26 نوفمبر، 2024 3:27 م
Search
Close this search box.

الثقافة القانونية والمنظومة التربوية : انتفاء في التواصل وانكفاء في التفاع

الثقافة القانونية والمنظومة التربوية : انتفاء في التواصل وانكفاء في التفاع

لعلنا لا نذيع سرا” حين نشيع حقيقة أن أضعف حلقات منظومة التربية والتعليم في عراق ما بعد التغيير ، هي ليست فقط غياب الثقافة القانونية التي تعكس مستوى تطور إحساس الفرد بالمواطنية ، وتنمي لديه قيم الاعتداد بالحقوق الشخصية فحسب ، بل وتفشي ظواهر انعدام الشعور بالمسؤولية الجماعية ، وتلاشي فضائل الوازع الذاتي التي يعول عليها تشذيب نوازع المغالبة وتلطيف دوافع الاثرة أيضا” ولهذا فان أية محاولة تستهدف تقويم الاعوجاج الذي أصاب كيان النظام التربوي ستذهب أدراج الرياح ، طالما بقيت الثقافة القانونية مغيبة عن وعي الإنسان ومستبعدة عن حقل اهتماماته . والواقع إن الرهان المترتب على تأصيل هذا النمط من التفكير الحضاري ضمن الهيكل التعليمي بمختلف مراحله وتعدد مستوياته ، لا ينبغي له أن يكون مجرد محاولة لاستدراك ما أهملته الأنظمة المتعاقبة أو تصويب للأخطاء التي مارستها في هذا المجال الحيوي ، بحيث يستوجب اعتباره مادة دراسية تضاف إلى مقررات البرامج التعليمية – على رغم أهمية هذا التوجه وتقدير ضرورته – بقدر ما يستلزم تركيز الاهتمام على إحداث تغييرات نوعية واسعة تطال أنساق القيم وبنى التصورات وأنماط العادات من جهة ، وتؤنسن العلاقات وتحضرن السلوكيات وتشرعن الطموحات من جهة أخرى . واللافت للنظر انه برغم قلة المعالجات الجادة التي تطرقت لهذه المعضلة الاجتماعية ، فضلا”عن ندرة المتابعات التي تستقصي أبعادها الأخلاقية ، إلاّ أن أغلبها لم يبرح ميدان الثقافة القانونية في بعدها السياسي ، وتحديدا”ذلك المتعلق بالمجال الدستوري ، على خلفية الافتراض الذي مؤداه ؛ إن عموم المواطنين يحتكمون على حصيلة لا بأس بها من المعارف القانونية العامة التي تتيح لهم ، ليس فقط التمييز ما بين الضرورات والمحظورات فحسب ، بل وتمنحهم القدرة على الفصل  ما بين الحقوق والواجبات أيضا”، وهو الأمر الذي تبنت ترويجه وسائل الأعلام بحمية لا تحسد عليها . من هنا فان أي مسعا”يستهدف تطعيم المنظومة التربوية بالثقافة القانونية ، سوف لن يكون مردوده تعزيز سلطة الدولة وتعظيم هيبة القانون فقط ، وإنما استئصال مظاهر العنف الاجتماعي واجتثاث زؤان الكراهية ، وإشاعة قيم التسامح واحترام حقوق الآخرين . وهو ما لم تقدر قيمته ويؤخذ بالاعتبار شأنه لحد الآن ، لا من قبل مؤسسات المجتمع السياسي باعتبارها صاحبة تشريع القرار وجهة الإيعاز بالتنفيذ فحسب ، وإنما من منظمات المجتمع المدني باعتبارها الطرف المسؤول عن تقنين العلاقة بين غلواء الحاكم وأهواء المحكوم . وبصرف النظر عن جدوى ما يشاع حول ضرورات تأصيل الثقافة القانونية في منظومة التربية والتعليم ، وجعل الأولى عنصرا”فاعلا”في نسيج مكونات الثانية ، فان الإعلان عن الرغبات والإفصاح عن التمنيات والتبجح بالميزانيات شيء ، والالتزام بالتوجيهات والتقيد بالتوصيات والتطبيق للمقررات شيء آخر تماما”. فعلى مدى السنوات الست للجمهورية الثالثة ، لم نبرح نسمع عن الخطط الشاملة ونقرأ عن البرامج الواسعة ونعول على النوايا الطيبة ، في حين ثبت بالوقائع الفاقعة أنها مجرد وعود معسولة وليست التزامات مسؤولة ، وتطمينات مخدرة وليست إجراءات مؤثرة . فلا الثقافة القانونية أصبحت من معالم حياتنا المدنية ، بحيث تنتفي علاقات المغالبة والاستزلام . ولا المنظومة التربوية أمست من مظاهر وعينا الاجتماعي ، بحيث نستغني عن العنف بالحوار وعن القوة بالتسامح وعن الأنانية بالغيرية . إذ لا زالت الأولى ثقافة خطابية / شكلية تسوغ الخطأ وتبرر الانحراف بشتى الحيل والمغالطات ، في حين إن الثانية استمرأت كونها نسقيّة / نمطية تخفي عيوبنا وتجمل قباحاتنا بمختلف ضروب التعتيم والطمطمة . والانكى من ذلك كله إن العلة لا تكمن في انعدام الرابطة بين ما يعتقد أنها قيم الثقافة القانونية من جهة ، وبين مكونات المجتمع العراقي من أفراد وجماعات من جهة أخرى ، بقدر ما تكمن فيما إذا كانت هناك ثقافة قانونية أصلا”. إذ العبرة ليست في أنك تحمل مؤهلا”أكاديميا”في العلوم القانونية ، أو تحفظ عن ظهر قلب جملة من النصوص التشريعية ، أو تحذق بفهم بعضا”من القواعد الفقهية ، بل العبرة – كل العبرة – في مدى تأثير ذلك المؤهل وتلك النصوص وهاتيك القواعد في تشذيب وعيك وتهذيب أخلاقك ، وعقلنة سلوكك وأنسنة علاقاتك . وبمقارنة الحصيلة الإجمالية فان ما ينبغي أن يقلقنا ويثير حفيظتنا أولا”وأخيرا”، هو تأخرنا في مضمار خلق الشروط وتهيئة المستلزمات الضرورية ، التي من شأنها غرس الثقافة القانونية ؛ لا في إطار بنية الوعي الفردي للنخب السياسية التي لا تفرط بالمصالح بقدر تفريطها بالثوابت الوطنية والقوانين الدستورية فحسب ، بل وعلى مستوى الإدراك العام للشرائح والفئات الاجتماعية المهملة ، التي أعياها الفساد المالي والإداري وأرهقتها وطأة الحاجة ومظاهر الفوضى . فهل نمتلك ، بعد ذلك ، ما نستصرخ به ضمائرنا لكي تستفيق من سباتها ، بعد أن لوثتها نوازع الأنا الأوحد ، ونستنهض به إرادتنا لأجل أن تتحرر من عطالتها ، بعد أن علاها الصدأ وعفرتها المذلة ؟!
[email protected]

أحدث المقالات