سبق لنا وجادلنا ، ومن على هذه الصفحة ضمن حلقتين منفصلتين ، بأن ضرورات المصلحة الوطنية واشتراطات العلاقة المؤسسية ، تقتضي أن يصار إلى ترجيح خيار بناء الدولة وتعزيز هيبتها وتكامل سيادتها ، كشرط أولي لإنجاح أي مشروع يدخل ضمن أجندته عوامل الاستقرار السياسي للمجتمع العراقي ويروم ، فضلا”عن ذلك ، تحقيق أهداف تحوله الديمقراطي المنشود ، قبل أن يتم التفكير بصياغة مواد القانون الأساسي / الدستور والشروع بسن قواعده واستنباط أحكامه . وذلك ليس من منطلق جواز وجود دولة من غير أن يكون لها دستور(= بريطانيا) ، أو استحالة الاعتماد على دستور يفتقر إلى إسناد قوة الدولة ودعم مؤسساتها فحسب ، وإنما دفعا”للمشاكل وتجنبا”للأزمات التي قد تنشأ – والحقيقة أنها لابد أن تنشأ – على خلفية ضعف الدولة وهزال مؤسساتها من جهة ، وطغيان السلطة السياسية وتعسف رموزها من جهة أخرى . وعلى ذلك فقد اعتبر الباحث اللبناني (ناصيف نصار) في كتابه القيم : منطق السلطة ؛ مدخل إلى فلسفة الأمر (( إن من أكبر الأخطاء في النظر إلى السلطة السياسية الخلط بين سلطة الحاكم وسلطة الدولة بكيفية تؤدي إلى جعل سلطة الحاكم تتماهى مع سلطة الدولة ، أو إلى جعل سلطة الدولة ترتد إلى سلطة الحاكم ففي الحقيقة ، تتقدم سلطة الدولة على سلطة الحاكم في الحق وفي الوجود . فهي الأصل أو الجوهر ، وسلطة الحاكم الفرع أو المظهر . غير إن الحاكم لا يميل إلى قبول هذه الحقيقة تلقائيا”، بل يميل ، على العكس ، إلى إبعادها ، أو إنكارها ، أو التحايل عليها ، حتى لا تكون فوق سلطته سلطة يرجع الشعب إليها )) . وها نحن أولاء نواجه بإشكالية ، بلّه إشكاليات ، متوقع لها الاستمرار بتوليد المشاكل وإفراز الأزمات ، كلما دعت الحاجة إلى وضع الصيغ النظرية للدستور موضع التطبيق العملي فوق أرض الواقع ، وإقحام مصالح القوى المعبر عن إرادتها ضمن بنوده ومنطوق فقراته ، وما أزمات محافظة (الأنبار) و (الموصل) و (ديالى) الراهنة ، وقبلها ومعها أزمات محافظة (كركوك) – ناهيك عن أزمات حكومات الأقاليم مع الحكومة المركزية – ليست الأخيرة ، إلاّ برهان ملموس على ذلك . والحقيقة إن أسّ الإشكالية يكمن في الخلل الناجم عن إسقاط مثالب وعيوب دستور كتب في ظل غياب كامل لسيادة الدولة – ناهيك عن اضمحلال مركزيتها – من جانب ، وحضور شائه وإرادة متضخمة لسلطة تتنازعها كتل سياسية متطيفة وتتقاذفها تيارات انفصالية متعصبة من جانب آخر . بحيث إن أي مشروع سياسي أو مقترح تشريعي يتعلق بشأن من شؤون الدولة وصلاحيات سلطانها ، لابد أن يثير زوبعة عاصفة من الجدالات البيزنطية ، التي لا تخلو عادة من تبادل الاتهامات المقرونة بالتخوين بين أطراف السلطة السياسية ، على خلفية تضارب المصالح وتقاطع الارادات ، للحد الذي يفضي ، في الغالب ، إلى تعطيل المشروع المنوي إنجازه أو إلغاء المقترح المراد تبنيه. والمفارقة اللافتة إن كل فريق من فرقاء تلك السلطة ، لا يعوزه السند الدستوري في تسويغ مواقفه وتبرير تصرفاته ، طالما إن هلامية المعاني ومطاطية المضامين هي الصفة الغالبة على لغة الدستور والطابع المميز لبنوده ، وهو الأمر الذي أشار إليه العديد من الباحثين الذين تناولوا مواد هذه الوثيقة بالنقد والتحليل . فقد وجد الباحث العراقي (فالح عبد الجبار) إن الدستور العراقي ((ينطوي على مواد غامضة ، متناقضة تتعلق بنواظم الحريات السياسية ، ودور الدين وحقوق المرأة ، ووضع الأقليات ، واستقلال المجتمع المدني . كما تضمن نقاطا”خلافية بصدد الفيدرالية وتوزيع الموارد الطبيعية ، أو ثغرات في وجود المؤسسات والمفوضيات ؛ مثل مجلس الاتحاد ، ومفوضية حقوق الإنسان ، بين أمور أخرى . زد على هذا إن الدستور يقوم على فراغات تشريعية تزيد على الستين قانونا”تنتظر من يسنّها ، وعلى فراغات مؤسساتية قضائية وقانونية واقتصادية ، تنتظر من ينشئها . وبهذا المعنى يرتكز الدستور إلى فراغات قانونية وفراغات مؤسساتية)) . ولأن إرادة السلطة السياسية ، من حيث المبدأ والواقع ، لا تخرج عن كونها تجسيدا”عمليا”لإرادة الماسكين بمقاليدها والمنخرطين بألاعيبها ، إن على مستوى الفعل / القوة ، أو على مستوى التصور / الوعي . فان طبيعة التوجهات التي تتبناها والغايات التي تنشدها والأساليب التي تنتهجها ، ستلعب دورا”مصيريا”ليس فقط بالنسبة لوجود الدولة ككيان مؤسسي وإطار سيادي فحسب ، وإنما بالنسبة لمآل المجتمع وحصيلة خياراته المستقبلية أيضا”. وبقدر ما يكون شاغل السلطة تعزيز أواصر النسيج الاجتماعي وترصين مشاعر التوحد الوطني ، بقدر ما تكون الدولة قوية الشكيمة مهابة الجانب ، وبقدر ما ينعم المجتمع بالأمن والاستقرار ، والعكس بالعكس صحيح أيضا”. إذ كلما تعاملت رموز السلطة السياسية مع كيان الدولة وحقوقها السيادية من منظور مصالحها الحزبية والفئوية أو موشور ادعاءاتها العنصرية والطائفية ، فان كوارث الصراع على المغانم والمكاسب سوف لن تنعكس آثاره سلبيا”فقط على أطراف السلطة ذاتها ، بما يعزّز المخاوف ويثير الشكوك ويضخّم الحساسيات فحسب ، وإنما ستبقى الدولة – إن كان لها أن تبقى – تعاني الكساح في الإرادة والعجز في السيادة ، والتفريط ، بالتالي ، بهيبة الاستقلال السياسي وقدرة الحماية الوطنية . ومما يزيد الطين بلّة إن وطأة الماضي السياسي ومرارة الأوضاع الاجتماعية ، التي طالما تعكزت عليها الأحزاب والطوائف في الإعلان عن فداحة مظلوميتها في التعبير عن خصوصيتها الدينية والقومية ، وقساوة حرمانها من المشاركة في الإفصاح عن اختلاف تجاربها الثقافية والحضارية ، لم تشفع لأن تكون الخندق الذي يوحد شعث مواقفها والدافع الذي يستنفر حمية وطنيتها . بل تحولت إلى مضمار للمزايدة السياسية الرخيصة بين من يفاخر بان نصيبه من الحيف الذي وقع على الشعب العراقي كان أشد وطأة وأكثر إجحافا”، مما يسوغ له المطالبة بالمزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية ، حتى ولو كان على حساب أقرانه ممن يشكو الحيف ذاته . وهو ما يستتبع أن تغدو الدولة مضمار للاستئثار بالقوة وتهميش الآخر ، بدلا”من أن تصبح عاملا لحماية المجتمع والمحافظة على وحدة مكوناته ، على خلفية الاحتقانات الاثنية والخلافات الطائفية والنعرات القبلية والتباينات الدينية . وهكذا فقد فطن الباحث في مؤسسة كارنيجي لدراسات السلام العالمي (ناثان براون) إلى طبيعة المخاطر التي يتوقع لها أن تتمخض في المستقبل حين وجد إن ((المشكلة في الحالة العراقية أن الماضي والمستقبل يسيران في اتجاهين متعاكسين . فماضي العراق يتميز بحكومة شديدة المركزية ، أما مستقبله فمهدد بالتفكك. وكان العراق في عهد البعث خاضعا”لحكم الفرد الواحد ، أما مستقبله فمهدد بخطر استبداد الأغلبية . في الماضي كان العراق خاضعا”لاستبداد الايديولوجيا الواحدية ، أما الآن فانه ينتقل إلى الانقسام على أسس اثنية وطائفية ودينية)) .
[email protected]