خاص: إعداد- سماح عادل
انطلقت فاعليات (المشغل السردي السنوي بدورته الثالثة) الذي ينظمه اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة للمدة من 15- 17 / 6/ 2023 تحت عنوان (النقد القصصي وتطبيقاته)، وشارك فيه عدد من النقاد العراقيين المعروفين والقصاصين من أصحاب التجارب الإبداعية، ويهدف المشغل القصصي في دورته الجديدة إلى اكتشاف الطاقات الإبداعية العراقية الخلاقة.
يذكر أنه اجتمعت اللجنة التحضيرية للمشغل السردي الثالث في البصرة يوم الإثنين ١٢ يونيو في مبنى اتحاد الأدباء والكتّاب بحضور رئيس الاتحاد الشاعر “فرات صالح” للاستعداد لانطلاق أعمال المشغل حسب موعده المقرر، بعد أن تمت تصفية القصص المشاركة والتي فاق عددها توقعات اللجنة التحضيرية وتم توزيعها على النقاد لتقديم رؤيتهم النقدية. وكان اختيار القصص بناء على تحقيق هدف المشغل في الوقوف على المشهد القصصي في العراق حاضرا ومستقبلا. كما انتهت اللجنة من وضع المنهاج التفصيلي للأيام الثلاثة التي تنعقد فيها الجلسات وبتوقيتاتها المحددة..
شروط المشاركة..
حددت اللجنة المشرفة على نشاط المشغل السردي مجموعة من الاشتراطات أهمها:
1- يفضل أن يكون النص قصيراً وألا يقل عن ٥٠٠ كلمة ولا يزيد عن ١٠٠٠ كلمة.
2- المشغل غير ملزم باستضافة أصحاب النصوص للقراءة والمشاركة من خارج محافظة البصرة.
3- المشغل غير ملزم بقبول النصوص المقدمة جميعها.
4- ستوزع النصوص المقبولة على عدد من النقاد العراقيين لمناقشتها نقدياً خلال جلسات المشغل.
5- ترسل النصوص المشاركة مع سيرة ذاتية مختصرة للمشارك على رابط صفحة المشغل.
الافتتاح..
ألقى الكاتب “محمد خضير” في جلسة افتتاح المشغل السردي الثالث كلمته وكانت كالتالي:
عن المشاغل السردية.. محمد خضير
(بمناسبة انعقاد المشغل السردي الثالث في البصرة، ١٥ حزيران ٢٠٢٣)
يحسَب بعضُ الكُتّاب مشاغلَ السَّرد حصيلةَ اتفاقاتٍ وتماثلاتٍ محلية وقوميّة وأمميّة، غالباً ما تنشأ / تطرأ وقتياً لسدّ حاجات أدبيّة مكانيّة ووقتيّة. وهذا ما يجعلها بمستوى صنعة السّرد باعتبارها استرجاعاً تقليدياً لأسس الصّنعة، وربما ارتحالاً عنها نحو أفق التجديد. فإذا كانت الأعمال المختبريّة تسعى لهذا الارتحال، فلعلّها تحتاج تأطيراً تجريبيّاً ومعرفيّاً على مستوى عالٍ من الجدّية والاختصاص والديمومة، يتعدّى مناسبات انعقادها فحسب.
المشغل فضاءٌ تجرببيّ يتابع/ يبتكر الواقعةَ السّردية، الجغرافية النادرة والمبذولة، التاريخية المتجذِّرة والتصادفيّة، بحضور أشتاتٍ من المنتسبين المحترفِين والهواة؛ حيث لا تقتصر مناسبتُه على جهود السُّرّاد المكتبيّين، بل تتعدّاها إلى أعمال أصناف عدّة من الحُكاة الشفاهيّين والرحّالة والصحافيّين والمنقِّبين الآثاريّين وغيرهم من أهل الصنائع المتصلة بصنعة السّرد. فهو ليس ورشة لتعلّم الكتابة أو اكتساب الاعتراف بالموهبة وتنسيب الهوية الأدبية لمؤسسة/ جماعة/ تيّار توافقيّ منغلق؛ بل لن يكون محفلاً ذا صفة كرنفاليّة/ حوارية في بعض جوانبه. إنّ وظيفة المشغل السّرديّ الأساسيّة ليست مناسبة عفويّة لمناقشة نصوصٍ تراكميّة، إنّما إنتاج صيروراتٍ مفهوميّة، ومراقبة توزيعها على الأصناف/ المحاور الداخلية الفاعلة، ثم اشتغالها في تركيب النصوص السرديّة في أحسن صورةٍ وأشمل بناء؛ فضلاً عن إنشاء علاقات بنيوية بما يجاورها من نصوص. أي إنّه_ المشغل_ فرصة للعمل والإنتاج الأدبي، وليس مناسبة للفرجة والترفيه النفسي والاجتماعي.
لِما تقدّم، فقد ينشأ المشغل بين حاضنات أكاديميّة، أوّلاً، شأنه شأن مراكز الفكر الفلسفي والبحوث العلمية، لكي يكتسب استقرارَ المفهوم ومنهجيّة الاشتغال، لكنّه ينفصل لاحقاً، إجرائيّاً وعمليّاتياً، عمّا يماثله من مواقع البحث العلمي والأكاديمي_ وهذه المرحلة أهم وأجدر بالبقاء والاستمرار من سابقتها الأكاديمية. أمّا إذا اتخذ المشغلُ صورةَ مشاغل فردية بإشراف كتّاب مُجرَّبين (مشغل ماركيز لكتابة السيناريو السينمائي في كوبا مثلاً) فهذا لأنّ المشتغلين فيه ينتسبون الى جنس تقليديّ راسخ في العمل الأدبي أو السينمائي، له امتداداته الخيالية في الفكر والأدب؛ فقد يكون مشغل ماركيز ذاك واحداً من مسارح المدن القديمة، ومحفلاً من محافلها الحكائية (نموذجه الأمثل: حكايات الديكاميرون، وألف ليلة وليلة، والمقابسات، ونشوار المحاضرة وسواها من تجارب المقابسة والمناظرة). وقد تحتاج المشاغل الجماعية، الدورية، استلهامَ روح الابتكار والافتراع من مشاغل الخيال المستقبلية (تخيّلتُ أحدَها يوماً في شكل جمجمة حيوان ضخمة، مُقاماً على ساحل بحر، أو في باطن صحراء، يؤمّه المسافرون من مختلف الجهات، وتتردّد في أبهائه الأصوات وتنشأ الحكايات).
إذن، لنبحث عن الأسس التي قامت عليها مشاغلُ سرديّة عربيّة وعالميّة متقدّمة، اشتغلت بداينمو الخيال الابتكاري، كي لا نخطئ السبيل إلى صنعةٍ هي أخطر ما أنشأته الأكاديمياتُ المنعزلة، والمجتمعات الكلامية، في مدن الفلسفة القديمة (إخوان الصفاء مثلاً). حاولت مشاغلُ الأمس صُنعَ نموذج سرديّ لعالم الغد، حيث أجمعت على أنّ هذا العالم، في حقيقته، صناعةٌ سرديّة بالدرجة الأولى، اشتغالٌ متمحور حول تجارب اجتماعية وسياسية في غاية التفرّد والتمرحل والصيرورة الفكرية. إنّ البحث المختبريّ، في أحد تفرّعاته الحديثة، هو نظير لرحلةٍ معكوسة في تجارب الأفراد والمجموعات الثقافية (ضمير الإنسانية العميق وأحلامها المنطوية في كلام أو كتاب أو اجتماع، في موقع حقيقي أو افتراضي).
من هنا، فإنّ أساس أيّ مشغل سرديّ، سينغرس بعيداً في الابتكارات الفردية “لكلّ مشتغِل”، قادم من ظلال النماذج الجماعية التي انشقّ عنها/ عليها، مخترقاً زمنه وتقاليده السّردية. وبتعبير آخر فإنّ “الانشقاق” هو الصيغة التي تكفل للمشتغلين البقاء المشترك في مشغلٍ جماعيّ، يحاول “تبيئة” تمارينه واشتغالاته موقعياً، على العكس من “استنبات” تجارب غريبة في حاضنات صناعيّة (نظريات وتجارب مُستجلَبة من العالم القريب والبعيد). فقد لا تنفع إفاداتٌ شهيرة/ شائعة في تخصيب مواقع السَّرد المحلّية (المحلّية شرط في تأسيس مشغلٍ ما، كما أحسب) بل لا يحقّ لمشتغِل استعمالَ عنوانِه الموقعيّ/ المحلّي (مصريّ/ مغاربيّ/عُمانيّ/ كويتيّ/ عراقيّ) إلا بالتخصّص في أعمال أكثر تجذّراً في موقع المشغل (مثلاً ما يبحثه المشغل المغربيّ في تجذير أدب الرحلة، السّيرة الذاتية، السّيمياء البيئيّة والاجتماعيّة في تخصّص الديانات التصوفيّة واللهجات القبائليّة والصحراويّة والأزياء والموسيقى التقليديّة والعمارة البدائيّة..) وما يؤدّيه مشغلُ مكتبة الإسكندرية من استضافات موسمية لمشاغل عربية ناشئة. وهذه التخصّصات في نظري أهمّ بكثير ممّا تقاربُه مشاغلُ طارئة من إشاعة بحوثٍ منقولة بحذافيرها عن مواقع غربيّة (بنيوية، تفكيكية، ثقافية) قطعَت أشواطاً بعيدة في تجذير موقعيّتها النظرية والتطبيقية.
وفي نظري أيضاً، فإنّ مشاغل فرعيّة أخرى، عراقيّة في الخصوص (مشغل جامعة واسط العراقية مثلاً) تعمل بذات الاتجاه، في نقد أعمال أدبية ومناقشة أبنيتها وضروراتها الأكاديمية. ومهما كان عمل تلك المشاغل المستحدَثة_ على نهج النظرية الغربية_ إلا أنّ الرجوع إلى ما ذكرناه من ضرورات مستقبلية للمشاغل، سيشقٌّق لبرامجها/ مناهجها فنوناً وإضافات مهمّة، تغني وجودَها في صميم الصّنعة السّردية، التي من مهمّاتها البحث في تفعيل بحوثٍ قديمة، وأخرى حديثة، وإيجاد الصلة التاريخية والبنيوية لنماذجها الأنثربولوجية واللغوية (مثلاً: رحلات داخليّة لمناطق غير مكتشفَة، وترجمات ذاتيّة، واقتراحات لتأليف كشّافات وفهارس، تنهج منهج معاجم اللغة الشبيهة بمعجم الرصافيّ “الأداة” والكرملي “المساعد”، وإيجاد صلة سردية بالبحث اللغوي المقارن والعادات لحميد العلوجي وجلال الحنفيّ، وما أنجزه مصطفى جواد ومهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي وحسين علي محفوظ وكوركيس عواد ونعمة العزاوي ومَن ناظرَهم في أعمالهم الدلالية والاقتباسية).
أعتقد أنّ البحث في مصادر السّرد العربي، لا يقلّ أهمية عن مناقشة نصوصٍ تحاول التعمية على أسس انشقاقها السّردي، المحلية والإقليمية. لا جدوى من مناقشة تجارب سردية تُراكِم وحداتِها الكاملة وشبه الكاملة، على مستوى واحد، وتُخفي مرجعياتها الحكائية، الواقعية والخيالية، من دون حقّ؛ إذ أنّ مثل هذه المناقشات تغفل وجود مسارب وتجارب هي في طور التكوين السّردي، والنشوء المتقارب لاستحداثات في العلوم الإنسانية والتطبيقية (علم الأنثروبولوجيا والخيال العلمي والسيرة الذاتية واكتشاف الأمكنة والرحلات، على سبيل المثال). وسيتضح _ دورةً بعد دورة لأحد المشاغل المحلية والعربية_ أنّ ما هو أهمّ من الكتابة والنقد لأعمال جاهزة، محاولة بناء نماذج قرائية متخيَّلة_ نُسخ افتراضية من كتابات تطلب الاعتراف بمرجعيتها السّردية غير الجاهزة/ غير المعترَف بها.
والاحتمال الأخير يجعل من أولويّات المشغل السّردي، استحداث النصوص وليس استرجاع كتابتها، كما قد يقرّر عادة كلُّ مشتغِلٍ لنفسه من نفسه على هواه وإرادته. فالمشغل_ كما رسمتْه خُطَطُ الماضي الخيالية_ ارتحالٌ عن الموقع والنمط والوظيفة، لأجل ابتكار لقاءاتٍ غير منتظَرة في أفق السّرد، حيث لا يعلم مشتغِلٌ ما يحدّده المناخُ المتغيّر لروح العصر_ روح المشغل التجريبية.
هوامش:
١. التأسيس:
يرجع تأسيس المشغل السردي في البصرة إلى تاريخ أسبق من تاريخ دوراته الجديدة قبل ثلاث سنوات. أما ما أنتجه المشغل المذكور في تأسيسه الأول ٢٠٠٦، فهو أقرب إلى فكرتنا عن الارتحال الموقعي_ الافتراضي، أو الاستباق البنيوي لثيمات النصوص المؤلَّفة لكلّ دورة. ومن تلك الاستباقات الأولى روايات لضياء الجبيلي وعلي عباس خفيف ومرتضى كزار وباسم القطراني وعلاء شاكر، إضافة إلى قصص لرمزي حسن وباسم الشريف ومحمد عبد حسن وياسين شامل ونبيل جميل وعبد الحليم مهودر ومحمد سهيل احمد. لكن الأهمّ من تلك الروايات والقصص نجاح المشغل السابق في تأليف ثلاث أنطولوجيّات سرديّة، تحت عنوانات مبتكرة، هي: ذاكرة المقهى، وبُقعة زيت، ولاعبو السّرد.
٢. احتمالات ما بعد التأسيس:
يُحتمل استئناف أعمال المشغل التأسيسية، بتطبيق برنامج متدرّج، يحقّق ما يلي:
_ كتابة تاريخ سرديّ للقصة والرواية في العراق، تغطي مئة عام من التأسيس والارتقاء والتحوّل، إضافة إلى كشّاف شامل.
_ مراجعات لنصوص سردية قديمة (المقامات والحكايات والرسائل الفلسفية) وترسيم خُطاطات دراسية نظيرة لها.
_ التأليف الميداني/ غير المكتبي. جمع نماذج من كتابات فئاتٍ مختلفة خارج المشغل (طلاب مدارس، عمّال، سجناء، مرضى، بحّارة، نساء.. إلخ) واستطلاع قيمتها/ مادّتها السّردية الأوّلية. أو عكس ذلك: انتقال أعضاء المشغل لملامسة حياة الفئات السالف ذكرها، وتأليف ما يعتبر من السيرة أو اليوميات وما شابههما عن حياة أولئك الأفراد المغمورين.
_ تمثُّل روابط سردية مجاورة للخطاب السّردي التقليدي_ القصصي والروائي_ كالرحلة واليوميات والسيناريو السينمائي، ونسج ما يقاربها سردياً.
_ ابتداع ما يساير التحوّل التكنولوجي في سرديّات الخيال العلمي والنصّ الرقمي/ التفاعلي والسيبراني (اكتشاف إمكانيات فعلية في نماذج متحقّقة وأخرى افتراضية، ممّا لدينا أو ممّا عند الآخر غير العربي).
_ الاعتراف بثيمات شديدة الوطأة على العقل السّردي الكونيّ، في نصوص نابعة من المخاوف الحقيقية على مستقبل الجنس البشري (الزلازل والفيضانات والأوبئة، الجفاف والجوع والتلوث، الإرهاب والعنصرية والاضطهاد العِرقي، وأخيراً: حرب نهاية العالم) مما يجعل المشغل على اتصال بعالم اليوم المتعدّد الوجوه والمصائر.
_ استضافات متبادلة مع مشاغل عراقية وعربية، لاستطلاع رأيها في التشارك بتنفيذ قسم من الأعمال المذكورة أعلاه.
٣. حياة ثالثة:
من المحتمل جداً، قدوم مرحلة ثالثة تردف مرحلتي التأسيس، أو رابعة وخامسة_ إذ لن تُحدَّد مرحلة بذاتها لنهاية مهامّه_ وقتذاك ستطرأ أفكار غير مسبوقة، يُدرجها أعضاء المشغل على لائحة عملهم.. يومذاك سيكون المشتغِلون من جيل مختلف، أكثر معاصرة واقتراباً من تحقيق نقلةٍ في رؤياهم عن واقعهم، فضلاً عن اقترابهم الشديد من قضايا العقل السّردي الكوني وثيماته الخطيرة.. حينذاك لن يكون المشغل مشغلنا.
وفيما يلي إحدى القصص المشاركة في المشغل السردي..
قصة حب مفخخة
حذام يوسف طاهر
تمشي، تتمايل برشاقة وغنج، وهي تعبر الشارع المزدحم بسبب سيطرة السعدون، وبرغم ضجيج المنبهات، والمولدات، لكنها تعبر وهي مبتسمة لتمشي بهدوء على أنغام صوت قلبها الرقيق، وهو يعزف لها مقطوعته اليومية لحلم طال انتظاره، مع انتظارها لبيع أطواق الياسمين على أصحاب السيارات المتوقفة بإشارة من منتسبي القوى الأمنية وهم يفتشون السيارات بدقة، قد تستمر لنهار كامل، بعد سلسلة انفجارات تكررت في هذا الشارع المصر على أن يكون نبض بغداد، رغم ازدحام الانفجارات على جوانبه.
عبرت بخفة الى الجانب الآخر بعد أن أفرغت سلتها من أطواق الياسمين، وأفرغت ما في جعبتها من مفردات ترغيب وجذب لسائقي السيارات، أخذت تدندن بأغنية لفيروز (أنا لحبيبي وحبيبي إلي، في عصفورة بيضا لا بقى تسألي، لا يعتب حدا ولا يزعل حدا، أنا لحبيبي وحبيبي إلي..)، وقبل أن تفتح باب المنزل سمعت صوت خالها المقعد وهو ينادي على شقيقها الصغير ويطلب منه كأس ماء، ركضت بخفة وحيوية، تفاجأت بها ولا تدري سر هذه الحيوية التي سيطرت عليها اليوم، سلمت كأس الماء لخالها متجهة للمطبخ لتحضير الغداء.
حلمها لم يغادرها، لطالما سيطرت عليها فكرة فارس الأحلام الذي سيأخذها بعيدا عن هذا البيت القديم، المسكون بالحكايات التي ملأ رأسها بها الخال، لكنها ورغم كلام خالها عن ذكرياته في زوايا البيت، وكيف اشترى تلك اللوحة التي جذبته بعمق ألوانها، وتلك التحفة التي تعود إلى القرن الماضي، كان مولعا بالانتيكات، حتى إن البيت ازدحم بها وبطريقة فوضوية غير منظمة، لكنها لم تكن تستوعب عمق ما يفكر به وماذا تعني له تلك التحف، كان جل ما تفكر به هو مغادرة المنزل والحي بشكل كامل، فقد ملت من انتظاراتها التي رسمت من سنين عمرها حواجز من الكبت والحرمان لأبسط مقومات الحياة، لكنها لم تتوقف عن الحلم، الحلم بأن يأتي فارسها المنتظر ويحلق بها في سماء الحب لتكون أميرته مثلما هو أميرها ! .
ليلا، وقبل إن تتوسد فراشها، هامت بعينيها عبر شباك غرفتها، لترى الشارع وقد أصابه السكون، كأنه مقبرة منسية منذ قرون، تصفر به الريح، الظلام يرعبها منذ أن كانت طفلة، تقودها ذاكرتها الغضة الى فجر ذلك اليوم الممطر، كانت والدتها تحتضر، الحروف تخرج كخناجر صدئة من صدرها، كلماتها موشومة بذاكرتها:” لا تحزني ابنتي على الأشياء التي تذهب، فربما القادم احلى وأفضل”، غفت على وسادتها وخيط من الدموع وجد له طريق على وجنتها.
طالما رسمت سيناريو لقاءها بالحبيب الذي رسمت ملامحه في قلبها، وصدقت حلمها حتى أنها كانت تتوقع قدومه يوميا الى ذلك الشارع المتعب ذو الرصيف الأعرج! المزدحم بالسيارات والسيطرات والانفجارات، والمزدحم بأحلامها التي تؤكد لها بيقين انهها ستطير معه خارج هذه الفوضى، بعيدا عن كل تلك الانتظارات، لكنها تصطدم بصوت هز الشارعين وما بينهما، صوت فجر بوجهها حقيقة ان فارسها لن يأتي، صدمة موت حلمها، بهذا العدد المفجع لتناثر الأحلام، حلمها بلقاء فارس الأحلام، وحلمها ببيع ما تبقى في سلتها من أطواق الياسمين.
تأتي القوات الأمنية لتزيد من نكبتها بغلق الشارع بكتل كونكريتية، جثمت على قلبها قبل رصيف الشارع، كأنها إعلان لنهاية الحلم ! ، فتتحول الى كتلة من الخيبات، تحلم أن تزيح تلك الكتل ليعود الشارع الى ما كان عليه، حلم آخر دخل الى واحة أحلامها، أن تكنس تلك الكتل بعيدا، لم تيأس بل واصلت عملها برفع الكتل رغم عنادها وثباتها في مكانها، واستمرت بمحاولاتها وبإصرار، حتى ان الجيران وكل من يمر بجانبها يتصورها مجنونة، هي تحاول من دون يأس تحريك الكتل الكونكريتية على الرغم من وصول السيارة الخاصة لنقلها الى مستشفى الرشاد!