات والمؤسسات الفلسفية هو هجوم على الفلسفة والفلاسفة بل إن الاعتراف بالمنزلة الاجتماعية للفلسفة ينطوي على فلسفة بكاملها وان تبني الفلاسفة لاستراتجيات السوسيولوجيا هو تأكيد على لزوميتها كعدة منهجية لفهم ما يحدث للإنسان في العالم المعاصر .
إن الفلسفة الاجتماعية لا تكون أشد وضوحا إلا في العلاقة التي يؤسسها الفلاسفة مع التاريخ الاجتماعي وان فلسفة تاريخ الفلسفة هي بحد ذاتها سوسيولوجيا فلسفية وفلسفة خالدة والخلود الذي تزعمه القراءة التي تبعث الحياة في الأعمال الفلسفية هو نفسه ثمرة التزام تاريخي يتكرر دائما وفي هذا الصدد ذكر هيجل في دروسه عن تاريخ الفلسفة:”بما أن هؤلاء المؤرخين يفتقرون إلى الفكر الفلسفي فكيف يمكنهم أن يدركوا التفكير المعقول ويستحضروه؟’.
إن الفلاسفة إذا لم يتمكنوا من إيجاد قاعدة اجتماعية لأفكارهم فإنهم يتحولون إلى كائنات اخف من الملائكة وفئة مثقفة لا تجمع بينها روابط ولا تنشد إلى جذور. كما أن علماء الاجتماع غير معنيين بمعالجة المشاكل الفلسفية الميتافيزيقية مثل الوجود والذات والواحد والمطلق ولكنهم قد يفقدون صفة العلمية إذا ما عجزوا عن تحويل مثل هذه المعضلات إلى مشاكل قابلة لأن تعالج معالجة سياسية. لكن لماذا لم يجعل دعاة الفلسفة أفكارهم والتوظيفات الاجتماعية لهاته الأفكار موضوعا لسوسيولوجيا المعرفة؟ وماهو السبب الذي منع علماء الاجتماع من أن يجعلوا من تحاليلهم عن السلطة والرغبة والصراع والقرابة منزهة عن كل رغبة ومنفلتة من كل سلطة ومتعالية عن كل صراع وغير متحيزة لأية قرابة؟
إن الفلسفة ليست من أهم الوسائل المعرفية للتخلص من العمق الاجتماعي والتبري من حراك التاريخ بل هي عراك ميداني مع الوهم ونهوض اجتماعي نحو سياسة الحقيقة وإن الفيلسوف المنحدر من عامة الناس والمرتقي إلى النخبة الفكرية بفضل مجهوده النظري لن يبلغ درجة الوعي النقدي إلا إذا فضح كل أشكال الاغتراب النخبوي والتزم أشد التزاما بقضايا الناس الذين ينحدر منهم ويكرس حياته من أجل خدمتهم. كما أن السوسيولوجيا ليست تناول الظواهر الاجتماعية بالتشريح الطبي المحايد والأيادي النظيفة بل هي إمساك بأشياء الناس بالأيادي الحقيقية ورؤية مباشرة للأحداث الملموسة وان علماء الاجتماع هم حملة حرية وصناع أمل وعمال حقيقة وليسوا خدمة مؤسسات ولا أصحاب ولاءات أو وحراس سلطات.
إذا أرادت الفلسفة أن تتخلى عن الأوهام فينبغي عيها أن تبادر بدراسة أشكال الصراع الاجتماعي وان تحشر نفسها في ذلك الصراع من أجل الوقوف إلى جانب الفئات الأقل حظا والانتصار إلى قيمها الكونية. إن الفيلسوف الذي يترقب التسميات وينتظر الوظائف له كائن غير فلسفي وإنسان بائس وما أشد بؤس الإنسان إن ظل دون مهمة ودون سند اجتماعي وان غاب عن علمه أن” الوظائف الاجتماعية هي أوهام اجتماعية” مثلما ذكر بيير بورديو في كتابه “الرمز والسلطة” خاصة وأن طقوس المؤسسة هي التي تجعل من يعترف بها ويدخلها أستاذا أو مديرا أو خبيرا.
كما أن وجود السوسيولوجي لا يخلو من تناقض فهو يصدر قولا نافذا يحدد ماهية القول النافذ ويلقي درسا حول الحرية يصلح نموذجا لكل الدروس ولكنه يفعل ذلك باستغلال مركز النفوذ الذي تقلده في المؤسسة ولن يكون أبدا منطقيا مع نفسه ومنسجما مع قوله ودرسه بل مع نظام المؤسسة ومنطقها.
ما نلاحظه أن الفلسفة ما انفكت ترد الوقائع الاجتماعية إلى كائنات نظرية وأن السوسيولوجيا لم تنقطع عن رد الكائنات النظرية والأفكار المجردة إلى أشياء مادية ووقائع اجتماعية ورغم ذلك حققت السوسيولوجيا قطيعة مع الفلسفة التلقائية للتاريخ ومع الرؤية الشائعة للميدان الاجتماعي واقتدرت على تحليل الظواهر التاريخية طويلة الأمد وطبقت المنهج الفلسفي على الأنظمة الرمزية والمنظومات الدقيقة.
من البين إذن”أن السوسيولوجيا هي فن التفكير في أشياء تظهر مختلفة فيما بينها من حيث أنها متشابهة في بنيتها وطريقة عملها”. وواضح أن العلاقة بين الفيلسوف والسوسيولوجي هي علاقة انعكاسية بحيث يعرض السيوسيولوجي أبحاثه على محك النقد الفلسفي ويخضع الفيلسوف ذاته لحكم المقاربة الاجتماعية والانعكاسية عند بيير بورديو تتمثل في كونها “تجعل الباحث يستعمل الاكتشافات المترتبة على ممارسته العلمية ليغربل دوره وليكشف العوامل الناتجة عن تاريخه الشخصي التي تشرط حاله كذات مفكرة والتي تؤثر على ممارسته العلمية وتشوش رؤيته للمجتمع بدون وعي في غالب الأحيان. ولذا يعد التحليل الانعكاسي شرطًا لا غنى عنه لكل ممارسة علمية حقيقية”..
هكذا تزداد الفلسفة تركيزا وتطورا كلما ازدادت السوسيولوجيا سعة وعمقا وهكذا تتولد القيم الفلسفية من الوقائع الاجتماعية كلما نجحت الفعالية التاريخية في ترجمة الأفكار الفلسفية إلى قوى إنتاج محركة للميدان الاجتماعي. فإذا كان المجتمع يخدع نفسه على الدوام وإذا كانت الفلسفة مجرد محاولة سياسية للتصرف في شؤون الحقيقة فإن الواقع التاريخي لا يرحم ذوي النزعة الإرادية الطوباوية ويحكم بالفشل على كل القلوب الطيبة ويبقي على المطمح السحري للكائنات التراجيدية بالرغم من تعرضها لأكثر أشكال الابتلاء التاريخي قسوة.
بقي أن نشير إلى أنه إذا كانت هناك حقيقة فلسفية فهذه الحقيقة هي مدار صراعات اجتماعية وهذا الصراع هو وحده الشاهد على تقدم الحقيقة الفلسفية. لكن كيف نصنع السوسيولوجيا ضد سلطة الفلسفة ونصنع الفلسفة بتمكين السوسيولوجيا من سلطة المعرفة؟ وهل من سبيل إلى قيام سوسيولوجيا فلسفية؟
المرجع:
بيير بورديو ، درس في الدرس، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء 1986.
كاتب فلسفي