في ظل واقع دولي يتسم بالصراعات والأزمات والحروب المتتالية إما بالوكالة أو بطريقة غير مباشرة بين كبار الدول المتحكمة في الحياة السياسي ،والاقتصادي الدولية و المهيمنة على الترسانة الحربية العالمية بكل أنواعها.
وهذا الواقع لم تسلم منه أي قارة وآخرها القارة الأوربية، التي باتت الساحة المشتعلة، بعد أن كانت لسنوات بعيدة كل البعد عن لهيب الحروب والصراعات الداخلية ،لكن حرب روسيا على أوكرانيا أظهر للعيان أن المواقع و النفوذ غير متوقفة عند موقع بذاته أو منطقة في ظل تنافس مستمر بين اقوى دول المعمورة.
إذ تؤكد هذه الأحداث الدولية المتصاعدة استمرارية مفهوم “الفوضى الخلاقة” في العالم، ويدخل أيضا في باب التنافس متعدد الأقطاب، أي بعيدا عن مفهوم الرجل الواحد والاحادية القطبية أو الثانية القطبية التي كانت تحكم الشرق والغرب نهاية القرن العشرين
،بمعنى آخر، إن العالم لم يعد يقتصر على دولة واحدة أو دولتين هما المتحكمتان في مساره السياسي والاقتصادي والعسكري العالمي ،بل دخلت قوى أخرى لها من الإمكانيات البشرية والاقتصادية والعسكرية ما يخول لها أن تجعل من النظام الدولي تتحكم وتسيطر عليه عدة قوى دولية وهو ما يطلق عليه أطروحة “النظام متعدد الأقطاب”.
لذلك، هذا الواقع والتنافس المتعدد بين الدول العظمى، ونذكر هنا الولايات المتحدة الأمريكية و الصين الشعبية وروسيا الاتحادية، يدخل العالم في منعطف تاريخي فهل يبقى الصراع محتشم ومحدود بين هذه الدول أم الصراع سينتقل بالوكالة إلى الصراع المباشر ؟
هذا الواقع المنتظر، لم نصل له بعد، لكن المؤشرات السياسية والاقتصادية والعسكرية تشير إلى قرب تلك المرحلة، و في ظل هذا الواقع العالمي المتوتر يطرح السؤال أين المنطقة العربية من هذا التحول إذا حصلت مواجهات مباشرة بين الدول العظمى المتحكمة حالياً.
هل تبقى الدول العربية بعيدة كل البعد عن الصراعات القطبية أم أن الواقع يفرض عليها التكتل مع إحدى القوى المتنافسة كما كان سابقاً إبان الحقبة السوفيتية الاشتراكية والأمريكية الرأسمالية؟
لكن رغم هذا كله لم تسلم الدول العربية من التدخلات الأجنبية منذ استقلالها حتى اليوم ،بل تم تدخلات متعددة من قبل المستعمر القديم أو القوى العظمى في التدخل في شؤون الدول العربية ,وذلك لأغراض متعددة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية وحتى ثقافية ،وهذا كله لم ينقطع منذ فجر استقلال الأقطار العربية عن مستعمراتها السابقة أو بعد تفكك نظام القطبية الثنائية.
وهذا لم ينتهى رغم التطور ومفهوم العولمة التي يعرفها العالم ،بل تطورت اشكال التدخلات من قبل الدول الغربية والعظمى في شؤون البلدان العربية ،ومنها من دمرتها ورجعتها إلى الوراء مئة عام العراق 2003 ،ليبيا ،سوريا ,الصومال …
حتى أن بعد الدول العربية، والتي عرفت بثورات داخلية من قبل شعوبها لتغير نمط سياساتها،واقتصادياتها مع مفهوم التعبئة للغرب، لم تسلم بل كانت هناك تدخلات لثنيها عن ذلك العمل ،فإذا لم يكون التدخل مباشر من الغرب يتم ذلك عن طريق الدعم للداخل من أجل تغيير ما تم صياغته أو تعديل لكي يوافق توجهات الغرب وسياساتها ومصالح شركاتها الكبرى. لذلك البلدان العربية لم تسلم من تدخلات القوى الكبرى لتغير ما يمكن تغير حتى في الثقافة والتعليم.
فالواقع العربي الحالي، رغم أنه يشهد تطورات في رسم السياسات والمواقف الإقليمية غير أنه لم يصل بعد إلى القطع مع التعبئة للقوى الكبرى ،وذلك راجع إلى عدة عوامل خارجية وداخلية.
وما نراه اليوم من أحداث داخل الساحة العربية من صراعات وأزمات، يظهر بشكل أفضل نمط التعبئة وطريقة سيناريوهات تفعيلها على أرض الواقع ولو بطريقة غير تقليدية.
في الشاهد على ذلك، ما يقع في السودان ،هذا البلد رغم عراقة مفهوم تشكل الدولة والأحزاب، وما يملك من ثراء في التطور السياسي وتعاقب الأنظمة والأيديولوجيات والثقافة لم يستطيع أن يقطع مع التدخلات الأجنبية ,بل لا يزال من يتناوب على السلطة، حبيس مرجعيات التبعية للغرب ،وبعيدا عن التوافق الديمقراطي السليم المنبثق من الشعب والتوافقات السياسية التي تحفظ الأمن القومي للبلد وسيادته داخل محيطه.
في الأزمة الحاصلة، والقتال بين أبناء البلد ومفاصل الدولة السودانية، الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان و الدعم السريع بقيادة محمد حمدان، لم تكون صدفة بل هناك إلى جانب اللاتوافق الداخلي جهات خارجية تنظر الى السودان من مظلة الأزمات ،في توافق واتحاد أهل السودان يجلب لهم الانكسار، ويقلل من حظوظهم في الاستيلاء على ثرواتها وما تتمتع به البلاد من خيرات ..
وما يؤكد على ذلك، أن القوى الدولية العظمى في بداية الأزمة و الحرب السودانية، لم تتخذ مبادرة للمصالحة بين الطرفين، بل توجهت بشكل فوري إلى سحب دبلوماسيتيها ورعاياها إلى خارج السودان.هل العمل كان طبيعي أم أن المسألة كانت مدروسة منذ مدة لتجعل من السودان ساحة حرب واضعاف بذلك السودان عسكريا واقتصاديا، وعندها يتم التدخل من قبل هذه الدول العظمى عن طريق بوابة حفظ السلام؟
من هذا المنطلق “حفظ الأمن والسلام” تبدأ التلاعبات، بالدولة السودانية وتقسيمها إلى دويلات وخاصة إقليم “دارفور ” وهنا تستولي القوى المتدخلة على السلة الغذائية الإفريقية والعربية، و على الثروات الطبيعية التي تزخر بها السودان و تتحكم في أنابيب “ماء نهر النيل” وهنا يتجه الخطر إلى مصر وهي التي تعرف صراعات مع أثيوبيا بسبب زمة “سد النهضة”.
ختاماً، الأزمة السودانية ليست بمعزل عن حسابات الصراع القائم بين الدول العظمى (الولايات المتحدة الأمريكية، الصين ،روسيا) في الساحة الدولية بل هي مسار وأزمة جديدة مفتعلة من قبل هذه الدول. في السودان و بما فيه وما يملك من خيرات وموقع أصبح وجه استراتيجية داخل افريقيا لهذه الدول ،لذلك أصبح التنافس من أجل السيطرة عليه وعلى مقومات واجبة داخل سياسات واستراتيجيات هذه الدول ،في إذا لم تستطيع إحدى هذه الدول السيطرة عليه في سوف يتجه الى إلى تقسيم إلى أقاليم ودويلات وسيبدأ الفعل بإقليم “دارفور”.
وحتى تطورات أزمة السودان لن تقف عند السودان’ سوف تمتد إلى بلدان مجاورة أخرى وتؤثر على أمنها القومي، وأول تلك البلدان هي مصر لما لها من روابط جغرافية تاريخية وسياسية واجتماعية مع السودان.
فهل تعي البلدان العربية حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها؟ وتسارع للحد من تأثيرات الحرب في السودان وتجمع الفرقاء المتحاربين الجلوس على طاولة التفاوض والصلح، وتخرج بالسودان الى منطق التوافق السياسي، والرجوع بالبلد إلى بر الأمان والاستقرار، وتحفظ بذلك سيادته والأمن القومي السوداني وتجنب المنطقة تداعيات وويلات الحرب.