خاص: حاورته- سماح عادل
في روايته “بر الحبش” ظهر المجتمع الليبي من الداخل، كما لم نعرفه من قبل نحن الذين نراه من الخارج، تعرفت من خلال تلك الرواية على تفاصيل جديدة تخص المجتمع الليبي، وتخص البشر الذين عانوا من قسوة الحرب التي تخطف أبناءهم كغولة متوحشة لا تشبع أبدا من الدماء.
الكاتب الليبي “محمد مفتاح الزروق” مواليد 6 أبريل 1968 المرج، ليبيا، حاصل على درجة الدكتوراة في الكتابة الإبداعية، ودرجة الماجستير في الإدارة الهندسية. بدأ الكتابة في الثمانينيات. بدأ الكتابة بصفة رسمية في الصحف المحلية عام 1994. تنوعت كتاباته من المقالة إلى القصة والرواية. وأصدر أول كتاب له في عام 2007 وكانت مجموعة قصصية بعنوان “وجهان في الصقيع”. صدرت له روايتان وثلاث مجموعات قصصية.
كان لي معه هذا الحوار الشيق:
* متى بدأت تفكر في الكتابة الأدبية وهل كانت البداية صعبة؟
– منذ نعومة أظفاري أحببت أن أكتب.. أتذكر أنني منذ الصف الأول الابتدائي لا أكتفي بكتابة ما يمليه علي المدرس بل أضيف حروفا وأرقاما في الهوامش وبين الفقرات، وأتذكر كيف نهرني المدرس وسخر من ذلك.. وفي السنوات التي تلت ذلك بدأت أكتشف النظم والسجع وكانت أول محاولة لي لكتابة شعر وأنا في الصف الرابع.. في الصف الثالث الابتدائي تحديدا بدأت معي هواية اقتناء المجلات وقصص الأطفال وفي العاشرة بدأت مراسلة المجلات الليبية واللبنانية، أما المصرية فلم تكن تصلنا بانتظام لانقطاع العلاقات بين البلدين.. وكنا نعشق مجلات “ميكي” و”سمير” و”تان تان” إلى جانب مجلة “الأمل” الليبية و”سعد” الكويتية و”بساط الريح” و”العملاق” اللبنانيتن.
تطورت معي هواية القراءة وتحولت إلى قصص “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة” وروائع الأدب العالمي لليافعين، وكنت أحاول في كل مرة تقليدها.. كانت روايات دار العلم للملايين نقلة كبيرة في مشواري.. أما بداية كتابتي لأول قصة قصيرة حقيقية فكانت بعد قراءتي لمجموعات الراحل يوسف إدريس القصصية وكانت بعنوان “الطيور على أشكالها ترقص” عام 1984.
لم أجد أية صعوبة بالعكس كنت أجد ذلك عملا ممتعا.. وكنت فعلا أحب تلخيص الكتب التي تروقني منذ كنت في الرابعة عشر من عمري.
* الفارق الزمني بين بداية الكتابة في الثمانينات وبين إصدار أول كتاب 2007 كبير. لما؟
– تأخر نشر كتبي. حسنا. بدأت الكتابة في منتصف الثمانينيات وكان أول من التفت إلى موهبتي الراحل محمد بودجاجة صاحب معرض جادو للفنون والتراث. كنت أحب مكانه. عندما أخبرته عن نيتي كتابة رواية وأنا في السابعة عشر فوجئت به ينصحني بأن الأمر صعب للغاية ولن يتعدى ما سأكتبه إطار الحكاية. نصحني بالقراءة والتريث.
عام 1986 التحقت بكلية الهندسة العسكرية. وفي عام 1993 استقلت من الجيش. في كل السنوات التي قضيتها في الجيش شاركت في كل المسابقات الأدبية والفكرية على مستوى الكليات والثانويات وتحصلت على مراكز متقدمة صحبة زملائي من الكلية. وعام 1994 تحديدا هو العام الذي بدأت فيه النشر في الصحف.
لم أجمع ما كنت أكتبه في كتاب. ولم أفكر في ذلك إلا عام 2003. ونظرا لانشغالي بدراسة الماجستير لم أنشره إلا عام 2007 وكان مجموعة قصصية بعنوان “وجهان في الصقيع”.
* حصلت مؤخرا على درجة الدكتوراة في الكتابة الإبداعية، حدثنا عنها؟
– رحلة الدكتوراه لم تكن سهلة. منذ تخرجي وحصولي على البكالوريوس كنت أطمح في الماجستير والدكتوراه. لكن عوائق كثيرة واجهتني. نجحت في الحصول على الماجستير بعد خمسة عشر عاما من البكالوريوس وبدأت أفكر في الدكتوراه. عام 2007 تحديدا. تبع ذلك دراستي للإدارة الحكومية والتغيير في لندن وحصولي على دبلوم خاص عام 2009 وفي عام 2010 تحصلت على قبول من جامعتين واحدة في أستراليا والأخرى في هولندا لدراسة إدارة الإعلام والإدارة الثقافية، لكن اندلاع ثورة السابع عشر من فبراير أوقفني. هذا التوقف لم يستمر طويلا ووجدتني ضمن المرشحين لمنحة فلبرايت والتي ألغيت بعد مقتل السفير الأمريكي في بنغازي.
بعد ذلك بعام رشحت من قبل الشركة التي أعمل بها مجددا لكن انقسام الحكومتين حال دون إصدار قرار الإيفاد. وبعدها مباشرة اندلعت الحرب في بنغازي واضطررت مجددا إلى التوقف.
بعد انتهاء الحرب راسلت عدة جامعات وكانت بداية رحلة الدكتوراه مع جامعة بيرتشام الدولية في مدريد في مايو 2018، واستغرقت دراستي فيها 5 سنوات كاملة. طيلة هذه المدة وجدت صعوبة كبيرة في إكمال المقرر نتيجة الالتزام الأسري وسفري المتكرر وظروف العمل ناهيك عن خوض دراسة الإبداع المكتوب بلغة غير لغتي الأم. فلو كانت الكتابة أكاديمية لكان الأمر أسهل. والحمد لله كان لي ما أردت.
* في رواية “بر الحبش” هل حاولت تسليط الضوء على قسوة ووحشية الحرب؟
– لم يكن ذلك متعمدا، فقد بدأت كتابة “بر الحبش” قبل الحرب وعدت إليها بعد الحرب بمشاعر رفض كامل لها. لقد عشنا الحرب وتبعاتها ومآسيها وفقدنا فيها أحبابا وممتلكات ولهذا فإن كتابتي ل”بر الحبش” وأنا أعيش الحرب لم تكن لتخرج بأي حال من الأحوال عن حالتي النفسية تجاهها. ربما أظهرت مشاعري جلية. الحرب بشعة فعلا.
* في رواية “بر الحبش” حكيت عن الاستعمار الإيطالي وعلى سلطة 69 وتأثيرهما السيء على المجتمع الليبي، لولا تلك الأحداث التاريخية الهامة هل تظن أن المجتمع الليبي كان من الممكن أن يتكون بشكل مختلف لو لم تتم هزيمة عمر المختار ودخول الإيطاليين؟
– كيف كان سيكون المجتمع الليبي لو لم ينهزم عمر المختار.. وكيف سيكون لو لم ينهزم الإيطاليون ضد الحلفاء. وكيف سيكونون لو لم يقض التحالف الدولي على حكم القذافي؟ لا شك أننا لا نعيش بمعزل عن العالم وأن التغيير للأفضل وحتى للأسوأ كان سيلحق بنا. الإيطاليون الذين أتوا إلينا غازين لم يجدونا أحرارا ومتعلمين ومثقفين بل وجدونا شعبا يعاني الاضطهاد والظلم والأمية والمرض في ظل العهد العثماني الثاني. لا أستطيع أن أرسم شكل الشعب الليبي وكيف سيكون. لكنني أظن أن التيار السنوسي الديني الذي أثر في وجدان الشعب في تلك الفترة كان من الممكن أن ينتج بلدا أفضل على صعيد الانتماء الأيديولوجي لكنني لا أستطيع أن أجزم كيف كان سيكون شكل البنى التحتية، فكل ليبي يعرف أن الإيطاليين هم أول من أسسها ووضع لبناتها. بل إنهم هم من حددوا ملامح الدولة الحديثة لليبيا منذ ثلاثينيات القرن الماضي. فقد كانت هذه الدولة رغم وحدتها السياسية منقسمة وجدانيا بين إقليم في الشرق يرتبط بمصر والمشرق وآخر في الغرب يرتبط بالمغرب وتونس تحديدا. لهذا من الصعب أن نحدد كيف كان سيكون شكل الدولة. ربما كانت ستكون مقسمة أو أن أجزاء منها تتبع دولا أخرى. لا ننسى أن اتفاقية “سايكس بيكو” ليس لنا فيه أية يد.
* بالنسبة للحديث عن الهوية الليبية ما هي العوامل التي أثرت على تحديد تلك الهوية؟
– الهوية الليبية تأرجحت بين هوية إسلامية جمعت أغلب الليبيين وعربية جمعت أكثرهم ومتوسطية نظرا لأن 90% من الليبيين يعيشون على الضفاف. وهوية أمازيغية هي الأساس التاريخي الذي تشكلت عليه هذه التأثيرات. إضافة إلى الهوية الإفريقية الحاضرة بقوة في كثير من عاداتنا اليومية ليس في الجنوب فقط بل حتى في بنغازي نفسها لو علمنا أن كثيرا من الفنون المعروفة وفدت منها مثلما أثر المورسكيون أو الأندلسيون الذي هاجروا إلى البلاد بعد سقوط الممالك الإسلامية.
لكن هذه الهوية لم تتحدد ملامحها بشكل صحيح لعدم وجود مشروع حقيقي إلا مشروع الراحل عبد الحميد البكوش والذي وفد عام 1969. لهذا وجدنا أننا حتى في عهد القذافي تأرجح توجه ليبيا تارة نحو الأمة العربية وتارة نحو حلم الاتحاد الإفريقي، وكان أغلب الليبيين يرون أن الإسلام هو الرابط الأول. هذا الأمر أضعف الهوية الليبية الجامعة. رغم الاعتزاز الزائد عن حده الذي قد يلحظه البعض في سلوك الليبي والذي يقابله في الاتجاه المضاد سخرية من ظاهرة عدم الانتماء السياسي للكيان. مما يرسم تناقضا غير مفهوم في الشخصية الليبية.
* هل الرواية في منطقتنا أصبحت بالنضج الذي يسمح لها بمناقشة القضايا الهامة التي تخص المجتمع؟
– ليس الآن فقط. الرواية العربية منذ زمن طويل تتناول القضايا المهمة. لكن تناولها يختلف من كاتب لآخر باختلاف النضج الفكري والتمكن والأيديولوجيات ومدى الانفتاح والتعصب. لا شك أن ثمة فروقات بين الكتاب في هذا الصدد.
هناك أسماء عربية كثيرة نالت من الحظ والشهرة خارج حدود المنطقة وربما أحد الأسباب هو تناولها لبيئة غير مألوفة تعيش صراعات هذا العصر بشكل لم يألفه القراء في العالم. مما صنع غموضا ألهب حماسهم للقراءة لهم.
* بالنسبة لغير الليبيين كانت الصورة الشائعة أنه مجتمع غني ويتمتع أفراده برخاء اقتصادي ووفرة، لكن روايتك “بر الحبش” أشعرتنا بمأساة حياة الليبيين، لما فكرت في كتابتها منذ أن كانت فكرة؟
– في الواقع الشعب الليبي مر بفترات رخاء ولكن فترات الشدة كانت طويلة. أتذكر أننا في طفولتنا حتى بدايات الثمانينيات كان كل شيء متوفرا وبأسعار زهيدة بل يقال إن المدن الليبية كانت أرخص مدن العالم في منتصف السبعينيات وكذلك كانت الرعاية الصحية في أوجها. بعدها مررنا بسنوات ما يعرف بالتقشف والتي استخدمت فيها الثروة لدعم المجهود الحربي ودعم حركات التحرر ونشر الفكر الجماهيري.
ثم جاء الحظر الجوي أو كما نسميه الحصار. وكانت الفترة من 2006 حتى 2013 فترة رخاء مادي أيضا لكن الحرب التي بدأت في 2011 بدأت تلقي بتبعاتها في 2015 تحديدا وبدأت ملامح الفقر تتضح على كثير من المواطنين. بالنسبة للرواية كنت أفكر منذ زمن في كتابتها وشرعت في كتابتها قبل الحرب وتركتها في جهازي وعدت إليها بعد ذلك.
* هل تزدهر الرواية حينما تتكاثر المشكلات والكوارث في مجتمع ما، وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط هل حدث هذا؟
– الكاتب يستقي كتاباته من واقعه. واقع الحروب والمشاكل يحمل الكثير من الدراما والأكشن ويكون مادة خصبة لأعمالنا وسبيلا لاختبار إنسانيتنا. معاناتنا ومعاناة غيرنا تحمل الكثير من الأفكار غير الاعتيادية للكتابة. وقد كانت رسالة الدكتوراه التي أديتها تحمل عنوان “أثر الحرب على أعمال الكتاب الإبداعيين في بنغازي”. وكان لها أثر واضح وملموس فعلا.
* هل تحب كتابة أحداث واقعية وتشعر أنها أجدر بالتسجيل في نص أدبي؟
– نعم وسبق لي كتابة المذكرات والمقالات القصصية وأدب الرحلات. ولي كتاب مطبوع باسم “شارعنا القديم” ضمن سلسلة وتحمل اسم سلسلة “العزف على أوتار الوجع”، لم تصدر كلها وتتحدث عن ألبوم الذكريات وبرامج الطفولة التلفزيونية وأيام الدراسة والرحلات والسفر وخلاف ذلك.