مرد الذي قاده بريكوشين ضد موسكو اصاب العالم بذهول وقف معها متسمرا يراقب ما ستؤول اليه نتائجه , ورغم ادعاء بعض الجهات بان ما حدث كان امرا متوقعا , وان اجهزة مخابرات دولية كانت على علم به , الا ان الساعات الاولى للمحاولة الانقلابية اشارت الى ان الامر كان مفاجئا للجميع . وبعد انتهاء الازمة بدا المحللون بالخوض في غمار تفاصيلها , فذهب قسم منهم للاعتقاد بانها كانت مؤامرة غربية على بوتين , بينما ذهب اخرون للقول بانها كانت امرا مخططا له بين بوتين وبريكوشين … واغرب تلك التحليلات كانت ما ذهب اليه البعض من ان بريكوشين وافق على الخروج لبلاروسيا مقابل تنازل بوتين عن السلطة بعد فترة.
بالاطلاع على تاريخ بيروكشين وتعقب سيرته قبل دخوله السجن ثم خروجه منها بعد 1991 , وخوضه غمار الاعمال الحرة , ثم تقربه من بوتين , وقيادته لمجموعة فاكنر , ومشاركاته في حروب اوكرانيا عام 2014 و 2015 وحروب سوريا وليبيا والسودان , واخيرا مشاركته في حرب اوكرانيا عام 2021 ولغاية اليوم , سنستشف باننا امام شخصية طموحة , مغامرة ,غير متزنة , وعبثية في اغلب الاوقات , وهي صفات قد توصل صاحبها الى النجاح في الكثير من الاحيان خاصة عند توفر ظروف استثنائية .. وفعلا هذا ما حدث , فقد حقق الرجل الكثير من طموحاته بعد الانتصارات التي حققها في تلك الحروب . لكن يبدو ان طموحه لم يكن يقف عند هذا الحد , فاراد الخروج من منطقة الظلام الذي وصل اليه بتزعم مجموعة غير رسمية وغير شرعية , ليحصل على موطيء قدم له في المؤسسة العسكرية الروسية , والذي تصور انه يستحقها . فاستثمر الانتصارات التي حققها في الحرب الروسية الاوكرانية , ليظهر بمظهر البطل القومي الذي يحاول بعض جنرالات موسكو طعنه من الخلف بتصفية جنوده , ومتهما اياهم في نفس الوقت بالتخاذل والخيانة … وفي نفس الوقت كان حريصا جدا على تحاشي انتقاد بوتين واظهار الولاء اليه.
بالمقابل فان بوتين المعروف بقدرته بالمحافظة على التوازنات اراد ان يستغل الصراع بين ضباط وزارة الدفاع وبين بريكوشن للمحافظة على التوزان بين مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية ومسك خيوطها جميعا بين يديه , فبدا غير آبه بانتقادات بريكوشن لجنرالاته في وزارة الدفاع .
غير ان ما قصم ظهر البعير هو تمادي بريكوشين في انتقاداته التي وصلت الى انتقاد حرب روسيا في اوكرانيا , ووصفها بعدم العادلة , وانتقاده لهيكل النظام الروسي بشكل عام , وتهجمه على ابناء المسؤولين الذين وصفهم بانهم يتمتعون على سواحل البلد في الوقت الذي يقاتل ابناء الفقراء في اوكرانيا دفاعا عنهم . هذا التمادي في النقد اعاد للذاكرة الظروف الذي رافقت الثورة الشعبية في روسيا بعيد الحرب العالمية الاولى والقضاء على قيصرها انذاك ..فاستشعر بوتين الخطر المحدق بنظامه ما ادى به الى اصدار قرار يوجب بضرورة انضواء جميع التشكيلات المسلحة في روسيا تحت خيمة وزارة الدفاع في تموز القادم , وهو ما مثل تهديدا حقيقيا لمستقبل بريكوشن , فقرر التصادم المباشر مع المؤسسة العسكرية الروسية والتهديد بالزحف الى روسيا , مع استمراره بابداء ولائه لبوتين , وحتى عندما وصف بوتين خطوته تلك بالخيانة كان جوابه الوحيد هو ان الرئيس كان مخطئا بوصفه ذاك.
هذا باختصار ما حصل في موضوع فاغنر وزعيمها بعيدا عن كل النظريات والتاويلات والتحليلات …وكل ما كانت اجهزة المخابرات الغربية وحتى الروسية تعرفه لم يكن اكثر من استنتاجات مجردة مبنية على تحليل شخصية الرجل والظروف التي يمر بها ب”احتمالية” قيامه بخطوة عبثية , دون ان تدرك اي جهة ما كان ينوي فعله بالضبط , لذلك فان ادعاءات اجهزة المخابرات تلك ما هي الا للتخلص من الاحراج الذي وقعت به نتيجة افتقارها للمعلومة الدقيقة , وارجاع هيبتها بعد فشلها في معرفة ما حصل قبل حصوله .
اما تكهنات البعض حول انسحاب بوتين من المشهد السياسي مستدلين باختفاءه بعد الازمة فهو هراء محض , فلا ينكر احد ان محاولة تحرك بريكوشين كان تحديا واضحا لبوتين كسرت هيبة سياسي طالما حاول الاحتفاظ بكاريزما معينة له طوال سنوات حكمه , الا ان بوتين لا يزال يمسك بكل خيوط اللعبة في بلاده . واستنادا الى علم ادارة الازمات فان هكذا اوضاع تستوجب ممن يمر بها الاختفاء لمدة معينة واقتناص فرصة مناسبة او “خلقها” للظهور من جديد بقوة على الساحة في هيئة البطل , ومسح مشهد الضعف الذي خزنه الشعب له في ذاكرته .. لذلك فاختفاءه لبعض الوقت ليس امرا مستغربا على الاطلاق .
هنا علينا ان نتسائل … ما هي الدروس التي يمكن لنا كمواطنين غير روس استنباطها مما حصل في روسيا.
في الحقيقة هناك درسان اساسيان يمكن اخذ العبر منهما ازاء كل ما حصل وهما : –
الدرس الأول…حرص موسكو على عدم اراقة الدم الروسي في قتال داخلي . فمنذ تحرك فاغنر من قواعدها في الجبهات وسيطرتها على مدينة روستوف , ثم توجهها من روستوف الى موسكو على طريق طوله اكثر من الف كيلومتر , لم تتعرض قوافلها الى اي هجوم بري او جوي رغم انها كانت فريسة سهلة للطيران الحربي الروسي . فافراد هذه القوة كانوا الى الامس القريب ابطالا محررين في نظر الشعب الروسي , واي تعرض لهم كان سيتسبب باحداث شرخ في صفوف الشعب بين مؤيد ومعارض , وهذا ما لم تكن موسكو تريد حدوثه , خاصة مع ذكريات الحرب الاهلية في روسيا بعد الحرب العالمية الاولى . هذا الدرس يجب ان تتعلم منه شعوب وحكومات المنطقة وهي ان اراقة دماء ابناء الشعب الواحد لمصالح حزبية او سياسية هي خط احمر ومن المحرمات .
الدرس الثاني … رغم ان روسيا والدول التي تتحرك في فلكها تعتبر من اولى الدول المتبنية لنشاط المليشيات , ابتداءا من فاغنر مرورا بالفصائل السورية واللبنانية والعراقية واليمنية وانتهاءا بالمليشيات السودانية . ورغم ان هذه المليشيات قد حققت نتائج جيدة في تنفيذ اجندات الدول الداعمة لها , الا ان ما حصل مع فاغنر يؤكد وبوضوح ان هذه المليشيات لا يمكن الاطمئنان لها , او ائتمان جانبها . فقد تلتف في اي وقت على الجهة الداعمة لها او التي اسستها في اول فرصة تسنح لها , وما حصل لروسيا مع فاغنر يمكن ان يحدث مستقبلا في العلاقة بين الحكومتين العراقية والايرانية وبين المليشيات “العراقية , واليمنية , واللبنانية , و السورية”.
فالنسبة للحكومة العراقية قد تنقلب عليها الفصائل العراقية مثلما انقلبت فاغنرعلى بوتين اذا استشعرت باي تهديد وجودي على مستقبلها .
اما فيما يتعلق بالحكومة الايرانية فقد تتخلى عنها مليشياتها في المنطقة باول مواجهة حقيقية بينها وبين أمريكا او اسرائيل , وتجربة الامام الحسين مع من تركوه وحيدا في الساحة درس يجب على إيران فهمه , خاصة وانهم خلف لاؤلئك السلف . ومثلما لم تتكهن اية دولة بما يفكر فيه زعيم فاغنر فليس بوسع اي جهة التكهن بتصرفات مليشيات المنطقة ايضا .