خاص: إعداد- سماح عادل
ثار الجدل في الآونة الأخيرة عن حركة تدعى الافروسنتريك أو “المركزية الإفريقية” وهي حركة يناصرها مجموعة من الناس الذين يعيشون في أمريكا بالأساس، تدعي انتماء الحضارة المصرية القديمة وحضارات أخرى الى ذوي البشرة السوداء، وسنحاول البحث عن تلك الحركة.
“المركزية الإفريقية”..
تشير الدراسات إلى أن أصل تلك الحركة يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، أسسها مثقفون أميركيون من أصول إفريقية (أفرو أميركان)، لتسليط الضوء على مساهمات الثقافات الإفريقية في تاريخ العالم، وهي قضية عادلة لكن في العقود اللاحقة انحرفت لتتخذ مسارا يعتدي على حضارات الآخرين وبخاصة في الشمال، لذا يعتبر كثيرون من العلماء أن نظرية “المركزية الأفريقية” هي بمثابة نسخة سوداء من “المركزية الأوروبية” البيضاء. إذ يدعي أتباع تلك النظرية أن الحضارة المصرية القديمة هي حضارة إفريقية سوداء، وأن المصريين المعاصرين هم أحفاد المستعمرين الذين توالوا على مصر. كما يزعمون أن الحضارة الإغريقية في اليونان أسسها المصريون، وأن حضارة اليونان كانت النواة لحضارة الغرب ومن ثم فإن الحضارات حول العالم منشأها الأفارقة السود.
الأيديولوجية التي تقوم عليها هذه النظرية ربما انطلقت من الصراع أو الكراهية للمستعمر الأبيض. ويقول الباحث السياسي لدى المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية “إيهاب عمر”: “إن المركزية الإفريقية أو الفاشية السوداء تزعم أن الغرب يخفي أسرارا علمية حول الأصول الإفريقية للحضارة المصرية من أجل إخفاء تفوق الرجل الإفريقي الأسود على الرجل الأوروبي الأبيض. وتلك النظرية تقوم على نسبة كل علوم العالم إلى الشعب الإفريقي الذي عاش واستوطن مصر بدلا من شعبها البدائي الهمجي، وأن هذا الشعب الإفريقي هو صاحب الحضارة المصرية القديمة، ولكن عقب ذلك جرى الغزو اليوناني والروماني والعربي مما جعل الشعب الإفريقي المصري الأصلي يهرب من مصر إلى إفريقيا والعالم، بينما الشعب الموجود في مصر اليوم هو مجموع أبناء المستعمرين لمصر”.
تدرس في المناهج التعليمية..
وفي مقال بحثي لـ “آن ماسي روث” أستاذة علم المصريات وعملت بعدد من الجامعات الأميركية ومن بينها “جامعة هاورد” في واشنطن، المختصة بأبحاث السود نشرته جامعة بنسلفانيا، فإن “علم المصريات الأفرو مركزية”، كما يمارس اليوم، وراءه مؤلفات علمية دولية. وبحسب المقال ذاته المنشور في التسعينيات فإن الحركة كانت أكثر بروزا في فرنسا مما هي عليه في الولايات المتحدة، لكنها تتخذ في الأخيرة شكل حركة سياسية وتعليمية تهدف إلى زيادة احترام الذات والثقة لدى الأميركيين الأفارقة من خلال تأكيد إنجازات الحضارات الإفريقية، وبخاصة مصر القديمة. على هذا النحو يتم الترويج لها في الكتب والكتب المدرسية وحتى الملصقات التعليمية التي ترعاها مؤسسات تجارية كبرى ويبدو أنها حققت نجاحا كبيرا في أهدافها التعليمية، إذ يتم تدريسها للطلاب من المدرسة الابتدائية وحتى المستوى الجامعي في جميع أنحاء أميركا. ويضيف المقال أن “هذا النوع من علم المصريات لا علاقة له بعلم المصريات الذي يمارسه علماء المصريات المحترفون”.
وتقول البروفيسور الأميركية التي لها عشرات المؤلفات في علم المصريات : “يعتبر كثيرون منا توغلات المركزية الإفريقية في مجالنا مصدر إزعاج. في معظم الحالات يكون رد فعلنا على المركزية الإفريقية هو التجنب: فنحن نتعامل مع القضية من خلال رفضها على أنها هراء، والاستخفاف بمعرفة مؤيديها، والعودة إلى علم المصريات الحقيقي. مع ذلك، من خلال القيام بذلك فإننا نتجاهل خطراً ونفوت فرصة”. وترى “آن ماسي روث” أنه “لا يجب التعامل بعداء مع أولئك المركزيين لكن بدلاً من ذلك يجب تفعيل الحوار والعمل على تدريب جيل من الباحثين الأفرومركزيين على الأساليب العلمية في علم المصريات ومن ثم سيصبحون فيما بعد قادرين على تصحيح مفاهيمهم. ويجب على معلمي النظرية الإفريقية أن يشجعوا الطلاب على التحقيق في الأدلة الأولية وصقل معرفتهم بمصر والحضارات الإفريقية الأخرى”.
ادعاءات عنصرية..
يتفق باحثو التاريخ والأنثروبولوجيا وعلماء المصريات على استناد جدليات “الأفروسنتريك” إلى ادعاءات عنصرية لا أساس لها وبلا سند تاريخي أو علمي، بل إن بعض الباحثين من مؤيدي المركزية الإفريقية مضللون في واقع الأمر. ويشير “كوامي أنتوني أبياه”، وهو مؤرخ غيني أميركي عمل لدى عديد من الجامعات في الولايات المتحدة وألمانيا وغانا وجنوب إفريقيا وفرنسا، إلى أن “أصحاب نزعة المركزية الإفريقية يستندون إلى أفكار خاطئة عن العرق، فضلا عن أنها عنصرية جنبا إلى جنب مع نزعة غير ديمقراطية للاحتفاء بإنجازات الأقوياء”. ويشير إلى أن “اهتمام الأفرو-مركزيين بلون قدماء المصريين ينبع من فكرة أنهم إذا كانوا من السود فإنهم من العرق نفسه مثل الأفارقة السود المعاصرين، مما يجعل إنجازات قدماء المصريين واحدة من الأصول الأخلاقية للسود المعاصرين”. ويضيف أنه “عند اختيار الحديث عن مصر وتجاهل بقية إفريقيا والتاريخ الإفريقي فإن دعاة المركزية الإفريقية يتشاركون التحيز الأوروبي ضد الثقافات الأخرى. فأتباع ذلك الفكر اختاروا مصر تحديدا لأن المركزية الأوروبية سبقتهم بمطالبات في البلد ذاته”.
عظمة حضارة المصريين..
السبب الذي يقف وراء دفع كثيرين حول العالم بمثل هذه المزاعم يمكن تلخيصه ببساطة بما قدمته الحضارة المصرية القديمة للبشرية من علوم أسهمت في تطوير البشرية. فبرأي مؤرخين وعلماء أنثروبولوجيا غربيين فإن الأهرامات وأبوالهول ربما يكونان كافيين لأن يجعلا كثيرين يرغبون في الانتساب إلى تلك الحضارة. ففي أرمينيا، هناك اعتقاد بأن الملكة نفرتيتي أرمينية الأصل وليست مصرية، إذ يعتقد بعض المؤرخين الأرمن أن الملك أمنحوتب الرابع (1383-1375) تزوج بالأميرة الأرمينية توتوخيبا المعروفة في مصر القديمة بـ”نفرتيتي”، التي انتقلت بالأساس إلى مصر للزواج من أبيه أمنحوتب الثالث قبل وفاته. وبحسب زعمهم فإن تلك الأميرة من مملكة ميتاني في المرتفعات الأرمينية.
ووفق رد منشور في صحيفة “الأخبار المصرية” بتاريخ 3 أغسطس (آب) 1961، فإن اللبس في تحقيق نسب نفرتيتي لدى الأرمن ربما حدث نظرا إلى تاريخ الفترة التي تحدث عنها، وهي فترة مشهورة في تاريخ الشرق الأوسط القديم بكثرة علاقات المصاهرة بين الفراعنة وملوك الحيثيين والميتانيين، وغيرهم من شعوب الحدود بين آسيا الصغرى وما جاورها إلى الشرق وإلى الجنوب، ومن هؤلاء قبائل أرمينية إذا صح أن قبائل الحيثيين جميعا ترجع في أصولها إلى شواطئ بحر الخزر من مشرقه إلى مغربه، حيث تتلاقى الحدود بين تلك الأقاليم والأقاليم الأرمينية إلى اليوم.
وقد فند “السير ألان غاردنر” عالم المصريات البريطاني الشهير، في كتابه “مصر الفراعنة”، الصادر عام 1961 في أكسفورد، هذه المزاعم. فمن المعروف أن نفرتيتي كانت بنت الحاجب الكاهن “آي”، وهو من سلالة الكهنة والرؤساء الأقدمين بوادي النيل. ووفقاً لغاردنر فإن الادعاء الأرميني يقوم في سبيله عائق يحول دون قبوله، وهو أن المعروف أن نفرتيتي كان لها أخت، وأن “تي” قرينة الحاجب الكبير كانت ترضعها وتربيها.
عبيد الأهرامات..
بالإضافة إلى زعم بعض اليهود أن أسلافهم هم من بنوا الأهرامات خلال فترة استعبادهم في مصر القديمة، فإن هذه المزاعم تبددت بعدما عثر الأثريون على أدلة بأن العمال الذين عملوا في إنشاء الأهرامات كانوا من السكان المحليين الذين تم دفع أجور لهم مقابل خدماتهم وتم بناء قبورهم بجانب تلك الأهرامات تكريما لجهودهم. وتشير مجلة “ديسكفر” العلمية إلى أنه في عام 1990 تم العثور على عدد من المقابر المتواضعة لعمال الأهرامات على مسافة قصيرة من مقابر ملوك الفراعنة. وفي الداخل اكتشف علماء الآثار جميع السلع الضرورية التي سيحتاج إليها العمال للتنقل عبر ممر إلى الحياة الآخرة، وهو كرم كبير من غير المرجح أن يمنح للعبيد العاديين، وفق تفسير العلماء.
وتم أيضاً العثور على ما يعتقد أنه كان منزلا أو مقر إقامة لأولئك العمال، وداخل تلك الثكنات الكبيرة عثر العلماء على بقايا كثيرة من الوجبات التي تناولوها، بما في ذلك وفرة من الخبز واللحوم. ويمكن العثور على رسومات هؤلاء العمال في جميع أنحاء المباني التي قاموا بإنشائها. كانت العلامات المكتوبة باللغة المصرية مخفية على كتل داخل الأهرامات حيث تم تسجيل أسماء مجموعات عمل مختلفة، بما في ذلك “سكارى منقرع” و”أتباع التاج الأبيض القوي لخوفو”، وتم تسمية كلتا المجموعتين على اسم الفراعنة في عصرهما.