يوما بعد يوم تتعقد وتتوسع مشكلات المخدرات والمهدئات العقلية في العراق ، فبعد إن كانت القضية تنحصر بتحول البلد إلى معبر لتجارة هذه الآفات ، فقد أخذت تنتشر ظواهر تتعلق بالتعاطي والصناعة والزراعة المحلية مما يجعلها واحدة من اكبر التحديات التي تواجهنا والتي تتطلب اتخاذ العديد من الإجراءات وعدم حصر الجهد بمراقبة الحدود ورصد الجناة ، ومن شواهد تلك الأخطار ما تعلنه الأجهزة من فعاليات تتعلق بالاستيلاء على مواد مستوردة او مصنعة او القبض على تجارها ومروجيها واعتقال متعاطين في مختلف المحافظات ، والجزء المروع في تلك الإخبار هي الكميات التي تتم السيطرة عليها فهي تبلغ ملايين الحبوب وكيلوات وإضعافها من الكريستال وما يشابهها او يعلو عليها من أنواع المخدرات والممنوعات ، والجانب المقلق في هذا الشأن يرتبط بمقدار الكميات الحقيقية التي تجلب وتدخل للبلاد التي تفلت من الرقابة والعقاب ، فرغم الجهود التي تبذلها الأجهزة الأمنية من الأمن الوطني والمخابرات والداخلية وغيرها فإنها لا يمكن أن تسيطر على كل( التجارة ) من هذا النوع وإنما وفقا لما يتيسر لها من معلومات وما تمتلكه من إمكانيات وما تحظى به من توفيق ، وحين يتم الاستيلاء على حبوب مخدرة بمقدار ثمانية ملايين لحالة واحدة فان الله وحده يعلم ما هي الكميات التي تم إدخالها بمنأى عن الرصد والتصدي بهذا الخصوص ، وما يضيف للقلق بهذا الشأن التصريحات التي تعلن والتي تشير إلى حجم ونوع التعاطي ، فقبل أيام حذر وزير الصحة الأسبق الدكتور جعفر علاوي من مخاطر ترويج و تعاطي المخدرات في مدارس البنات الأطفال ، كما تشير الإحصاءات الرسمية لوجود مئات او آلاف المودعين في المواقف والإصلاح من المتعاطين للمخدرات والمهدئات ، و تظهر نتائج محاكمات القضاء إلى إن كثيرا من المخالفات والجنح والجنايات تعود أسابها لتعاطي وتجارة المخدرات والمهدئات ، ولا يخفى عن الجميع إن كلمة ( مكبسل ) باتت شائعة الاستخدام وبشكل يشير إن التعاطي موجود بالفعل ولا يخفى بغربال .
وقد ينظر البعض للموضوع بشكل سطحي او ببرود باعتبار إن المخدرات تنتشر في الكثير من البلدان او إن وجودها وتعاطيها طبيعي كانعكاس لتداعيات الوضع العام للبلاد الذي يوفر البيئة المناسبة لولادة ونمو مثل هذه الحالات او إن نسبة انتشارها قليلة ولم تشكل جائحة بعد ، وهي نظرة قاصرة وتناقض العديد من المعطيات فصحيح إن مجتمعنا محافظ وملتزم بطبيعته وقد عاشت أجيال منهم بخلو البلاد من المخدرات ولكن ذلك ( كان ) ولا يمكن أن يعطي الحصانة الدائمة من انتقال عدوى المخدرات من بقية البلدان اخذين بالحسبان إن التعاطي حين يحصل في بلدنا تحت أية نسبة يواجه كثيرا من التحديات ، فالمخدرات والمهدئات العقلية تعرض متعاطيها للإدمان بوقت قصير ومن الناحية الواقعية فان إمكانيات القطاع الصحي الحكومي والأهلي في معالجة الإدمان محدودة جدا ولا تتناسب مع التزايد بما يظهر من حالات ، فالبلد لم يهتم بمعالجة الإدمان رغم ما مر به من ظروف حصار وحروب تحت مسوغ إن البلد نظيف من المخدرات ، والموجود الحالي هو عدد محدود جدا من الأسرة في مستشفى ( ابن الرشد ) في بغداد وبعض الإمكانيات الفقيرة في المحافظات ، كما إن البلد يخلو من الكشف المبكر على المخدرات فما موجود إن القضاء هو من يطلب إحالة الذين يتم إلقاء القبض عليهم او المشتبه بهم للجهات الصحية لتحديد موقفهم من التعاطي ، بما يجعل العائلة غير قادرة على كشف حالة الابن عند الشك في تعاطيه لان ذلك يحتاج لقرار قاضي والقرار لا يصدر إلا بوجود شكوى او قضية تحقيقية ، وقد يعني ذلك اضطرار الأب لتسجيل إخبار عن ابنه للتأكد من تعاطيه أم لا ، والسؤال ما هو الموقف عندما تكون النتيجة سالبة وتشير لخلو الابن من التعاطي والى أين ستتوجه العائلة للمعالجة إن كانت الحالة ايجابية بالفعل ؟ّ .
وحسب المؤشرات التي تمر بها البلاد من حيث القدرة في السيطرة على المنافذ الحدودية وإمكانية التصدي لحالات التهريب و ما يرافق ذلك من صعوبات او فساد وضغوطات وغيرها من الأمور ، او من حيث الوعي الأسري والرسمي والعام في الابتعاد عن الممنوعات اخذين بعين الاعتبار سهولة ترويجها وما يعرضه المروجين من تسهيلات بهدف الاستدراج ، وبموجب كل ذلك وما يمر به البعض من حالات نفسية واجتماعية يمكن أن يستغلها المروجين في زيادة أموال السحت ، فان البلد بحاجة ماسة لإجراءات أكثر من الاعتيادية في التصدي ومواجهة المخدرات والمؤثرات العقلية تجارة وتصنيع وتعاطي ، وهي مهمة لا تنحصر بسياقاتها الجارية بالقبض على الجناة وإيداعهم السجن وإنما في إيجاد منهجية وقائية تركز على منع التعاطي بمختلف الاعمار والجنس والمستويات كأسبقية تتفوق على كل الإجراءات ، وهي مهمة تتطلب تظافر الجهود قبل أن نعبر الحدود الحالية التي يحاول البعض التستر عليها بطريقة ما ، وضمن متطلبات ذلك الكشف المبكر عن حالات التعاطي لرصدها والتصدي لها وذلك بإجراء حملات وجوبية في الفحص المبكر بمختلف المنظمات سواء الوزارات والدوائر والطلبة والموظفين ومن مختلف الفئات وبحملات مفاجئة تمنع التهرب والتزييف ، وقد اتخذت وزارة الداخلية خطوات في هذا الشأن من خلال إخضاع بعض منتسبيها للفحص وهو إجراء جيد ولكنه يستلزم الأعمام والتوسع والتكرار ، ولعل هناك من يسال ما هو الإجراء الذي يمكن اتخاذه في الحالات التي يثبت بها التعاطي ، فهل سنملأ بهم السجون أم نقصيهم من الخدمة او نوجه لهم عقوبات ، وماذا سنفعل للطلبة المتعاطين في مختلف المراحل الدراسية من الابتدائية للجامعات فهل نمنعهم من الدراسة أم نزجهم في الإصلاحيات ، ومن سيعالج حالات الإدمان التي تفاقمت في ظل الإهمال ووجود حيز محدود جدا من موارد المستشفيات لمثل هذه الحالات بعد أن نام من يعنيهم الأمر على معلومة خلو العراق و(عذرية ) أهله من تعاطي المخدرات ؟!