خاص: قراءة- سماح عادل
يصف الكتاب براعة الهنود في مجال الطب، حيث استطاعوا القيام بالعمليات الجراحية الكبرى، في العصر القديم، وتأثرت بهم الأمم التي جاءت بعدهم. وذلك في الحلقة السابعة والسبعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الطب..
يحكي الكتاب عن الطب في الهند القديمة: “وتقدمت الكيمياء بادئة طريقها من مصدرين: الطب والصناعة؛ فقد أسلفنا بعض القول في براعتهم الكيماوية في صب الحديد في الهند القديمة، وفي الرقي الصناعي العظيم في عصور “جوبتا”، حينما كان ُينظر إلى الهند- حتى من روما القيصرية- على أنها أمهر الأمم جميعاً في صناعات كيماوية مثل الصباغة والدبغ وصناعة الصابون والزجاج والأسمنت؛ وفي تاريخ بلغ من القدم القرن الثاني قبل الميلاد، خصص “ناجارجونا” كتاباً بأكمله للبحث في الزئبق؛ فلما أن كان القرن السادس كان الهنود أسبق بشوط طويل من أوربا في الكيمياء الصناعية، فكانوا أساتذة في التكليس والتقطير والتصفية والتبخير واللحام وإنتاج الضوء بغير حرارة، وخلط المساحيق المنومة والمخدرة، وتحضير الأملاح المعدنية، والمركبات والمخلوطات من مختلف المعادن؛ وبلغ طرق الصلب في الهند القديمة حداً من الكمال لم تعرفه أوربا إلا في أيامنا هذه.
ويقال أن الملك يورس، قد اختار هدية نفسية نادرة يقدمها للإسكندر ثلاثين رطلاً من الصلب، إذا آثرها على هدية من الذهب أو الفضة؛ ونقل المسلمون كثيراً مما كان للهنود من علم الكيمياء والصناعة الكيماوية إلى الشرق الأدنى وأوربا؛ فمثلاً نقل العرب عن الفرس، وكان الفرس قد نقلوا يدروهم عن الهند سر صناعة السيوف “الدمشقية”.
وكان التشريح وعلم الوظائف الأعضاء- مثل بعض الجوانب الكيمياء- نتيجتين عرضيتين للطب الهندي؛ ففي القرن السادس قبل الميلاد- رغم أنه عهد يغوص في القدم، كان الأطباء الهنود يعرفون خصائص الأربطة العضلية ورتق العظام والجهاز اللمفاوي، والضفائر العصبية واللفائف والأنسجة الدهنية والأوعية الدموية والأغشية المخاطية والمفصلية وأنواع من العضلات أكثر مما نستطيع أن نتبينه من جثة حديثة.
وقد زلَّ أطباء الهند في العصر السابق لميلاد المسيح في نفس الخطأ الذي وقع فيه أرسطو حين تصور القلب مركز الشعور وأداته، وظنوا أن الأعصاب تصعد من القلب وتهبط إليه، لكنهم فهموا عمليات الهضم فهماً يستوقف النظر بدقته- أعني الوظائف المختلفة للعصارات المعدية، وتحول الكيموس إلى كيلوس، ثم تحول الكيلوس إلى دم، وسبق “أتريا”، “وايزمان” بألفين وأربعمائة عام حين ذهب (حوالي 500 ق.م) إلى أن نطفة الوالد مستقلة وكانوا يحبذون فحص الرجال للتحقق من توافر عناصر الرجولة فيهم قبل إقدامهم على الزواج.
وجاء في تشريع “مانو” تحذير من عقد الزواج بين أشخاص مصابين بالسل أو الصرع أو سوء الهضم المزمن أو البواسير أو شقشقة اللسان”.
ظبط النسل..
عن سعى الهند إلى التحكم في النسل يبين الكتاب: “وكان مما فكرت فيه مدارس الطب الهندية سنة 500 ق.م، ضبط النسل على آخر طراز يأخذ به رجال اللاهوت، وهو يقوم على نظرية هي أن الحمل مستحيل في مدى اثني عشر يوماً من موعد الحيض؛ ووصفوا تطور الجنين وصفاً فيه كثيراً جداً من الدقة، وكان مما لوحظ في هذا الصدد أن جنس الجنين لا يتعين إلا بعد مدة، وزعموا أن جنس الجنين في بعض الحالات يمكن التأثير فيه بفعل الطعام أو العقاقير”.
مدونات الطب الهندي..
وعن مدونات الطب يوضح: “وتبدأ مدونات الطب الهندي بكتاب “أترافا- فيدا”، ففي هذا الكتاب تجد قائمة بأمراض مقرونة بأعراضها، لكنك تجدها محاطة بكثير جداً من السحر والتعزيم؛ فقد نشأ الطب ذيلاً للسحر؛ فالقائم بالعلاج كان يدرس ويستخدم وسائل جثمانية لشفاء المريض، على أساس أن هذه تساعد على نجاح ما يكتبه له من صيغ روحانية؛ ثم أخذ على مر الزمن يزيد من اعتماده على الوسائل الدنيوية، ماضياً إلى جواز ذلك في تعاويذه السحرية لتكون هذه معينة لتلك من الوجهة النفسية، كما نفعل اليوم بتشجيعنا للمريض.
وفي ذيل كتاب “أترافا- فيدا” ملحق يسمى “أجو- فيدا” (ومعناها علم إطالة العمر)؛ ويذهب هذا الطب الهندي القديم إلى أن المرض يسببه اضطراب في واحد من العناصر الأربعة (الهواء والماء والبلغم والدم) وطرائق العلاج هي الأعشاب والتمائم السحرية؛ وما يزال كثير من طرائق الطب القديم في وصف الأمراض وعلاجها مأخوذاً به في الهند اليوم، وإن ذلك ليصيب من النجاح أحياناً ما يثير الغيرة في صدور الأطباء الغربيين؛ وتجد في كتاب “رجْ- فيدا” نحو ألف اسم من أسماء هذه الأعشاب، وهو يحبذ الماء على أنه خير علاج لمعظم الأمراض؛ على أن الأطباء والجراحين حتى في العهد الفيدي كانوا يتميزون بما يفرق بينهم وبين المعالجين بالسحر؛ وكانوا يسكنون منازل تحيط بها حدائق يستنبتون فيها الأعشاب الطبية”.
مشاهير الطب..
وعن أسماء لمعت في مجال الطب يذكر: “وأعظم اسمين في الطب الهندي هما “سوشروتا” في القرن الخامس قبل الميلاد و”شاراكا” في القرن الثاني بعد الميلاد؛ فقد كتب “سوشروتا”- وكان أستاذا للطب في جامعة بنارس، باللغة السنسكريتية مجموعة من أوصاف الأمراض وطرائق علاجها، وكان قد ورث العلم بها من معمله “ذانوانتاري”؛ فبحث في كتابه بإطناب في الجراحة والتوليد والطعام الصحي والاستحمام والعقاقير وتغذية الرضع والعناية بهم والتربية الطبية، وأما “شاركا” فقد أنشأ “سامهيتا” (ومعناها موسوعة) تشمل علم الطب، وهي لا تزال مأخوذاً بها في الهند؛ وبث في أتباعه فكرة عن مهنتهم كادت تقرب من فكرة أبقراط : “لا ينبغي أن تعالجوا مرضاكم ابتغاء منفعة لأنفسكم، ولا إشباعاً لشهوة كافة ما كانت من شهوات الكسب الدنيوية، بل عالجوهم من أجل غاية واحدة هي التخفيف عن الإنسانية المعذبة، بهذا تفقدون سائر الناس”.
ويتلو هذين الاسمين التماعاً في تاريخ الطب الهندي اسم “فاجبهاتا” (625 م) الذي أعد موسوعة طبية نثراً ونظماً، ثم اسم “بهافامِسْراً” (1550 م) الذي جاء في كتابة الضخم عن التشريح ووظائف الأعضاء والطب، ذكر الدورة الدموية قبل أن يذكرها “هارفي” بمائة عام، ووصف الزئبق علاجاً لذلك المرض الجديد- مرض الزهري- الذي كان من عهد قريب مع البرتغاليين، جزءاً من التراث الذي خلّفته أوربا للهند.
وصف “سوشوترا” كثيراً من العمليات الجراحية، الماء في العين، والفتق وإخراج الحصاة من المثانة، وبقْر الأمهات عن الأجنة وغير ذلك، كما ذكر إحدى وعشرين ومائة أداة من أدوات الجراحة منها المشارط والمسابير والملاقط والقثاطير ومناظير القُبُل والدُّبرُ، وعلى الرغم من تحريم البراهمة لتشريح جثث الموتى، جعل يدافع عن ضرورة ذلك في تدريب الجراحين؛ وكان أول من رقع أذناً جريحة بقطع من الجلد اقتطعها من أجزاء أخرى من الجسم، وعنه وعن أتباعه من الهنود أخذ الطب الحديث عملية تقويم الأنف.
ويقول “جارِسُنْ”: “لقد أجرى قدماء الهنود كل العمليات الجراحية الكبرى تقريباً، ما عدا عملية ربط الشرايين”؛ فقد بتروا الأطراف، وأجروا الجراحات في البطن، وجبروا كسور العظام، وأزالوا البواسير؛ وقَعَّد “سوشوترا” القواعد الدقيقة لإجراء الجراحة، ويعد اقتراحه بتعقيم الجرح بالتبخير أول ما نعرفه من جهود في وسائل التطهير أثناء الجراحة؛ ويذكر لنا “سوشوترا” و”شاراكا” كلاهما فوائد أنواع من الشراب الطبي في تخدير الجسم عند الألم، وحدث في سنة 927 م أن قام جراحان بتربنة الجمجمة لملك هندي، فخدره عن الجراحة بفعل عقار يسمى “ساموهيني””.
تشخيص الأمراض..
ويكمل ع ن تشخيص الأمراض: “وأوصى “سوشوترا” بأن تتبع في تشخيص الأمراض التي أحصى منها ألفاً ومائة وعشرين، طريقة النظر بالمنظار وطريقتا جس النظر والتسمع بالأذن وقد جاء وصف لجسّ النبض في رسالة تاريخها 1300م؛ وكان تحليل البول طريقة مستحسنة في تشخيص الأمراض؛ حتى لقد اشتهر أطباء التبت بقدرتهم على شفاء أي مريض دون النظر في أي شئ يتعلق به ما عدا بوله.
وكان العلاج الطبي في الهند في عهد يوان شوانج، يبدأ بصيام مداه سبعة أيام، وكثيراً ما كان يشفى المريض في هذه الفترة، فإذا بقى المريض لجئوا بعدئذ إلى استخدام العقاقير، لكنهم لم يكونوا يسرفون في استخدام العقاقير حتى في أمثال هذه الحالات، إذ كان معظم اعتمادهم على تدبير الطعام الملائم والاستحمام والحقن الشرجية والاستنشاق والحقن في مجاري البول وإخراج الدم بدود العلق أو بالكؤوس، وكان لأطباء الهنود شهرة خاصة في تكوين ترياقات السموم، ويزالون يفوقون الأطباء الأوربيين في علاج عضة الثعبان.
ولقد عرفت الهند التطعيم منذ سنة 550 م، مع أن أوربا لم تعرفه إلا في القرن الثامن عشر، ذلك لو حكمنا من نص يعزى إلى “ذانوانتاري” وهو طبيب من أقدم أطباء الهنود، وهذا هو: “خذ السائل من البثور التي تراها على ضرع البقرة.. خذه على سنان المشرط، ثم طعم به الأذرعة بين الأكتاف والمرافق، حتى يظهر الدم؛ عندئذ يختلط السائل بالدم فتنشأ عن اختلاطه حمى الجدري” ويعتقد الأطباء الأوربيون المحدثون أن التفرقة بين الطبقات تفرقه تعزل بعضها عن بعض، منشؤها إيمان عند البراهمة بوجود عوامل خفية في نقل الأمراض؛ وكثير من قوانين الصحة التي أوصى بها “سوشوترا” و”مانو” تسلم تسليماً- فيما يظهر- بما نسميه نحن المحدثون الذين نحب الأسماء الجديدة نطلقها على ما هو قديم، أقول إنها تسلم بما نسميه نحن المحدثون بنظرية المرض عن طريق الجراثيم”.
التنويم..
وعن التنويم المغناطيسي كعلاج: “ويبدو لنا أن التنويم كوسيلة للعلاج قد نشأ عند الهنود الذين كثيراً ما كانوا ينقلون مرضاهم إلى المعابد لمعالجتهم بالإيحاء التنويمي أو “نعاس المعبد” كما كان يحدث في مصر واليونان والأطباء الإنجليز الذين أدخلوا طريقة العلاج بالتنويم في إنجلترا وهم “بريد” و”ازديل” و”إِليوتسُن” “ولاشك في أن ما أوحى لهم بآرائهم تلك، وببعض خبرتهم، هو اتصالهم بالهند”.
فالطب الهندي بصفة عامة قد تطور تطوراً سريعاً في العهدين الفيدي والبوذي، ثم أعقب ذلك قرون سار فيه التقدم بخطوات الوئيد الحذر؛ ولسنا ندري كم يدين “أتريا” و”ذانوانتاري” و”سوشوترا” لليونان، وكم تدين اليونان لهم؛ يقول “جارسن” إنه في أيام الإسكندر “كان لأطباء الهنود وجراحيهم شهرة- هم جديرون بها- بما يتميزون به من تفوق في العلم والمهارة في العمل”، وحتى أرسطو نفسه في رأي طائفة من الباحثين مدين لهم وكذلك قل في الفرس والعرب، فمن العسير أن تقطع برأي في مدى ما أخذه الطب الهندي من بغداد، ومن الطب البابلي في الشرق الأدنى عن طريق بغداد؛ فمن جهة ترى بعض طرائق العلاج مثل الأفيون والزئبق، وبعض وسائل الكشف عن حقيقة المرض مثل جس النبض، قد جاءت إلى الهند من فارس فيما يظهر؛ لكنك من جهة أخرى ترى الفرس والعرب قد ترجموا إلى لغتيهما في القرن الثامن الميلادي موسوعتي “سوشوترا” و”شراكا” اللتين كانتا قد مضى عليهما ألف عام ولقد اعترف الخليفة هارون الرشيد بالتفوق العلمي والطبي للهنود، واستدعى الأطباء الهنود لتنظيم المستشفيات ومدارس الطب في بغداد.
وينتهي “لورد آمِتهِل” إلى نتيجة هي أن أوربا الوسيطة والحديثة مدينة بعلمها الطبي للعرب بطريق مباشر، وللهند عن طريق العرب؛ ولعل هذا العلم الذي هو أشرف العلوم وأبعدها عن اليقين، قد نشأ في بلاد مختلفة في وقت واحد تقريباً، ثم جعل يتطور بما كان بين الأمم المتعاصرة في سومر ومصر والهند من صلات وتبادل فكري”.