17 نوفمبر، 2024 4:38 م
Search
Close this search box.

فزع

كنت اوجه لهم اسئلة مرارا وتكرارا عن سبب اعتقالهم لي، لم يجب أحد منهم على أسئلتي. قلت لنفسي: أنهم يتجاهلون وجودي، لذا، لم يرد احد منهم على اسئلتي. هذا الجمود، أو لامبالاتهم، زادت من قسوة الألم على نفسي. كان جسدي يختض، وصدري يكاد ينفجر بالغضب على الرغم مني. فما كان مني الا أن استعين بالصمت لأقلل من غضبي، الذي اشتعل في الداخل مني. يفترسني القلق والترقب وأنا أسمع اصوات احتكاك عجلات الهمر العسكرية بالأسفلت، كأنه هزيع رعد في ليلة معتمة. ما جعل الرغبة الجامحة في تمزيقهم وتدمير هذه العربة اللعينة، تزداد شدة وقوة من غير ان تجد طريقها الى العمل. كانوا قد سلبوا مني، قدرتي على الحركة، عندما قيدوني وادخلوني الى العربة واغلقوا بابها. استمر في تحديقي في العتمة. عيناي تدوران بألم في الحيز الضيق لكيس البلاستك، الذي طوقوا رأسي به، بطوق محكم الاغلاق.. عانيت صعوبة في التنفس. كان الصمت فائض الثقل عليَ في هذه الدقائق الموجعة. شغلتني بي؛ كي يتفادى مطرقة السكوت المخيف على سندان داخلي الذي ضج بالأسئلة عني وعن اضطراب وفوضى الحياة، وعم مجهولية المصائر حتى اللحظة. اتابع بانبهار الحركة المدهشة لقطع الغيوم وهي تتحرك ببطء على سطح السماء، التي تتماوج عليها، بقية اضواء في طريقها الى الإنطفاءلشمس، بدأت منذ هنيهة رحلة المغادرة. الامر حدث بسرعة ربما لا ابالغ اذا قلت ان الامر وما فيه؛ كان اسرع من ان يمهلني لحظة للتفكير بما جرى لي. كانت امي، منذ زمن بعيد، تقول لي حين كنت صغيرا:” يا بهاء اني خائفة عليك، اسئلتك الكثيرة تقلقني، وصفناتك تثير فيً الهواجس والقلق.”. الرطانة التي سمعتها الآن، فجأة، في التو، ركزت مسامعي على الحديث الذي كان يدور بينهم، على بُعد اشبار مني، لم افهم اي كلمة من حوارهم مع اني اعرف تماما اللغة التي يتحاورون بها، فقد كانت الكلمات مدغمة بالإضافة الى ان الاصوات كانت واطئة جدا، وصوت محرك العجلة وعجلاتها اعلى من اصواتهم. مما حدا بي ان اتوقف عن الانصات. أذ، بدأ حديثهم ينأى، بعيدا عني أو أني انأى عنهم.. قلت مع نفسي: لا شيء تغير الا الوجوه واللغة. عندما ادخلوني في الغرفة التي لا تتسع إلا لشخصين، خالية من النوافذ، إلاّ من كوة في اعلى الجدار. صمت مخيف  في الليل الحزين هذا، أو أني كنت احسني حزينا وموجوعا. اصوات كائنات الليل تأتيني من تحت اقدامي ومن صدري وبطني ورقبتي. ظللت واقفا لا ادري كيف اعمل او ماذا علي ان اتصرف للتغلب على هذه الوحشة وعلى هذه الحشرات الليلية التي بدأت في الحال، رحلة التنقيب عن امكنة الغذاء في جسدي. الخوف يقتلني والاسئلة الكثيرة ما انفكت تقلقني. كنت بحاجة ماسة الى التدخين. أخذتُ أتآملالجدران واتساءل؛ هل انادي على احدهم كي ينجدني ولو بسيجارة واحدة أطفأ بها نار حسراتي. لكن المكان كان غارقا في الصمت الوحشي. لماذا جاءوا بي الى هذا المكان؟. حين قيدوني واقتادوني في ساعة متأخرة من الليل، قبل دقائق ربما من انبلاج الفجر؛ كنت اغط في نوم عميق، او كنت في حلم ماتع لنوم عميق. اتذكر اني كنت قبل ساعة من خلودي الى النوم؛ اتجول سائحا، في حلم جميل، عن الحرية والحب والحياة؛ خلقته من خيالي. الأحلام كانت لي سلوى، أتنفس بها هواء الحرية والحب والحياة، ألجأ إليها كي افتح بها ابواب الحياة التي اشتهيها ولو في الخيال، بالإضافة الى الكتب التي اقرأها فهي الاخرى كانت الأكثر امتاعا. استرخي في فراشي. انظر في السقف، بعينين ناعستين، اثقلهما الوسن. فيما كانت اصداء الحلم الذي طال انتظاري له؛ تتردد في رأسي. كان الحلم جميلا وممتعا، عبر بي حدود الدهشة، لذيذا كان. جعلني احلق بعيدا عني، أو عن الواقع الذي هو انا فيه، الى مواطن الحميمية التي تنعش الروح وتخدر الجسد. سمعت صوتا غاضبا: أنهض! فززني الصوت الغاضب واخرجني عنوة من رجع الصدى لحلمي الماتع. حين فتحت عيني على سعتيهما، رأيت ابي يقف مأخوذاً وخائفا، لصق الجدار. أمي هي الاخرى قد تملكها الخوف الذي رأيته هائلا وصارخا في عينيها التي أغرقها الدمع. دفعوني الى داخل السيارة ذات الزجاج المظلل. اسمع صرخات امي اما ابي فقد كان يلفه الصمت ورعب اللحظة. لا احد تكلم معي منهم، كانوا ساكتين كأن فيهم شيء من الخوف والتوجس. وإلا لماذا لا يقولون اي شيء؟. ولم يجب اي احد منهم او لم يردوا على اسئلتي التي كررتها سواء وهم ينتزعونني من منامتي في القطع الاخير من ذاك الليل المشؤوم. ” أنا والله لم اشتم الحكومة او اسيء إليها باي شكل كان؟. وقتي كله اقضيه في القراءة. لم يكن عندي وقت فائض، انشغل فيه، في موضوعات الحكومة. تئز الرياح في كوة الغرفة. بركت على ركبتي انظر في الفراغ وانا مسلوب الارادة والتفكير. حائرا، لا اعلم اي جرم اقترفته ولا ادري. الغرفة هذه، ذات الكوة الوحيدة تقع في زاوية من بناية منعزلة عن البناية الفخمة التي ادخلوني فيها وهم يدفعونني بالركلات، البناية تقع في قلب المدينة. كنت اعرفها فقد مررت في سبعينيات القرن المنصرم، قريبا منها، في الجانب الثاني من الطريق الواسع التي هي فيه، في الزمن الذي انقضى وصار الآن ماضيا. ففي السنوات التي تلت، تحاشيت المرور بالقرب منها حتى وان كان طريقي يمر بها. بكاء او ما يشبه البكاء او انه غناء موجع اخذ شكل النواح، نواح حزين. دخل عليَ من الكوة. “أذا، لم اكن وحدي، حتما هناك اخرون”. لا اعلم هل اني نمت ام لم انم حين دفعوا الباب ودخلوا علي، كانوا ثلاثة او اربعة او اكثر او ربما لم يكن إلا واحدا من رفس الباب وضربني ببسطاله على قمة رأسي ما جعلني افز مرعوبا وخائفا ودائخا من شدة الضربة التي افقدتني سيطرتي على نفسي وجسدي الذي خانني، لذا، سقطت على وجهي. عندما اخرجوني، أو قاموا بسحلي، سمعت صوتا يئن ويتوجع. –  والله صدقوني لا استطيع ان اقف على أرجلي. أخ، أخ، اخ.. هذا الصوت ليس غريبا عني. من هو؟. كدت اسقط على وجهي من قوة الركلة. – انهض وادخل بسرعة قشمر. اصطفق الباب خلفي. عندما فتحوا او فكوا العصابة عن عيني؛ وجدتني في غرفة فخمة. غارة لفصيل خيالة. الخيول المغيرة والتي يمتطيها، فرسان ملثمين، تترك خلفها حزمة من الغبار والرمل الناعم، راكضة في صحراء لا حدود لها، او هكذا بدت لي وأنا انظر الى اللوحة التي كانت على الجدار، قبالتي. صورة لرئيس الدولة باللباس العسكري وهو يطلق النار نحو السماء التي تراءت لي، غائمة بغيوم رمادية. وثمة منضدة فخمة هي الاخرى، يجلس وراءها رجل، مكفهر الوجه على الرغم من محاولته ان يبتسم او يبدو او يحاول ان يكون، رقيقا ومريحا، لكنه لم يستطع ان يكون إلا ما هو كائن. تبدو العافية على معالم وجهه واضحة وهو يتفحصني من اخمس قدميّ الى قمة رأسي، بنظرات ثاقبة، اخترقتني. في عينيه وتحديدا في بؤبؤيهما رأيت هناك، في حركتيهما، وحش يتحرك او ذئب يتهيأ للانقضاض عليَ وخنقي. جميع هذه الافكار حضرتني وانا انتظر ما يطلب مني او ما يريد مني ولماذا اعتقلوني واخذوني من بيتي؟. كانت هناك على المنضدة مجموعة من الكتب وقد صفت كأنها سلسلة. حاولت ان اقرأ عناوينها، مددتُ عنقي، بحلقتُ بعينيَ، علني اتمكن من قرأتها على الرغم من المترين اللتين تفصلاني عنها. لم اتمكن او لم يكن باستطاعتي قرأت جميع العناوين فقد كان فوق الكتب بندقية ألية، إلا كتاب وليمة لأعشاب البحر، المسدس الذي كان يستقر عليه كما السجان الذي يقوم بمهمة منعه من الهروب، لم يحجب عني العنوان – اجلس هنا.. واشار الى كرسي بجانب المنضدة. كانت جميع الكتب هي كتبي وهي كتب مستنسخة وممنوعة. بعتها بعد ان قرأتها، بعتها كمجموعة واحدة بسبب ضغط الحاجة التي كانت في حينها، شديدة الوطأة، في تسعينيات القرن الذي عبر على جسر المصيبة. استل من علبة سكائر الروثمانالموضوعة على المنضدة، دخنها وقدم لي واحدة. دخنتها بلهفة. فقد كانت حاجتي للتدخين كبيرة جدا. لم ادخن منذ ليلة امس. اشعرتني نظراته العنيفة وانا ادخن بالرعب. لا ادري لماذا؟، تملكتني الرهبة والتوجس اللذان كانا كلي الحضور على عقلي ونفسي من أني لن اخرج سالما من هذا المكان او اني لن اخرج حيا، ابدا.- هذه الكتب من المؤكد انك تعرفها واضاف؛ هي كتبك. اردت ان انفي من ان هذه الكتب هي كتبي. لكنه سبقني وكأنه يعرف اجابتي مسبقا، لذا قال بسرعة: لا تتبرأ منها، فنحن نعرف انها كتبك ولدينا الدليل. لم يقدم الدليل. ظل يسألني في البداية بهدوء ومن ثم وبالتدريج تصاعد العنف في أسئلته التي انحصرت في شق واحد لا غير؛ من اين حصلت عليها. اجابة واحدة هي التي كنت اصر عليها وهي انني لا اتذكر او لا ادري. على هذا المنوال، استمر الحال الذي تخلله السب والشتم وايضا البصاق الذي ملء وجهي، بيني وبينه لأكثر من ساعة. في الاخير وضع امامي ثلاث اوراق قائلا أقرأ يا ابن….كانت قصة كتبتها وأسمي كاملا مكتوب في نهاية اخر الصفحة. ونسيتها في بطن احد الكتب التي بعتها الى الشخص الذي لا اعرفه والذي ابتاعها مني. الآن وانا في هذا الخانق المميت والذي ربما لم اخرج منه سالما؛ ألوم متأخرا، نفسي، كيف سوّلت لي وبعت كتبي الى شخص لا اعرفه. لكنه كان قد علق برأسي وظل يلح من انه يقرأ الكتب الممنوعة ولا يجد من يثق به..- ماذا تقول الآن يا ابن… احتميت منه بالصمت. اما هو فقد ظل يلح بتهديد ما ينتظرني ان لم اعترف واقول الحقيقة وبكلمات، محملة بالموت المنتظر… فتح باب الغرفة التي لا تتسع إلا لشخصين. دفعوني بقوة مرة اخرى، الى داخلها، واغلقوا الباب. وقعت على الارض الاسمنتية. كنت دائخا لا اقوى حتى على تحريك جسدي او الاستدارة او رفعه من على برودة الارض تحتي فقد كنا في برد كانون الاول. أخذت أئن واتوجع بصوت مسموع. الدماء تسيل من فمي وبقية وجهي. لكن الدم الذي ارعبني هو ذاك الذي ما انفك يشخب من مؤخرة رأسي حتى ان تدفقه اغرق بالدم قميصي ورقبتي وصدري. الانين او البكاء المخنوق لصوت لم يكن غريبا عني، والذي سمعته؛ عندما اخرجوني سحلا قبل ساعة. قلت مع نفس انه لم يزل يبكي او ينوح. عيناي مازالتامسجونتين، هما ورأسي، في سجن، قدّ من البلاستك المرن. اصيخ السمع. ازيز طائرات فوقي ودوي عجلات عسكرية بالقرب من المكان او في المكان الذي دخلت سيارتهم فيه، وتوقفت. تناهى الى سمعي، صرير باب يفتح، صرّ صريرا قويا صمّ آذاني. يأتيني صوت أمي الواهن، الواهن جدا، فقد اقتربت خطوات حياتها من حافة القبر، بعد تقاعدها من مهنة التدريس منذ سنوات ورحيل ابي الى العالم الآخر: لا تخرج في هذا المساء. تحذيراتي امي مستمرة منذ شبابي؛ بعدم الخروج، او الابتعاد عن كل ما يثير الشكوك حولي ويضعني في موضع الريبة، ومتواصلةالى الآن. قالت مضيفة: الامريكان اعلنوا منع التجول في جميع انحاء العاصمة. عندما وصلت في المساء، قبل الغروب بقليل، الى المكان الذي تعودت الجلوس فيه، للتأمل، فهو متنفسي الوحيد، كان الشارع المحاذي لمقبرة الانكليز الذي يرقدون هنا، في بطن التراب، منذ ما يقارب القرن، فارغا، تماما من حركة الناس. جلست على المصطبة كما هي عادتي في كل مساء، اتأمل سحب السماء المتفرقة واخر خيوط النور الشمس في الطريق الى الأفول. توقفت سيارة الهمر، مرة اخرى. بعد ان تحركت لثوان. فُتحت ابوابها. انزلوني ومن ثم فكوا قيودي ورفعوا عن رأسي وعيني، الكيس الاصفر او الاحمر اللعين. أول شيء، حطت عيناي عليه، قطعة خشبية، لامعة وصقيله، كتب عليها: مقر بلاك ووتر..

أحدث المقالات