يعكف طالب الدكتوراه مثنى العارف على اعداد رسالة لنيل الدكتوراه في جامعة الأنبار عن واحدة من أهم الجرائد في تأريخ الصحافة العراقية الحديثة ؛ جريدة” الجمهورية” وكانت في سنوات تألقها الذهبي، عقد السبعينيات من القرن الماضي؛ توصف بانها تقرأ من صفحتها الأخيرة وتنتهي بصفحة ” أفاق”؛ المنصة المفتوحة لأهم وأعرف الأقلام بالقضايا العلمية والفنية والأدبية، وكان يشرف على تحريرها الكاتب الصحفي القدير محمد كامل عارف، يساعده، الكاتب الروائي، الناقد التشكيلي، سهيل سامي نادر، الاسمان؛ غير القابلين للتصريف؛ بمعنى ان لفظهما لا يستقيم دون ذكرها ثلاثيا!
محمد كامل عارف، اعتزل الكتابة منذ أزيد من عامين، بعد عقود من تدبيج مقالات الهمت أعمدة لامعة في صحف ومجلات عربية ودولية مرموقة؛ بعد الهجرة القسرية من العراق عام 1979. ولايمكن لباحث جاد فِي تأريخ صحيفة الجمهورية، الا ويفرد فصلا وربما فصولا في إطروحته، لصفحة ” آفاق” ليس لتفردها بين الصفحات الثقافية في الصحافة العراقية والعربية، حسب، وإنما أيضا لأنها تؤرخ ، لبداية ونهاية الحقبة الديمقراطية المتنورة في حياة الصحافة الحكومية العراقية، وانتهت بقرار رئاسي مجحف؛ أمر بنقل محمد كامل عارف وزميله سهيل سامي نادر مع الكاتبة النشطة د. سلوى زكو؛ الى وزارة خدمية، تعبيرا من السلطات آنذاك عن حقدها الدفين ضد الأفكار الحرة ، وشمل قرار النقل التعسفي؛ صحفيين ” جمهوريين” آخرين، بينهم كاتب السطور.
نزح محمد كامل عارف مع آلاف المثقفين والمبدعين الآخرين، واستقر به المطاف، بعد رحلة عناء مع الغربة، في لندن.
ولعل البغدادي ” أبو العباس” بإيقاعه المتميز الهاديء المؤطر بالفخامة، كان أكثرنا، إحساسا بالقهر من عوادي أزمنة الغربة. فقد حجبوا عنه آفاق بغداد.
بيد ان المثقف الموسوعي، وكان يوقع مقالاته باسم محمد عارف “مستشار في العلوم والتكنولوجيا” كافح الغربة بسيل عذب،متفرد، جارف من المقالات في كبريات الصحف والمجلات العربية والاجنبية تناول فيها مختلف الموضوعات بما فيها المذاق المتميز اللذيذ للمطبخ العراقي باسلوب يتناغم مع شهية الصحن العراقي و” برابيق” الماء العذب فوق ” التيغة” العراقية ليالي الصيف.
لم يترك مؤلفا عراقيا متميزا ألا وأفرد له صفحة او عمودا؛ ولاحق العالمات والمبدعات وكتّاب المذكرات لمئات العراقيين والعراقيات؛ بزغن في أرض الله الواسعة بدءا من ” انثروبولوجيا الطعام العراقي” لنوال نصر الله، مرورا ” بفوح العنبر” العراقي بمناسبة اليوم العالمي للبذور صعودا نحو البناية الشاهقة، زها حديد التي أصبح احد أبرز الخبراء في تحليل أعمق زوايا مدرستها المعمارية، وكاتب سيرتها.
تقول سلوى زكو، الزميلة في العمل الصحفي وفي الدراسة بالاتحاد السوفيتي، عن محمد كامل عارف في مقدمة كراس صدر عن “دار نوّار للنشر”، يضم مجموعة من مقالاته عن روسيا؛؛؛
” هو ابن تلك الأم التي تتلو الشعر وتروي الحكايات والأمثال …لعله ورث عنها سحر السرد أو تعلمه منها أضيفت له ثقافة شديدة التنوع فأصبح لدينا واحد من أهم كتاب المقال الصحفي وأكثرهم تنوعا في موضوعاته”.
كانت مدرسة الجمهورية الصحفية، تميزت بسياسة براغماتية تعامل بها رئيس تحرير الجريدة انذاك، سعد قاسم حمودي، سليل أسرة عريقة احترفت الصحافة، مع العاملين بأريحية نادرة قياسا بالقيادات البعثية، ما أتاح أجواء الحرية وأطلق كتاب الصحيفة العنان لابداعاتهم دون تدخل من مقص الرقيب،الذي كانه سعد قاسم حمودي نفسه، لكنه مقص من يفصل ثوبا أنيقًا يكحل كل صباح عيون آلاف القراء داخل وخارج العراق؛ اذ كانت الجاليات العراقية والبعثات الدبلوماسية تتلقف “الجمهورية” كالخبز الحار؛ حين تصل على متن الطائر الاخضر للخطوط الجوية العراقية الى مختلف بلدان العالم، ومن خلال آفاقها وصفحاتها، وبشكل خاص منوعاتها في ” الصفحة الأخيرة ” ينظر أبناء العراق ” بعيون” الجمهورية الى حياة مدنهم الزاحفة نحو النمو العمراني والاجتماعي والثقافي عبر ” خطة انفجارية” تشظت نهاية السبعينيات بفعل عودة القمع ؛ والنكوص نحو سياسة الهراوة وتكميم الأفواه وكسر الأقلام الجريئة وسطوة الانتهازيين والوشاة والمتسلقين على الحياة في البلاد وصولا الى مغامرات الحروب وضياع المنجزات.
صمد محمد كامل عارف بوجه العسف مع آلاف المثقفين العراقيين فيما غيبت السجون والمقابر والاعدامات أعدادا لا يعرف حجمها الى اليوم، لكنها كانت فادحة قطعا، ووجد الكاتب المؤسس لاهم الصفحات الثقافية مسربا في ليل العراق الداكن، ليلف أوروبا والعالم العربي بمقالات ميزتها التنوع والأسلوب الساحر المطرز بالمعلومات المدهشة، والنكات البغدادية، والتلميحات الذكية.
صحيح ان المقال يقرأ من عنوانه، لكن عناوين محمد كامل عارف؛ غالبا ما تتستر على تفاصيل في المتون، مثل أعمال تشيخوف، تفاجئنا وتثير فينا الرغبة في المزيد، حتى أن القارئ يتمنى ان لاينتهي من القراءة كانه يتابع مشاهد مشوقة.
يختار محمد كامل عارف مواضيع مقالاته بعناية، ويحضر لها، منقبا عن معلومات لم يطلع عليها عموم القراء وفي احيان اخرى حتى أصحاب الاختصاص وبالتالي فقد أستحق عن جدارة لقب ” مستشار في العلوم والتكنولوجيا” ولو سمحت المساحة لأضفنا وفي علم الاجتماع والنفس والفنون الجميلة والآداب ووو..
يتوقف قلم محمد كامل عارف المقيم منذ العام 1981 في عاصمة الضباب عن الكتابة؛ لأسباب صحية، وكان على مدى أربعة عقود من الغربة أعد مئات الدراسات وكتب الاف المقالات ويقدر معدل كتاباته بنحو نصف مليون كلمة سنويا خلال عمله محررا علميا في
” الحياة ” اللندنية، واستمر يتابع التطورات العالمية في العلوم والتكنولوجيا الى ان توقف عن الكتابة قبل عامين.
نال محمد كامل عارف شهادة ماجستير آداب بالإعلام من جامعة بطرسبورغ بروسيا وماجستير علوم باقتصاديات العلوم والتكنولوجيا من أكاديمية العلوم الروسية بموسكو ولم يبتعد الكاتب اللامع عن التغطيات الميدانية لأهم الأحداث العلمية العالمية؛ مثل الإطلاقات الفضائية من مطار كنيدي الفضائي” كيب كانيفيرال” في فلوريدا بالولايات المتحدة والقاعدة الفضائية في ” غويانا” الفرنسية باميركا الجنوبية، والمركز الفضائي الأوربي فِي تولوز بفرنسا وغيرها.
أهتم محمد كامل عارف بالنهضة النسائية العربية واعد دراسة مرموقة للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عن
” نهوض نساء العلم في البلدان العربية”.
ساهم بانشاء مطبوعات ودور نشر ومؤسسات علمية وجمع بين التأهيل الاكاديمي والكتابة الصحفية في توليف لا يقدر عليه إلا موسوعي مثل الكامل العارف محمد .
يبقى وفيا للقيم الوطنية، معارضا لاحتلال العراق، جارحا بقلم لاذع خدنته.
حين توفي عرّاب الاحتلال أحمد الجلبي، عنون محمد عارف مقاله بالمناسبة
” مات اللمبچي …”!
عمرا مديدا معلمنا وصديقنا ورفيق المهنة والغربة” أبو العباس” قلمك خالد لا ينكسر ولا يبلى.
ولطالب الدكتوراه مثنى العارف الأمنيات الصادقة بالنجاح في توثيق وتحليل أحد أهم المطبوعات في تاريخ الصحافة العراقية فمن الواضح إنه يعكف على دراسة مضامينها بدأب وحمية.