مثلما تهتز الارض بفعل عوامل الطبيعة ، تهتز ايضا عروش النظم السياسية كلما تخطت هذه النظم حدود المعايير والثوابت الوطنية لمصلحة شعوبها ، نتيجة اعتمادها على مبدأ الانكماش على الذات والانشغال بالأمور الحزبية التي تأخذ قسطا كبيرا من أوقات قادة تلك النظم ، وهي ظاهرة سيئة تنصب في خانة المصالح الحزبية والطائفية، والذي ينبغي على القائد السياسي تجاوزها باعتبار ان المسؤولية الوطنية تلزمه ان يكون بمستوى أدائه للقسم الدستوري ، وان يكون أمينا وراعيا حقيقيا لمصلحة مواطنيه دون استثناء ..
لقد عودنا انفسنا على قول الحق في وجه الحاكم ولا نتردد في كشف الخلل وتشخيصها على اسس وطنية ثابتة التي نؤمن بها ، مستندين على امرين مهمين ، هو ان نوقظ الحاكم من سباته ان كان هو آخر من يعلم بما يدور من حوله ، ومن ثم نحذره من دسائس المقربين منه الذين يلتهمون من المنافع كل شيء ثم يدفعونه باتجاه الخطأ ، والانحراف عن مسار المصلحة الوطنية التي ينبغي ان تكون من اوليات اهتمامه ولا يتأخر في التفكير بها في كل وقت ….
الاخطاء الكبيرة هي التي تجلب الكوارث ، وهي التي تعبد الطريق الى الهاوية المحتومة ، اذا لم يحسن المالكي دراسة الاحداث بشكل جيد ، ولم يضع في الحسبان ان القوى الاقليمية والدولية لا تعرض خدماتها الا مقابل ضمان مصالحها في المنطقة ، بمعنى ان الخضوع لهذه القوى وبهذا الشكل المخيف سيضع العراق برمته في دوامة الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية التي لا يخرج منها الا وهو خاسر لكل شيء…
ما يربطنا بالسيد نوري المالكي هو انتمائنا الوطني ، لم نعرفه سابقا ، ولم نتعرف عليه عن قرب ، واعتقد من الصعوبة للمواطن البسيط ان يصله ويلتقيه من خلال قراءتنا لوضعه السياسي والوظيفي الذي يتطلب الحيطة والحذر ، ليمارس لعبة الكر والفر مع مناوئي السنة لسياسته ، ولا اقصد بها سياسي السنة وبعض من عشائرها من اصحاب النفوذ والمنتفعين ، بل اقصد بها شريحة المنكوبين والمتضررين من افعال عناصر الارهاب بكل تشكيلاتها ومن سير العمليات العسكرية الجارية في المنطقة الغربية الذين ضاقت بهم السبل جراء الانتهاكات المستمرة لقواعد الحرب المفروضة عليهم ، والذي لم يتمكن المالكي من توجيهها لصالح سمعته السياسية ليكتسب بها تعاطف السنة بل وحتى الشيعة من مقربيه ، ولهذا لا يكاد المرء ان يكتب طلبا لمواجهته ، الا وانفجر على غفلة بالقرب منه عبوة ناسفة أو سيارة مفخخة التي تحولت بمرور الوقت الى اسلوب الموت الدائم للعراقيين ، ويتوقعها المواطن ولا يخشاها لأنه تعود على معايشتها ، والقبول بها اسوة بكل منافذ الشر التي فتحت أبوابها عليه بعد عملية تجرير العراق …
لست متشائما على مستقبل العراق حتى في ظل فوضاه السياسي الذي تسميها العامة بالتجربة الديمقراطية، ولكن حزين على مسارها التي انقسمت على اتجاهات عدة ، اتجاه ديني مذهبي سياسي يتناقض خطاباته مع مفهوم الديمقراطية ، ولا يؤمن بها اطلاقا ، ولا يحترم التعددية، ولكن يتستر بغطائها أملا بالبقاء الأطول في الساحة السياسية ، وهو الطرف الحاكم و القوي الذي يمتلك المراوغة والتأثير بكم هائل من الاجراءات والممارسات التي لا تمت بصلة من بعيد او قريب بالديمقراطية ، ويفرض نفسه مستغلا حجم المساندات الدولية والاقليمية له في ظل تنامي قوة الارهاب المنظم والمدعوم الذي يخافها القوى الكبرى باعتبارها تهديدا مباشرا لمصالحها في المنطقة ، وهذا ما نجده في شخصية السيد نوري المالكي الذي يتمتع بالقدرة على رسم الاحداث بما يتناسب مع طموحاته المستقبلية ، دون ان يضع في الحسبان انه لا يستطيع ان يقنع الشارع العراقي بانه غير مسؤول عن ما آلت اليها الاوضاع في البلاد ، وما تمخض عن سياسته من فرقة وتمزق في التكوين الاجتماعي للعراق ، أو انه السبب المباشر في ان ينعم المقربون منه الذين جاءت بهم العواصف بالنعيم والجاه والثروة ، فيما يترنح الاكثرية من ابناء الشعب تحت خط البؤس والشقاء ، والمصيبة انه لا يعلم بانه في الحالتين هو الخاسر الوحيد سواء” قدم تنازلات بشأن اسلوبه في معالجة أزماته الخطيرة ، و ما يدور في الفلوجة والرمادي وديالى ونينوى وبعض من مناطق صلاح الدين ، أو بالتراجع عن قراراته السريعة المخلة بالنظام الدستوري بوقف منح الاقليم ما يستحقه من الميزانية المخصصة له وفق الدستور التي تسببت في اشمئزاز الشارع الكوردي من كيفية تعامله مع المستحقات الكوردية ، رغم كونها ليست بجديدة في سياسته الهادفة لتعميق الخلافات مع الاقليم حين اراد في حينها ان يلعب بورقة العسكر ، وشكل من اجلها قيادة عسكرية باسم قوات دجلة ، ونسب عليها شلة من الضباط البعثيين الذين زين صدام صدروهم بالأوسمة والانواط عرفانا بإبادتهم للكورد والشيعة خلال حكمه الدموي الذي استمر لأكثر من ثلاثة عقود….
لذلك اعتقد ان الوقت ليس في صالح حكومة نوري المالكي ، بعد ان ترسخت تماما فكرة التباعد الطائفي والمذهبي في العراق ، واذا اراد ان يحافظ على اللحمة الوطنية فهو مطالب ان يغير من خطابه السياسي والمذهبي وبالاستماع الى الأخر، وليس الى المقربين منه ، بمعنى ان يرفع من مستواه الفكري والسياسي بمستوى رفعه لسلطته العسكرية التي يسرح ويمرح بها في كل وقت ، ويدفع بها البلاد الى الهاوية المحتومة ، والتي تقف هذه الايام على مفترق طريق شائك بعد ان وصف المالكي مجلس النواب بالمؤسسة المشلولة وطعن بشرعيته القانونية ، والذي يعد بداية الخطوة للفوضى الحقيقية ، وخرقا للمبادئ الديمقراطية التي لا تتشوه الا في ظل النظم الاستبدادية التي تأبى ان تستعين بالمنطق للخروج من المآزق ، قبل ان يحل الظلام الدامس الذي بدأت خيوطه تظهر مع كل يوم جديد…