كتب: د. هاني إسماعيل أبو رطيبة
(1)
هناك أناس تتميز بالحس المرهف شديد الحساسية، ومع هذا الحس المرهف تنزع روحها للمثالية، لحب الإنسان وقيم الوجود، تسعى إليها جاهدة، تتحمل الكثير من أجل تحقيقها، تصطدم هذه النوعية بالواقع القاسي، بعضهم ينعزل، وبعضهم يجاهد بالنكات والسخرية، والبعض الآخر يوظف موهبته من أجل الوصول إلى ما يريد؛ حتى لو كان هذا الوصول مجرد خيال جامح في ورقات معدودة بأحرف لا تغير شيئًا بل قد تعود عليه بالأذى، لكن مثاليته تواصل سيرها متغاضية عن كل أذى.
تحرّك الظروف قيم النضال بالحرف والكلمة لدى أولئك المرهفين الباحثين عن عالم مثالي أو شبه مثالي، فتنحرف روحه ويتحول إلى إنسان ناقم على كل الوجود، ومن ثم يتحول معها إلى مجرم يوظف الجريمة للانتقام من هذا العالم الظالم، بل إنه يشرعن لنفسه كل وسيلة انتقام من المجتمع بقدر ما تعرض له في حياته من أذي وألم، وهناك من يزداد مثالية بقدر ما تعرض له من أذى، فيستخدم موهبته للانتقام من خلال الكتابة أو الرسم أو غيرها من تلك الوسائل التي تثري الإنسانية والفكر والثقافة، وتدفع إلى الحوار النافع أو الهادف داخل الأمم، وتتحول مثل هذه الصرخات إلى تراث تتدارسه الإنسانية فيما بعد.
(2)
من أولئك المثاليين الباحثين عن العدل، والحق، والسعادة للبشرية، أولئك الثائرين على الظلم بكل أنواعه، نجيب سرور، الشاعر والمسرحي المبدع، الذي ناضل بالكلمة من أجل أن يحقق ما يريد، أو يعبر عما يتمنى تحقيقه.
كان الطفل نجيب سرور طفلًا يتعلق بأبيه كما يتعلق كل الأطفال، يراه مصدر الكون، ومصدر كل قوة، يحتمي به، يتفاخر به، بوصفه الأب الحامي، فجأة ودون سابق إنذار تنهار هذه الصورة الإنسانية، ويفقد الأب هالته، ويفقد الكون كله قيمته عند الطفل نجيب سرور، الذي يشاهد أباه يترجل من فوق دابته؛ ليقف أمام عمدة القرية المتجبر، الذي يهين والده باللفظ، ولا يكتفي بذلك بل ينزع حذاءه، ويضرب الأب به، لم يلمس الحذاء جسد الأب فقط، بل لامس كل قيمة إنسانية عند الطفل الصغير، هزمه قبل أن يهزم أباه، زعزع ثقته في نفسه؛ لأنه أبصر والده الشامخ في نظره يهان، يتحطم كبرياؤه، تنهار أو تغيب الصورة المثالية للأب، ومعها تتحرك النوازع السلبية داخل الطفل، تهاجمه التساؤلات، ينكمش، يتضاءل، فحاميه قد أهين، فمن يحميه بعد، من يسانده، – ربما – وقف الطفل موقف الحائر كيف يرد لأبيه كرامته، كيف يحميه، – ربما – خاف وتراجع، واهتز نفسيًا، – ربما – هذا وذلك.
كان هذا الموقف من أبرز المواقف التي أسهمت في تشكيل نفسية نجيب سرور وإبداعه – إن شئت الدقة – طرق إبداعه وأساليبه في معالجة القضايا التي يراها من حوله، لا ننتظر من طفل رأى انهيار أبيه أمامه بفعل البطش، الظلم، القهر أن يكون طفلًا سويًا في كل شيء، بل لا بد أن تتغير نفسه، يميل إلى الحدة، إلى العنف اللفظي، إلى قسوة العبارة، لأنه طُعن مبكرًا في كبرياء والده، الذي كان يمثل له كل الإنسانية، لذلك غلب على طابع نجيب سرور الحرف الساخر، والكلمة الحادة، والعبارة التي تكسر التابوهات – المحظورات – المزيفة التي صنعها أو فرضها القهر السياسي أو المجتمعي، وقتل داخل الإنسان الحرية، وأعلى من قيم الأحادية، أو الواحد الفرد، منذ البداية كان قرار المثالية داخل نفس نجيب سرور هو الرفض أو القطيعة بين نفسه الجريحة وبين محيطه المزيف، أو المنافق، لذلك رفض كل شيء، انتقد كل شيء، ثار ضد كل شيء، بما يملك من موهبة، من قدرة على خلق الحرف، الكلمة، العبارة.
للحديث بقية..