دروس شعرية مستفادة من رائعته : “كأن الحزن مشغوف بقلبي”
هل تظن ان المتنبي يتناول مواضيعه ويحقق أغراضه من الشعر كما يفعل الشعراء ممن قبله؟ أو حتى كما حاول أن يقلده من بعده ، لا شك تخطيء ان ظننت ذلك ، أوتي هذا الرجل مقدرة فريدة على اختلاق الصور -أو بالأدق- على ابتكار زوايا أخرى لتناول الصور حتى وان كانت صورة مكررة أو تقليدية أو شائعة ولكنها على يده تصبح مذهلة وكأنها قيلت للمرة الأولى ، وقد أفردت فصلا نقديا كاملا لذلك من قديم كتابتي عنه كان مخصصا لمطالع قصائده ، فلا اتردد بالقول “حتى و إن كانت صورة مكررة أو مطروقة ” بل وحتى منحولة أو مسروقة ، ألم يأخذ المتنبي –دون شك- معنى ابي تمام :
“لو حار مرتاد المنايا لم يرد ،،،،، إلا الفراق على النفوس دليلا”
في هذا البيت الرائع الذي لا يحفظه أحد ، فأعاد صياغته في قصيدته :
أحيا و أيسر ما قاسيت ما قتلا ،،،،، و البين جار على ضعفي فما عدلا
الوجد يقوى كما تقوى النوى أبدا ،،،، والصبر ينحل في جسمي كما نحلا
الى أن أدهشنا بالبيت السائر كالأمثال :
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ،،،، لها المنايا الى أرواحنا سبلا
وهو معنى ابي تمام نفسه سواء درى المتنبي ام لم يدر ، ولا أظنه لا يدري ، ولكنه اجمل و أيسر ، فالمتنبي إذن يجدد المعنى و إن كان مطروقا ، ويحييه و إن كان مستهلكا ، هذا إذا احتاج إليه ، و إلا فإن خزائنه ملأى بمعان لم يتطرق اليها أحد قبله ولا يجرؤ على تناولها أحد بعده ، وإلا فمن من الشعراء بل ومن العوام أيضا لم يعان فراق أحبابه ولحظات ترحالهم الأولى وثقلها على النفس ، وكم شاعر تناول هذا الغرض ونسج منه وحوله الصور الرائعة :
وَقائِلَةٍ لَمّا أَرَدتُ وَداعَها ،،،، حَبيبي أَحَقّاً أَنتَ بِالبَينِ فاجِعي
للبهاء زهير ، ومنها يقول :
وَقامَت وَراءَ السَترِ تَبكي حَزينَةً ،،،، وَقَد نَقَبَتهُ بَينَنا بِالأَصابِعِ
فَلَمّا رَأَت أَنّ الفِراقَ حَقيقَةٌ ،،،،، وَأَنّي عَلَيهِ مُكرَهٌ غَيرُ طائِعِ
تُسَلِّمُ بِاليُمنى عَلَيَّ إِشارَةً ،،،،، وَتَمسَحُ بِاليُسرى مَجاري المَدامِعِ
وَما بَرِحَت تَبكي وَأَبكي صَبابَةً ،،،، إلى أَن تَرَكنا الأَرضَ ذاتَ نَقائِعِ
الصورة معبرة واللقطات محزنة والأبيات استوفت الغرض بأعلى ما يكون ، أو رائعة جرير :
بانَ الخَليطُ وَلَو طُوِّعتُ ما بانا ،،،، وَقَطَّعوا مِن حِبالِ الوَصلِ أَقرانا
و “بان الخليط” أي ” بعد الحبيب ورحل” عند جرير ، ومنها يقول في الفراق :
حَيِّ المَنازِلَ إِذ لا نَبتَغي بَدَلاً ،،،، بِالدارِ داراً وَلا الجيرانِ جيرانا
قَد كُنتُ في أَثَرِ الأَظعانِ ذا طَرَبٍ ،،،،، مُرَوَّعاً مِن حِذارِ البَينِ مِحزانا
لَو تَعلَمينَ الَّذي نَلقى أَوَيتِ لَنا ،،،،، أَو تَسمَعينَ إِلى ذي العَرشِ شَكوانا
يا لَيتَ ذا القَلبَ لاقى مَن يُعَلِّلُهُ ،،،،، أَو ساقِياً فَسَقاهُ اليَومَ سُلوانا
قالَت أَلِمَّ بِنا إِن كُنتَ مُنطَلِقاً ،،،، وَلا إِخالُكَ بَعدَ اليَومِ تَلقانا
ما كُنتُ أَوَّلَ مُشتاقٍ أَخا طَرَبٍ ،،،، هاجَت لَهُ غَدَواتُ البَينِ أَحزانا
كادَ الهَوى يَومَ سَلمانينَ يَقتُلُني ،،،،، وَكادَ يَقتُلُني يَوماً بِبَيدانا
وَكادَ يَومَ لِوى حَوّاءَ يَقتُلُني ،،،، لَو كُنتُ مِن زَفَراتِ البَينِ قُرحانا
وغيرهم كثير بأقسى من هذا و أحلى وللوجد أشفى ، ولكنها تبقى صورا في متناول القريحة المتدربة والموهبة المميزة والحافظة الذكية ، ولكنني من دراستي الطويلة بل وتفكري في نتاج هذا الشاعر المتفرد “المتنبي” فانه لا يبدا الكلام ولا يسوقه كما يسوقه هؤلاء الشعراء و إن علت طبقاتهم ، فمن مثل جرير بين شعراء العرب من يغدق على الغرض الفاظه ويبرزه بمعانيه ،
غير ان المتنبي اذا اراد ان يصف لوعته عند رحيل احبابه فلن يقول “بان خليط الروح” كجرير
ولا يقول “يوم الفراق لقد خلقت طويلا ،،،، لم تبق لي جلدا ولا معقولا” ،
كما قال ابو تمام العظيم ،
ولا :
“و إني والشجاعة في طبع ،،،، جبان في منازلة الفراق”
كما يصور أعظم شعراء العصور المتأخرة عن المتنبي و أقرب ورثته إليه “الجواهري” ،
فلا يقول شاعرنا مثلهم ، وانما يشرح : ان الذي رحل يوم رحيل أحبتي هو وجودي نفسه –ولاحظ انه لم يستخدم الروح وحدها كما هو المعتاد في موضع كهذا-فما بقي مني شيء في المرابع ، وإن الأحبة امتطوا –ساعة ترحالهم- حسن الصبر الذي كان مطيتي وعوني على التجلد بعدهم إلا إنهم زموه معهم في متاعهم ، في استعارة جميلة إذ إن أصل الزّم للإبل، فلك أن تتخيل كيف يكون حال المفجوع بالفراق ، ولك أن تتحير كيف يمكن لشاعر يفكر بمعنى متشابك كهذا أن يصوغه ببيت يحافظ على حلاوة جرس وانسياب موسيقى وسلاسة سبك ، فيكون:
بَقَائِي شَاءَ لَيْسَ هُمُ ارْتِحَالَا ،،،، وَحُسْنَ الصَّبْرِ زَمُّوا لَا الْجِمَالَا
تَوَلَّوْا بَغْتَةً فَكَأَنَّ بَيْنًا ،،،،،،، تَهَيَّبَنِي فَفَاجَأَنِي اغْتِيَالَا
وانظر -بنائيا- تقديم المفعول “حسن الصبر” جوازا في العجز الأول من المطلع ليكون اول الجملة إسما يوازي به إسم الصدر المبتدا المضاف “بقائي” ، بينما أبقى المعطوف على المفعول ب “لا” النافية “الجمال” ليستحق الفتحة نصبا فيكمل قافية البيت إطلاقا ، أما “ارتحالا” التي تأخرت عن فعلها “شاء” الى مابعد جملة “ليس” ليصوغ منها قافيته المتناغمة لتكمل التصريع المتقن ، فقد كان لها دور قلب الجملة كلها رأسا على عقب ، والتي أصلها (ليس هم الذين شاؤوا الرحيل بل بقائي) ،
ولا يمكن لك أن تفصل البيت الثاني عن الأول رغم ان البيتين لا تضمين بينهما ولا تدوير فيهما ولا تخريج ، سوى انه أحد تعليلات المتنبي التي تكاد تكون “مقدمات ونتائج” كما في الفلسفة ، أو “استدلالات وبراهين” كما في علم الرياضيات ، فالذي حصل عنده انهم رحلوا فجأة فكأنما نزل به الموت دون سابق خبر فأذهله كما يذهل من لم يدر بخلده أن سوءا سيحدث ، فيتم اغتياله وارداؤه قتيلا ،
ولأني اتبع مع شعر المتنبي –على غير ما أفعله عادة مع نتاج أي شاعر آخر- تقديم الشرح على البيت ، وهذا أمر درجت عليه من سنين يوم لحظت ان قارئ أبياته للوهلة الأولى قد لا يدرك المعنى والتركيب البنائي المميز في أغلب أشعاره الى الحد الذي يفقد قراءه من المتذوقين والمختصين أحيانا -فضلا عن العوام- ملاحقة تمام المعنى المراد ، وهذا ما دفع ابن سيده الأندلسي-كما أظن- لتأليف كتابه (مشكل أبيات أبي الطيب) والذي يعنى بتفسير ما يقوله مالئ الدنيا وشاغل الناس ، ولذا فإني أنبه الى انه في البيت التالي والذي يليه ، وبعد ان يستفيق من صدمة قاربت رحيل الروح والجسد معا- بقائي شاء- يصف المتنبي اول لحظات سير العِير او العيس “الإبل” التي تحمل الظعن فيصور في البيت الأول -وعلى طريقته ذاتها في الإنفراد – ويقابل بين سير الإبل الذميل “البطيء” وسير الدمع من عينيه “المنهمل” السريع :
فَسير العيس إثرهم ذَميل،،،، وَسَيرُ الدَمعِ إِثرَهُمُ اِنهِمالا
ثم يعلل لم هذا التناقض بين السيرين “الدمع والعيس” فيبين ان العيس هذه على ما يبدو كانت مناخة على جفونه غالقة لمجاري الدمع فيها فلما نهضت فتحت الاجفان وانهمر الدمع ، فيكون البيتان في رواية :
فَكَانَ مَسِيرُ عِيسِهِمِ ذَمِيلَا ،،،، وَسَيْرُ الدَّمْعِ إِثْرَهُمُ انْهِمَالَا
كَأَنَّ الْعِيسَ كَانَتْ فَوْقَ جَفْنِي ،،،، مُنَاخَاةٍ فَلَمَّا ثُرْنَ سَالَا
كذلك يقول في تصوير تباعد أحبابه عن عينيه وهو يتابعهم أن هذه القفار صارت حجابا بيني وبينهن ، وسماهن “الظبيات” ، والى هنا فهو معنى منتظر من الشعراء ولكن غير المنتظر هو ان البراقع والحجال كانت قد حجبت جمالهن من قبل ، فها هو الابتعاد يضيف حجابا آخر ويساعد البراقع وكأنه يعي ويقصد :
وَحَجَّبَتِ النَّوَى الظَّبْيَاتِ عَنِّي ،،،، فَسَاعَدَتِ الْبَرَاقِعَ وَالْحِجَالَا
وأولئك الظباء لبسن الوشي وهو الزخرفة اليمانية من الديباج والنمنمة التي كانت تحلى بها السيوف وثياب المرأة المترفة ، فيقول ان النساء في العادة يلبسن الوشي ليتجملن ويتزين ، وهذا ما قد يصفه غيره من الشعراء ، ولكن المتنبي يقول انما لبسن الوشي كي يخفين جمالهن ويخففنه فهن أجمل من الوشي ، وهذا –كما يقول- مثلما تعمد النساء من غيرهن الى ضفر الشعر في جدائل لإظهار الحسن بينما النساء اللاتي يصفهن يضفرنه خوفا من الضياع ببحر الظلام لسواد الشعر وكثافته ، فيكون البيتان :
لَبِسْنَ الْوَشَى لَا مُتَجَمِّلَاتٍ ،،،،، وَلَكِنْ كَيْ يَصُنَّ بِهِ الْجَمَالَا
وَضَفَّرْنَ الْغَدَائِرَ لَا لِحُسْنٍ ،،،، وَلَكِنْ خِفْنَ فِي الشَّعَرِ الضَّلَالَا
و إليك ما يفعله المتنبي عندما يريد أن يصور نحول جسمه من الوجد والضنى بأحبته ، فهو أيضا لا يدخل كما يدخل الشعراء الى معنى كهذا ، فلو قال المتنبي ان جسمي قد نحل من العشق أو الهجر لكان كغيره ولكنه يأتي الى هذا المعنى فيركبه في صورة جديدة تضاف اليها صورة تابعة ثم يشبه كل ذلك تمثيليا ، فيقول في البيت الأول : اني لأفدي محبوبتي بجسمي الذي برته “أنحلته” و أضعفته الى الحد الذي لو كان ثوبي ثقب لؤلؤة لدخل فيه جسمي هذا ، وفي الثاني يكمل انه لولا انه أكيد انه في يقظة لكان ظن انه خيال من نفسه ، ومع هذا فإني أفديها بجسمي المتهالك هذا وبما أبقت لي منه ، فيكون البيتان :
بِجِسْمِي مَنْ بَرَتْهُ فَلَوْ أَصَارَتْ ،،،، وِشَاحِي ثَقْبَ لُؤْلُؤَةٍ لَجَالَا
وَلَوْلَا أَنَّنِي فِي غَيْرِ نَوْمٍ ،،،،، لَكُنْتُ أَظُنُّنِي مِنِّي خَيَالَا
ولا غرابة وللمتنبي مبالغات كثيرة في وصف النحول لا نعلم ان شاعرا سبقه اليها منها:
أراك ظننت السلك جسمي فعقته ،،،، عليك بدر عن لقاء الترائب
و
كفى بجسمي نحولا انني رجل ،،،، لولا مخاطبتي إياك لم ترني
ثم يشبه المتنبي التشبيه المؤكد -من غير أداة- “بدت قمرا” المترادف المفروق لأكثر من مشبه في أسماء وضعها منصوبة موضع الحال بعد أفعالها و اصلها : بدت كالقمر ومالت كالغصن و فاحت كالعنبر ونظرت كالغزال ، ويعقبه ببيت مقابلة مكتمل الأركان فقد جارت “مالت” في الحكم ولكنها “اعتدلت” في جمال القامة ، فيكون البيتان :
بَدَتْ قَمَرًا وَمَالَتْ خُوطَ بَانٍ ،،،، وَفَاحَتْ عَنْبَرًا وَرَنَتْ غَزَالَا
وَجَارَتْ فِي الْحُكُومَةِ ثُمَّ أَبْدَتْ ،،،، لَنَا مِنْ حُسْنِ قَامَتِهَا اعْتِدَالَا
وبعد أن ينهي المتنبي تصوير الرحيل ووصف محبوبته التي لا يعرفها أحد ولا هو أيضا ، فما عرفت له محبوبة فهو في شغل عن ذلك كما أكدت جميع الروايات إنما يسير على خطى الشعراء -ليسبقهم في لب أغراضهم- كما بينّا في فصلنا النقدي المنشور (المتنبي يتغزل) ، أقول بعد انتهائه من هذا الغرض يشرع المتنبي بتصوير حزنه خاصة ، ولابد للمتنبي أن يأتي بجديد ، فكما عهدته فلن يقول انني والحزن رفيقان كما قال من بعده ولا توأمان و إنما : كأنه “الحزن” مولع بقلبه عاشق ينتظر الوصال حتى إذا هجرته محبوبته –وهنا عودة الى الرحيل- وجد الحزن وصال قلبه وتهيأ له ، ولا ينسى في البيت الذي يليه أن يذكّر بصروف الدهر عامة على من كان قبله فهو لا يدوم على حال ، فيكون البيتان:
كَأَنَّ الْحُزْنَ مَشْغُوفٌ بِقَلْبِي ،،،، فَسَاعَةَ هَجْرِهَا يَجِدُ الْوِصَالَا
كَذَا الدُّنْيَا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلِي ،،،، صُرُوفٌ لَمْ يُدِمْنَ عَلَيْهِ حَالَا
وتأمل التقابل في “ساعة الهجر يجد الوصال” في الشطر الواحد ، والقلب بين “قلبي وقبلي” في البيتين.
ولا سرور عند المتنبي ، فهو حكيم يعرف ان السرور زائل ، ومراقبة الزوال تفسد الفرحة فيصبح غما لا سرورا ، وهو من أبيات الحث على الزهد في الدنيا و إن كان المتنبي من طلابها –كما هو ثابت- ، ثم ألف ترحله حتى صار رحاله “قتودي” أرضا له –وهو من القتد أي العود و الأعواد ، فيكون البيتان:
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ،،،، تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالَا
أَلِفْتُ تَرَحُّلِي وَجَعَلْتُ أَرْضِي ،،،، قُتُودِي وَالْغُرَيْرِيَّ الْجُلَالَا
أما الغريري فهو جمل فحل منسوب الى “بني غرير” وهم قوم من العرب –كما يذكر الواحدي-وهؤلاء توصف إبلهم بالنجابة وتكون مضربا للأمثال ، ولذي الرمة في ذلك قوله من الوافر :
“نجائب من نتاج بني غريرٍ ،،،، من العيدي قد ضمرت كلالا”
وضمرت أي أمسكت ، ولأبي تمام بيت يدل على أن غريرا فحل من فحول الإبل وهو قوله من مخلع البسيط:
“قد ضج من فعلهم جديل ،،،، بنسله واشتكى غرير
هذا عبيد وذا زياد ،،،، وذا لبيد وذا زهير”
ذكرهما الآمدي في “الموازنة” ، اما “الجلال” فهو الخيار من كل أمر .
ثم يختم المتنبي مقدماته قبل الدخول الى غرض المديح الذي أنشئت القصيدة من أجله ، فيأتي ببيتين أحدهما مرتبط بما قبله وقد قال انه يمضي الوقت على مطيته ورحاله فيكمل انه و إذ هو على هذه الحال فلم يحاول المقام بأرض ولا هو بالمزمع رحيلا عن أخرى ، انما هي الريح تحمله أنى شاءت ، ووصف ذلك كأن تحته ريح وليس دابة ، فكان البيتان :
فَمَا حَاوَلْتُ فِي أَرْضٍ مُقَامًا ،،،، وَلَا أَزْمَعْتُ عَنْ أَرْضٍ زَوَالَا
عَلَى قَلَقٍ كَأَنَّ الرِّيحَ تَحْتِي ،،،، أُوَجِّهُهَا جَنُوبًا أَوْ شَمَالًا
لينتقل الى ممدوحه الذي لم يعطه من درته تلك الا أبياتا قليلة بارعات نذكر منها البيتين الأولين لنعرف المحظوظ الذي خلدته هذه الدرة :
إِلَى الْبَدْرِ بْنِ عَمَّارِ الَّذِي لَمْ ،،،، يَكُنْ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ الْهِلَالَا
وَلَمْ يَعْظُمْ لِنَقْصٍ كَانَ فِيهِ ،،،،، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمِيرَ وَلَنْ يَزَالَا
و “لن يزال” هذه واردة عند العرب وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام الصحيح في أحد لفظيه: “لن يزال المؤمن في فسحة ،،،،” والآخر “لا يزال،،،،”.
لنتوقف بعد ذلك عند بيتيه القاسيين ناقدا شعراء عصره أو حاسديه ، وقال : انه لا يستغرب أن ذموه فمن الذي لا يذم المرض العضال ، فانا لهم كالمرض الذي لاشفاء منه ، ثم يستدل بأن من كان فمه مرا لا يطيب له الماء ولو كان زلالا فيكون البيتان :
أَرَى الْمُتَشَاعِرِينَ غَرُوا بِذَمِّي ،،،،، وَمَنْ ذَا يَحْمَدُ الدَّاءَ الْعُضَالَا
وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ ،،،،، يَجِدْ مُرًّا بِهِ الْمَاءَ الزُّلَالَا
ولا يخفى عليك تفرد البيت الثاني وتصييره حكمة صارت مثلا ، و لأن المتنبي له في المديح-كما في كل شأن- أسلوب فريد وتصوير لا شبيه له مهما تعدد ممدوحوه وكثرت قصائده وطالت ، فلا بد من وقفة على أبيات “مدح” متفرقة من هذه القصيدة -بعد الغزل والوصف والأطلال والرحيل والحكمة” التي جمعها في اولها ، ولنرى كيف يتفنن هذا الشاعر في ابتكار صوره للممدوح ، يقول:
جَوَابُ مُسَائِلِي: أَلَهُ نَظِيرٌ؟ ،،،، وَلا لَكَ فِي سُؤَالِكَ لَا أَلَا لَا
لَقَدْ أَمِنْتَ بِكَ الْإِعْدَامَ نَفْسٌ ،،،، تَعُدُّ رَجَاءَهَا إِيَّاكَ مَالَا
المتنبي يقول : لما سألني السائل : هل لبدر بن عمار نظير ، قلت : لا . والى هنا لا غرابة ولكن الغرابة انك لم تلحظ في خضم تدوير”اللام” قوله للسائل موبخا كجملة اعتراضية : “و لا لك” ايضا نظير في جهلك إذ سألت عن شيء لا حاجة للسؤال عنه لبديهته في الأفهام” ! كل هذا في شطر “وَلا لَكَ فِي سُؤَالِكَ لَا أَلَا لَا” ثم أكد ال “لا” الأولى ب “ألا لا” ،
ثم يقول : أنت تسر عندما تسر الناس جميعا ، فإذا استعطوا منك شكرتهم لسؤالهم و إن أمسكوا عن السؤال قلت : اسالوني و اطلبوا مني فتعلمهم الدلال عليك ، ثم تكون أسعد من المستميح “السائل” وتنيله بأن ينال :
سُرُورُكَ أَنْ تَسُرُّ النَّاسَ طُرًّا ،،،، تُعَلِّمُهُمْ عَلَيْكَ بِهِ الدَّلَالَا
إِذَا سَأَلُوا شَكَرْتَهُمُ عَلَيْهِ ،،،، وَإِنْ سَكَتُوا سَأَلْتَهُمُ السُّؤَالَا
وَأَسْعَدُ مَنْ رَأَيْنَا مُسْتَمِيحٌ ،،،، يُنِيلُ الْمُسْتَمَاحَ بِأَنْ يَنَالَا
وانظر -في التالي- الى وصفه السهم الذي يطلقه ممدوحه فانه يدخل الى جسم الرجل المحارب فيخرقه وكانه لم يلاق رجلا بعد ، فيبحث عن رجل آخر حتى كأن ريش السهم يلحق بالنصال فيطلبه كما يطلب الرجل عدوه ، (قصة يعني) ، إقرأ :
يُفَارِقُ سَهْمُكَ الرَّجُلَ الْمُلَاقَى ،،،، فِرَاقَ الْقَوْسِ مَا لَاقَى الرِّجَالَا
فَمَا تَقِفُ السِّهَامُ عَلَى قَرَارٍ ،،،، كَأَنَّ الرِّيشَ يَطَّلِبُ النِّصَالَا
ويستمر في المبالغة والابتكار حد التمادي ودون كلل أو نضوب ، “سبقت السابقين” ، “جاوزت العلو” ، “لا يصلح” الناس مجتمعين “شمال” ما تصلح انت “يمينه” لوحدك :
سَبَقْتَ السَّابِقِينَ فَمَا تُجَارَى ،،،، وَجَاوَزْتَ الْعُلُوَّ فَمَا تُعَالَى
وَأُقْسِمُ لَوْ صَلَحْتَ يَمِينَ شَيْءٍ ،،،، لَمَا صَلَحَ الْعِبَادُ لَهُ شِمَالَا
وأخيرا يعجب المتنبي من أمر غريب هو كيف قدر هذا الرجل على النشوء في مراحل عمره بينما أعطي الكمال وهو في المهد وإذن فلم تكن له حاجة الى النضوج أكثر ! ، وأنا أعجب كيف قدر المتنبي أن يصنع كل هذه المعاني بل كيف قدر أن يجرؤ على قول بعض منها مما يعد سقطات غير مقبولة عقلا أو دينا ، ولكن ماذا نقول ونحن أمام هذا الابداع:
وَأَعْجَبُ مِنْكَ كَيْفَ قَدَرْتَ تَنْشَا ،،،، وَقَدْ أُعْطِيتَ فِي الْمَهْدِ الْكَمَالَا