18 ديسمبر، 2024 9:37 م

تتميز الاحزاب العقائدية في العالم العربي في انها تتسع افقيا في سياق هوس توسيع الكسب والتنظيم وذلك على حساب البناء القيادي العمودي الذي ينبغي ان يهتم في تربية وتنمية وانتاج القيادات الحركية .
حالة عدم التوازن والانسجام هذه . تؤدي الى ترهل التنظيم حيث يصاب الاعضاء بحالة الاسترخاء و الإستغراق في التنظير وتفسير الافكار والطروحات الفكرية .
هذه الحالة ، عادة ما يتم كشفها والالتفات اليها في مراحل الازمات والمنعطفات التي تضع الحزب في اتون مأزق القيادة وفقر القرار الثوري .
وفي حال عدم قدرة التنظيم على ابراز وانتاج قيادة الازمة المؤهلة لاتخاذ القرار . هنا تظهر لعنة الانشقاقات وحالات التمرد على التنظيم والحزب .
غير ان الميزة الايجابية في هذه الاحزاب وقياداتها هي انها تسمح ( استثناءا ) لكوادر يأتون من الحلقة الدنيا للتنظيم والصعود لتسنم قيادة المرحلة وذلك خارج السلم التراتيبي في صعود القادة .
ومع توالي المحن والازمات . ظهر مفهوم ( القيادة لمن يتقدم ) باعتبار ان التنظيم في حالة شتات واسترخاء في وذروة ازمة اقليمية او قطريه وبالتالي سيكون منطقيا منح الثقة للكادر القيادي النشط الذي يتقدم خطوط (المسترخين) .
وينبغي الالتفات الى ان صعود وبروز قيادات ثانوية تمسك بزمام القرار والتفرد به ، هو وجه من اوجه الانقلاب والديكتاتورية والتي تحصل في مرحلة شلل او تشتت القيادة الحقيقية .
ومن المهم الاشارة الى ان ظاهرة الترهل والتوسع الافقي غير الفعال ، تنتشر عادة في الاحزاب التي تنتهج منهج الديمقراطية والنقد الذاتي والنقاش الحر داخل التنظيم ، حيث تكتشف لاحقا ان هذا النهج سيتحول في بعض المراحل الى كارثة او حصان طروادة داخل الحزب .
°° حزب الدعوة الاسلامية في العراق عانى كثيرا من ظاهرة الترهل والنقاشات الهرطقية والسفسطائية الى حد وصف الراحل السيد محمد حسين فضل الله الحزب بانه (( تحول الى حوزة كبيرة )) .
في الفترة مابين 1974 والى 1979 واجه حزب الدعوة انتكاسات كان من اهمها اعدام خمسة من قادة التنظيم واعتقال اخرين ومغادرة القيادات الروحية للحزب الى دول الجوار .
في تلك المرحلة برزت قيادات كانت تعتبر من الصف الثاني وذلك للحفاظ على ماتبقى واعادة تنشيط التنظيم وابقاءه في سياق الحركية على الارض .
اذ برز القيادي ( كاظم الخالصي ) واستطاع اتخاذ قرار البقاء بعد ان رفض نصيحة الشيخ محمد مهدي الاصفي الذي طلب منه مغادرة العراق واغلاق التنظيم ( وفق ما روى لي شخصيا الشهيد الاستاذ الخالصي ) .
دور القيادة الخالصي وبمساعدة اخرين ، كان له الاثر الكبير في استمرار الحزب ووصوله الى مرحلة الصدام بعد ان اخرجه من مرحلة التثقيف وبناء التنظيم المملة والبطيئة وهو ما انعكس ايجابا على دور الحزب في المراحل اللاحقه .
ان ظاهرة صعود القيادات الى راس الهرم والقرار ،هي تجسيد عملي وواقعي لمفهوم القيادة لمن يتقدم . فالحزب عانى ايضا من مرحلة اليأس وخمول التنظيم في مطلع التسعينيات حيث هاجرت اعداد كبيرة من كوادر الحزب الى دول اوروپا فيما قيادة الحزب كانت عاجزة عن مواكبة منعطف كبير مرت به القضية العراقية والمتغيرات في المنطقة بعد حرب الكويت وفشل الانتفاضة الشعبية في العراق .
في تلك الحقبة ، وفيما ظهرت بوادر المقاومة المسلحة الميدانية ضد نظام صدام حسين في شمال وجنوب العراق ، وفي حين اصبح العراق في دائرة المخططات الاستراتيجية للدول الغربية . كان القيادي في الحزب علي الاديب يكتفي بتوجيه الكوادر وحثهم على القراءة والمطالعة . !!
وردا على تلك الازمة ، ظهرت قيادات ميدانية ومن ابرزهم ابو ايمان الخالصي وعبد الكريم العنزي ونوري المالكي حيث اعادت هذه القيادات الوسطية لملمة صفوف الحزب وطرحت شعارات مرحلية ، فتحت نافذة الامل لكوادر الحزب مما وفر الفرصة لتجديد الكوادر الوسطية من الشباب المتحمسين الذين اخذوا دورهم في مرحلة ( السلطة ) مابعد عام 2003.

°° حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق ، عانى من هذه الظاهرة السلبية وهي الترهل والجدالات البيزنطيه اذ كانت منهجية النقد والنقد الذاتي والحياة الديمقراطية داخل حلقات الحزب اكثر رسوخا من بقية الاحزاب اليسارية والاسلامية ولغاية عام 1968 على الاقل .
ومنذ ازمة محاولة ( اغتيال الزعيم ) عام 1959 التي اعتبرها الحزب خطأ جسيما ولغاية تموز عام 1968 ،واجه حزب البعث منعطفات وحالات صراع اجنحه واقطاب ( يمين ويسار ) ادت الى انشقاقات وتساقط قيادات بما فيها اغلب كوادر مرحلة التأسيس.
ازاء هذه الاضطرابات ، برزت كوادر قادمة من الحلقات الدنيا وصعدت الى الواجهة وذلك كرد فعل على تشتت وانقسام القيادة .
وفي تلك المرحلة برز صدام حسين الذي كانت بمستوى عضو عامل ليناطح علي صالح السعدي امين سر القيادة القطرية مهددا باغتياله وبإذن من ميشيل عفلق وفق ما ذكره طالب شبيب في مذكراته .
وفيما كانت قدرة صدام حسين اقل بكثير من مستوى الصراعات في اعلى هرم القيادة ، سعى صدام الى بناء هياكل مؤسساتية شبه مستقلة ،استقطب اليها الكوادر الشبابية والتي كان لها دور كبير في مرحلة الامساك بالسلطة بعد عام 1968.
وقد شخص صدام حسين علة الحزب المتمثلة بحرية النقاش والديمقراطية والنقد الذاتي ، فقرر استبدالها بمبدأ ( نفذ ثم ناقش ) ليغلق الباب والى الابد امام الحياة الحزبية الحركية الى مرحلة ( عسكرة الحزب )وذلك في اعتقاد منه ان الكادر الحزبي في العالم الثالث يسيئ فهم الديمقراطية واللتي يرى انها اصلا لا تنسجم مع شعوبنا .
°° هذه الحالة من الافراط والتفريط في الرؤية لتبعات ومحاذير تطبيق مبدأ النقاش والحوار التنظيمي . واجهتها بعض الاحزاب العقائدية الكردية .
وهنا اقتبس من الحوار الذي دار بين جلال طالباني رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وبين شاه ايران وذلك بعد تاسيس حزب الاتحاد وعقب ابرام اتفاقية الجزائر بين ايران والعراق عام 1975.
يقول جلال طالباني : التقيت الشاه وطلبت منه ان يتعامل مع حزبنا الجديد الاتحاد الوطني على انه الممثل الاول للقضية الكردية . … رد الشاه قائلا : انا لا اتعامل مع احزاب سياسية وتنظيمات فانتم لديكم أمانة عامة ومكتب سياسي حيث القرار يخضع للنقاش والجدال ومن دون نتيجة ..
وعليه ساتعامل مع الملا مصطفى بارزاني فهو شيخ عشيرة وحزبه يمثل العشيرة ولما يتعهد امامي سوف ينفذ حزبه وبدون نقاش .
ويبدو لي ان رؤية شاه ايران قبل حوالي نصف قرن .هي ماثلة اليوم في حالة وواقع الحزبين الرئيسيين في السليمانية واربيل .
اذ يعاني حزب الاتحاد من انشقاقات وصراعات وانقسامات وضعف في السيطرة على مناطق نفوذه في السليمانية وحلبچه ، في حين حزب ( العشيرة ) الديمقراطي الكردستاني يفرض سيطرته المطلقة على مناطق نفوذه في اربيل ودهوك مع تماسك القيادة القبلية وخضوع الجميع لقراراتها .