نسب أزهر في التاريخ فحول الصحاري الى أزاهير، وحَسَبٌ تجاوز في علوّه المريخ فسطعت منه المجامير، وعزمٌ فلّ به حراب الدهر وحلم ملأ به إهاب الفخر، وبحر بعيد قعره، زخّار موجه، يفيض عطاءً دون توقّف، حتى شهد بفضله القاصي والداني مسحت شمس هُداه دياجير الجهل وأضاءت تعاليمه كل حنايا الروح والعقل.. منهله عذب لرواده، ومنتج لقصاده، يزدحم أهل الفضل في رحابه، يتشرفون بتقبيل أعتابه.. والكل يرجعون بطاناً مرويّين يشهدون بقوة حجته وشدة عارضته، يذعنون له تسليماً واطمئناناً، ويعترفون بمرجعيته تقديراً واحتراماً.. أنه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام بحر طامٍ عمّ جوده وبدرٍ سام أشرق وجوده، شمس المعارف الكبرى واستاذ أئمة الأمة وقائد جمعها، الذي لم يُرَ إلا صائماً أو قائماً أو قارئاً للقرآن الكريم.
عاش الإمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين الذي نعيش هذه الأيام ذكر استشهاده الأليم على يد أبو جعفر المنصور الدوانيقي حقبة زمنية رخوة وعصيبة بلغت 34 سنة، كان الصراع فيه على أشده بين الحكام الأمويين والعباسيين وفي خضم إنتفاضات العلويين والزيديين والقرامطة والزنج وسواهم من طالبي السلطة.. ما أتاح للإمام أبي عبد الله عليه آلاف التحية والسلام ممارسة نشاطه التبليغي الاسلامي التصحيحي والعلمي الحديث في ظروف سياسية ملائمة نوعاً ما كانت بعيدة عن أجواء الضغط والإرهاب والتنكيل الذي لطالما طال أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام وشيعتهم، فأوجد الأمر مناخاً علمياً خصباً بعيداً عن دواعي الخوف والتقية من الحكام الطغاة الذين لم يرق لهم هذا في نهاية المطاف.
استغل الامام أبا عبد الله الصادق تلك الظروف السياسية الحاكمة لينبري نحو تربية العلماء وجماهير الامة على مقاطعة الحکام الظلمة ومقاومتهم عن طريق نشر الوعي العقائدي والسياسي والتفقه في احکام الشريعة ومفاهيمها ويثبت لهم المعالم والأسس الشرعية والواضحة کقوله عليه السلام: “العامل بالظلم والمعين له والراضي به شرکاء ثلاثتهم”.. كما كانت المرحلة آنذاك عصيبة من حيث الإنحرافات التي زرعها أبناء الطلقاء أولاد ذوات الرايات الحمر من بني سفيان، تلك التي تمسك بها بنو العباس، فكان الوضع محرجاً جداً حيث الإنحراف العقائدي والجهل القبلي والذي كان ينمو ويتسع بين صفوف الأمة والإنشقاق على أوجه بشكل كبير، حيث تطلب هذا الواقع المحزن ثورة إصلاحية من نوع آخر لمواجهة المستجدات الإنحرافية التي كادت تطيح بجوهر الإسلام المحمدي الأصيل فيما لو انشغل الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عنها بالثورة المسلحة ضد السلطة الظالمة الفاسدة كما فعل جده الامام الحسين عليه السلام.
الامام الصادق ركز كل جهده وحركته على تمتين وتقوية الأصول والجذور العقائدية والفكرية والعلمية مع أخذ دوره الرسالي كمعصوم من أهل بيت الرسالة والوحي والنبوة والإمامة (عليهم السلام).. في ظل ظروف قاسية وظالمة اعلامياً وسياسياً لإبعاد الأمة من سيرتها الحقيقة التي كانت تتطلب نهوض رجل، عالم، شجاع، يرد عادية الضلال عن حصون الرسالة الإسلامية الحنيفة السامية في زمن تفشت فيه التيارات العقائدية والفلسفية الإلحادية والمقولات الضآلة، کالزنادقة والغلاة والتأويلات الاعتقادية التي لا تنسجم وعقيدة التوحيد.. فقد جادل أهل الباطل وباحث الفلاسفة والدهريين وأهل الكلام والجدليين والغلاة فأبطل مقالاتهم الفاسدة وسفسطتهم الفارغة وأوضح اعوجاج مذاهبهم والتواء سبلهم، وقد سلام الله وصلواته عليه على تلميذه المفضل بن عمرو احتجاجاته على الزنادقة وأرباب المدارس الفلسفية والكلامية وهو ما يعرف بكتاب (توحيد المفضل).
انتهج الإمام جعفر بن محمد الصادق نشاطه نحو ترويج العلوم والمعارف الاسلامية والحديثة بهدف الدفاع عن حقيقة التوحيد ضد الملاحدة والزنادقة، وجاهد ضد الغلاة الذين حاولوا أن يتمترسون تحت يافطة أهل البيت عليه السلام ويتلبسوا بصفات ربوبية والوهية، فتبرأ من كل الخارجين على عقيدة التوحيد کما برا آباؤه عليهم السلام ذلك من قبل.. ثم نشر الإسلام وعلومه واكتشف نظريات العلوم الحديثة بمختلف صنوفها تلك التي تطور الغرب من ورائها وبقيّ المسلمون يقاتل بعضهم البعض بجهالة قبلية، فوسع عليه السلام دائرة الفقه والتشريع وثبيت معالمها وحفظ إصالتها إذ لم يرو عن أحد الحديث ولم يؤخذ عن إمام من الفقه والاحکام ما أخذ عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام .
ابتعاد الإمام الصادق عن الاحتكاك بالسلطة العباسية الجائرة لم تشفع له وبات محط أنظار المنصور الدوانيقي الخليفة الجائر القاتل وجيش جواسيسه وسط أجواء مشحونة بالعداء والإرهاب والملاحقة، حيث روى أبن طاووس في كتابه (نهج الدعوات) من أن “المنصور” استدعى الإمام جعفر بن محمد سبع مرات ليفتك به لكن الله سبحانه تعالى نجاه فيها من كيد.. رغم كل ذلك استطاع الامام بحکمته وقوة عزيمته ان يؤدي رسالته وان يفجر ينابيع العلم والمعرفة ويخرج جيلا من العلماء والفقهاء والمتکلمين من مدرسته السيارة الشاملة المستوعبة لكل ما تحتاجه الأمة في حاضرها ومستقبلها معبّراً عن طموحها وتطلعاتها، مفجراً ينابيع العلم والحكمة في الأرض وفتح للناس أبواباً من العلوم لم يعهدوها من قبل وقد “ملأ الدنيا بعلمه” كما يقول “الجاحظ”.
إشتهر من طلابه علماء أفذاذ في مختلف العلوم والفنون منهم المفضل بن عمرو وهشام بن الحكم ومحمد بن مسلم وجابر بن حيان وعبد الله بن سنان، كما نهل من علومه مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة ونقل عنه عدد كبير من العلماء أمثال أبي يزيد ومالك والشافعي والبسطامي وإبراهيم بن أدهم ومالك بن دينار وأبي عيينة ومحمد بن الحسن الشيباني، مما حدا بمالك بن أنس الى القول: “ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق (ع) فضلاً وعلماً وورعاً وعبادة”.. قبل أن يفتك به أعتى طواغيت العصر العباسي “المنصور الدوانيقي” في 25 شوال سنة 148 للهجرة (765م) بدس السم الى طعامه عبر واليه في المدينة المنورة، ثم ليدفن جسده الظاهر في “بقيع الغرقد” الى جوار والده الامام محمد الباقر وجده الامام علي السجاد وعمه الإمام الحسن المجتبى عليهم السلام أجمعين.
قصده الطالبون من مختلف البلاد والأقاليم من مسلمين وغير مسلمين حتى اجـتمـع في مـحضره أربعة آلاف طالب علم، فألقى عليهم الامام الصادق عليه السلام من غوامض الحكم وحقائق العلوم الدينية والدنيوية، وأظهر ما أخفى آباؤه وأجداده خوفا من فراعنة بني أمية الطلقاء، فشرع بترويج حقائق الشريعة المحمدية الاصيلة وإظهار أسرارها، وبيان رموزها ونشر أحكامها، واكتشاف وتنظير العلوم الحديثة مثل الطب والفيزياء والكيمياء والفضاء و.. حتى أشرقت شمس الهداية على البلاد، وسطع نور العلم على العباد، وكل أخذ على قدر ذوقه واستعداده واشتياقه من الحكمة والفقه والأخلاق وسائر العلوم مثل الجغرافيا وحتى الكيمياء ومن الجاذبية ودوران الأرض حتى علوم الخلايا والطب و…
لا يسعنا التطرق بكل ما قام به الإمام الصادق من جهاد ومقارعة للسلطة الظالمة والجائرة الأموية منها والعباسي، وكذا جهوده العلمية التي أشرقت شمس الأمل والعلم والثقافة والمجد والاختراعات الحديثة والمتطورة التي ينهل منها كبار علماء البشرية حتى يومنا هذا بشتى صنوف العلوم.. لكننا نشير للقارئ الكريم الرجوع الى كتاب “الامام الصادق كما عرفه علماء الغرب” وهو عبارة عن مجموعة بحوث طرحت في عدة ملتقيات دولية علمية نظمتها جامعة “ستراسبورغ” الفرنسية عام 1968، شارك فيها مئات العلماء من شرق الأرض وغربها استعرضت حياة الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) العلمية طرح خلالها خمسة وعشرون من أشهر العلماء والمستشرقين في جامعات فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وسويسرا وبلجيكا وأمريكا ولبنان وايران؛ لمعرفة دور الامام الصادق في اكتشاف وتنظير العلوم الحديثة.
استنتجت دراسات المفكرين المشاركين والتي ترجمة لعدة لغات لأهمية نتائجها الكبيرة جداً التي خرجت بها والتي لا يسع للمقال ذكرها، نذكر بعضاً منها حتى لا يظن ظان أن أهل البيت عليهم السلام أصبحوا أئمة في الفقه والصلاة والعبادة وحسب بل هم أصل العلم ومعدنه، ومن تلك النتائج:
أولاً: الإمام الصادق، أول من قال بدوران الأرض حول الشمس.
ثانياً: الإمام الصادق، أول من أشار إلى الأوكسجين.
ثالثاً: الإمام الصادق، أول من أشار إلى الجاذبية.
رابعاً: الإمام الصادق، أول من أشار إلى أن الأعراض لها جزئيات (اللون، الطعم، الرائحة ).
خامساً: الإمام الصادق، أول من فنّد نظرية العناصر الأربعة التي يذهب إليها أرسطو وصححها علمياً.
ومن نظريات الإمام أبا عبد الله في الطب التي توصل إليها قبل الآخرين هي “انتقال العدوى عن طريق الضوء، وليس عن طريق الهواء الملوث فقط”.. كما وله نظريات في الفيزياء والكيمياء والأحياء، والطب، والفلك والهيئة والبيئة و… غيرها.