عاشت الكثير من دول العالم مراحل مشابهة لما يمر به العراق اليوم حيث تسلطت في احدى فترات حياة تلك الدول احزاب ايديولوجية بأفكار معينة وحكمت لمدة من الزمن وبعد فترة معينة طالت او قصرت ادركت الشعوب ان هذه الاحزاب وهذا الحكم لا يلبي رغباتها فطالبت بوضع الرجال المناسبين في الاماكن المناسبة ودوماً كانت تتجه بوصلة الشعوب الى التكنوقراط اي سلطة المختصين علمياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً ذوي الخلفية العلمية والتخصص الدقيق والاطلاع العميق ومن هنا نجحت تلك الدول في تجاوز نكباتها وازماتها واختناقاتها الزمنية وخرجوا من عنق الزجاجة وبدأوا المسير بخطى ثابتة نحو التقدم والتطور وبنوا وعمروا وسنوا القوانين وطبقوا المقاييس ووصلوا الى مستوى نحسدهم عليه ونتمنى ان نصل اليه.
الحالة العراقية
اما في العراق فلا حاجة الى اعادة سرد الحقائق التاريخية له في عصره الحديث والمعاصر ولكن يكفي ان نقول انه الان في عنق الزجاجة بعد عصور وعهود من التخلف والضياع والانحطاط المتراكم رغم وجود بعض وضمات الضوء والامل بين فترة واخرى الا ان الجو العام لواقعنا التاريخي اسود مظلم مهما حاول البعض تبييض صورة زمن ما او فترة ما والان وصلنا الى القعر في كل شيء من وضع سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وبتنا بحاجة الى تغيير وجهة نظرنا كشعب والتطلع الى التغيير نحو الافضل وكغيرنا يجب ان نختار التخصص العلمي ليحكم ويقود فهو الوحيد الذي يمكن ان يخلصنا من الاجتهادات الشخصية والآراء السطحية والتكتلات المبنية على اساس المصالح الفئوية الضيقة وهذا ما اخذ يطفوا على السطح بعد ثلاث دورات انتخابية فبدأ المرشحون يبرزون عضلاتهم الاكاديمية في حملاتهم الانتخابية بدل التشدق بتراثهم الجهادي او الفئوي او الطبقي او الحزبي وهذه معضلة اخرى.
التكنوقراط العراقي الجديد
على خلاف جميع دول العالم وكما اشار الكثير من الكتاب قبلي لم تكن بوصلة الشهادات لدينا نحو العلم والعمل والنفع العام بل نحو التباهي والتكبر والاستعلاء واستخدام الشهادات كوسائل تسلط على الرقاب وقد ادرك سياسيونا مبكراً ان الشعب سيطلب الحكم التكنوقراطي يوماً ما ولذا سارعوا الى انشاء الجامعات الاهلية وتسييب المنهج العلمي في الجامعات الحكومية وسارعوا الى (شراء) الشهادات العليا منها والدنيا وسطروا في سيرهم الذاتية اربع وخمس شهادات في عدة تخصصات متباينة لا علاقة لأحدها بالأخر ومن هنا فقد اصبحوا يلائمون كل زمان ومكان وحتى لو اراد الشعب ان يغير بوصلته ووجهته نحو حكم الكفاءات العلمية فسنجد ان جماعتنا انفسهم من المجاهدين البارحة قد اصبحوا دكاترة وبروفسوريه اليوم! وكما حكموا باسم جهادهم واحزابهم وخلفياتهم المذهبية البارحة سيحكمون غداً باسم شهاداتهم المزيفة وكفاءاتهم الوهمية وفي الوقت الذي حول فيه العلماء دولهم الى جنان على الارض سيحول علمائنا الوهميون المزيفون العراق الى صحراء قاحلة لا ماء يشرب ولا زرع ينبت ولا نفط يصدر ولا بناء يشيد ولا صناعة تطور وسنلعن يوم التكنوقراط بعد حين كما لعننا يوم الطائفية والعنصرية والمنطقية والفئوية اليوم.
معضلتنا المقبلة
طبعاً لا توجد مشكلة بلا حل ومشكلتنا القادمة هي الخلط بين اصحاب الشهادات الحقيقية والشهادات الوهمية المشترات بنقود ونفوذ وتهديد ولذا يجب ان نعمل عقولنا في تشخيص الصالح من الطالح وفي هذا المجال يبرز القول الشهير (اعمل ودع عملك يتكلم) في التحليل والفصل للحقيقي من المزيف ولا اخفيكم القول انها ستكون مهمة صعبة حيث ان اصحابنا المتنفذين قد اشتروا كل شيء ولم يتركوا للعلماء الحقيقيين من لقب وميزة الا وشاركوهم بها ويجب ان نرى اثار علم الشخص حتى نحكم على شهادته والا فالكل اصبحوا اصحاب شهادات وعسى ان يتعاضد العلماء الحقيقيون والمثقفون الحقيقيون في تبيين الحقائق وان كان اصحابنا ايضاً يعملون على محاربة كل مبدع حقيقي بشتى انواع الحرب من تشويه للسمعة وتسقيط وابعاد عن الواقع ومحور الاحداث ولكن لن يطول الامر حتى يشخص الشعب من ينفعه ممن لا ينفعه ولن يستطيع احد خداع شعب الى الابد.