– “انظر لهذه الفوضى والازدحام….!!”
واشار احد الركاب بيده نحو كومة من الناس تهم الدخول في باب الحافلة دفعة واحدة وهو لا يتسع الا لشخص واحد ، وفعلا لم يصمد الباب امام تلك الهجمة الشرسة وصار الى نصفين تحت هياج السائق وتحذيراته. انتهت المعضلة اخيرا وكأن انشطار الباب قد وضع حدا لها . بدأ السائق يزبد ويرعد ويسب ويشتم الوضع ويشكو حال الدنيا ووضع الامن والحالة المعيشية المزرية ….و….و…..على طول الطريق :
– “يا اخوان هي هاي عيشه ،شوفوا هاي الخرابة يعني سيارته ، تدري هي التي تقوم بمعيشة ثلاث عوائل لأخوتي الشهداء في انفجارات الباب الشرقي وقد تركوا ابنائهم برقبتي..!!”
اخذتني شكوى السائق لأتوه عميقا في صحراء تخيلاتي واغرق في بحار همومي والناس لكونها نابعة من بؤس وكفاح انساني حقيقي متجلي بواقعية الكادح العراقي المجاهد من اجل رمق العيش والذي لا يخضع للمهاترات والصراعات السياسية ، وعرجت بذهني قليلا نحو جدلية الصراع اليومي من اجل البقاء التي يتبناها هذا الكادح المعذب والاسباب التي تؤول الى ذلك وهل هي متأتية من نقص في الثقافة والوعي الانساني في عصرنا الحديث ام من الصراع الطبقي الذي لا يزال يحتل سوح المجتمع العراقي ويأكل من جرفي فراتيه والذي اتخذه البعض من متصيدي الفرص و السلطة احتلالا لواقع البسطاء من الناس والصعود على اكتافهم لعبور اسيجة الاستغلال وجسور الانتفاع وسرقة قوت الفقراء من ابناء العراق…..!؟…ولو افترضنا ان هؤلاء السياسيون قد ادوا واجبهم بضمير حي وبمواطنة حقة لوفروا على الاقل وسائط نقل بسيطة كالتي كانت في العهود السابقة ، الحافلات الحمراء ذات الطابقين التي اختفت من المشهد تماما……!؟
وانا منهمك في جدلية الصراع الانساني تلك صعد الجميع الحافلة ومن ابكر جلس ومن تأخر وقف ، وتحركت وبدا الركاب بالحديث والجدال ومناكدة السائق حول باب الحافلة الصريع بصورة بشعة والمشطور الى نصفين والذي ترك وحيدا مسجيا على ارض الكراج ……..!؟ في ذلك اللغط والجلبة سرق انتباهي كليا صوت سيدة عجوز تصيح بأعلى صوتها:
– “شمالكم خاله ؟ انتم الزلم مو تكولون النسوان اولا ، اشو انا واكفة وانتم كاعدين ..! شنو ماكو غيرة ماكو حمية….لو انه موش من النسوان !؟..انتم شنو متأثرين بالمسلسلات التركية..!؟”
ضحك الجميع بصوت واحد بعدها تبرع احد الركاب بمقعده لها وجلست.
هاجمتني التساؤلات من جديد وبدأت افكر من وقع جملتها الاخيرة الثقيل على مسامعي ، هذه المرة ، بالمغزى الهادف في قول تلك السيدة البسيطة و الرابط المعنوي والاجتماعي والانساني العميق الذي اطلقه لسانها بشكل عفوي حول قضية خطيرة جدا تتعلق بكم المسلسلات التركية الهائل وقلت لنفسي فعلا فان لهذه الانسانة البسيطة حكمة فيما تقول وكلامها مثقل بالمعاني التي تستحق الوقوف والتقصي والجدل ومظاهرة الحقيقة واثر التصادم الحضاري الذي عانى منه الشعب التركي والذي قاده بقسرية نحو ازدواج اجتماعي مقيت في شخصية الانسان التركي حيث ازدوجت شخصيته من جانبين ، الجانب الشرقي والتوق الى ملامسة المجتمع الغربي . المسلم التركي ، مسلم بفكره ومستمسح بممارساته الاجتماعية وظهر ذلك بشكل جلي في تركيبة ثقافية جديدة هجينة (شرق-غربية) اخذت بهم الى منحى بعيد ، ما وراء الشرع الاسلامي والعرف الشرقي بعيدا عن التأثير العربي البدوي الاسلامي الذي لا يزال يحكم مناطقهم الريفية وبان ذلك عليهم بوضوح خصوصا في ممارساتهم الشرعية في عقود الزواج ودفن الموتى وشكل المقابر والمآتم والتي تمارس بأطر مسيحية وهذا لا يعني انني اتناول الدين المسيحي بسوء لا سامح الله(لكم دينكم ولي ديني) اكثر مما اسجل شأنا من الانحراف لدى جهة مسلمة وخروجها عن الاطر الاسلامية نحو اطر ومظاهر غير اسلامية….!؟
قد يتصور البعض ذلك نوعا من التحضر والرقي والانفتاح والتحرر بل العكس هو الصحيح فهذه هي الفوضى الاجتماعية والانحراف الشرعي بعينهما والذي يشير الى تيه مطلق وتخبط اجتماعي للشباب التركي المنزلق في متاهات الانحطاط الاخلاقي……….!؟ بدأ الشباب التركي خصوصا الاناث منهم الخروج عن طاعة الوالدين والتسكع ليلا في الملاهي والمواخير لتناول المخدرات والمسكرات بحجة الحرية الشخصية وارتداء ربع الثياب ونشر الخلاعة والعهر و الانحلال الخلقي، فليس من الثقافة بشيء ان يخلع المرء ملابسه ويترنح في الشارع…!! تلك الصورة السوداوية لا تكفي المناظر الطبيعية التي وهبها الله لهذا البلد على تغطيتها ، فبدأت رائحتها تفوح من وراء الاشجار والجبال والازهار حتى عبرت الحدود وانتشرت بشكل سريع في دول الجوار وتغرس خنجرها المفسد في قلب جيلنا المتراخي قليلا من خلال هجمة اعلامية موجهة ومنفلتة غزت الفضائيات دون رقابة اخلاقية فغرست انطباعاتها السيئة ومست معتقداتنا و اخلاقنا الاسلامية واعرافنا الاجتماعية وبشكل ملموس، بالتأكيد . نحن لا نخاف ان نكون مسلمون على الطريقة التركية لكننا نخشى على ابناءنا من الانبهار و التأثر بتلك الثقافة الهجينة (المسلوغربية) وهذا يرافقه الوضع السياسي المنحرف والديمقراطية المزيفة وميوعة الحرية الغير منظبطة ، شكل غزوا مزدوجا يطوق الانسان العراقي من الداخل والخارج…..!؟ علينا الانتباه له ومواجهته بشكل جدي متزن للحد من تأثيره السيء على اجيالنا الفتية….!؟
صحوت من غفلتي ، ويد السائق على كتفي وهو يقول:
-“استاذ , استاذ…وصلنا هاي نهاية الخط …..!؟”
تلفت حولي فلم اجد احدا غيري فضحكت بقهقهة طويلة وعالية حتى انقلبت على قفاي، ادهشت السائق ضحكتي تلك و قابلها بامتعاض معتقدا باني اضحك منه:
– “شبيك…شبيك عمي ، انت تضحك عليه…..!؟” قلت بسرعة تلافيا للموقف: “لا.. والله..! انا اضحك على نفسي لان بيتي في منتصف الطريق وسهوت قليلا وفاتني ان انزل بالقرب منه..!!؟”
ضحك السائق من الاعماق وقال :
-” ابقى استاذ بالحافلة وسنعود مرة اخرى للكراج لكن هذه المرة انتبه للمنطقة التي ستنزل فيها ..! “
وضحك ضحكة طويلة يبدو انها انسته همومه الشخصية وباب الحافلة المشطور الى نصفين…!!؟
__________
ملاحظة: لبعض القراء غير العراقييين
مواخاة لواقعية ودقة الحدث جاءت بعض الكلمات باللهجة العراقية الشعبية:
شوفوا : شاهدوا
هـــــاي : هذه
الخرابة : القديمة جدا
شمالكم خاله : ماذا حدث لكم يا ابناء اخي
الــزلـم : الرجال
تكولون : تقولون
اشو انه واكفه وانتم كاعدين: انني واقفة وانتم جالسون
شنو ماكو غيرة ماكو حمية: اليس لديكم غيرة وحماية للنساء
النسوان : النساء
موش : ليس
شــنــو: ماذا
شبيك : ماذا حدث لك