وكالات – كتابات :
“الأرجنتين” و”بوليفيا” و”تشيلي”؛ تمتلك أكبر احتياطيات خام (الليثيوم) في العالم، ووضعت إدارة “جو بايدن”، خططها للطاقة النظيفة اعتمادًا على مثلث (الليثيوم)، لكن تلك الدول رفعت راية التحدي في وجه “أميركا”.. فما السبب ؟
كانت أسعار معدن (الليثيوم) قد تضاعفت: 10 مرات على الأقل منذ بداية عام 2021، في ظل التوسّع العالمي في صناعة السيارات الكهربائية، وهو ما جعل الدول القليلة صاحبة المخزون الوافر من (الليثيوم) هدفًا رئيسًا لصراع القوى الكبرى في هذا المجال.
وتستخدم كربونات (الليثيوم) بالأساس في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، و”بوليفيا والأرجنتين وتشيلي” لديها المخزون الأكبر من هذا المعدن، وتُعرف باسم: “مثُلث الليثيوم”، لكن “الصين وروسيا” تتفوق على “الولايات المتحدة” في صراع الفوز به.. فما السبب ؟
خام “الليثيوم” والطاقة النظيفة..
مجلة (فورين بوليسي) الأميركية؛ نشرت تقريرًا يتناول علاقة خام (الليثيوم) بخطط الرئيس الأميركي؛ “بايدن”، في مجال الطاقة، فـ”واشنطن” ستلجأ على الأرجح إلى “أميركا الجنوبية” من أجل الحصول على (الليثيوم)، وهي المادة اللازمة لإنتاج البطاريات القابلة لإعادة الشحن ودفع عملية التحول في مجال الطاقة.
لكن الحكومات التقدمية في “الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي” تشعر بالاستياء من التدخلات الأميركية المستمرة لأكثر من قرن، وتُعرف تلك الدول باسم: “مثُلث الليثيوم”، لامتلاكها أكبر احتياطيات (الليثيوم) في العالم. ومع ارتفاع الطلب العالمي على الخام، تُخطط الحكومات الثلاث لتعّزيز سيطرة الدولة على الصناعة.
وتبحث تلك الحكومات عن سُبلٍ لمعالجة (الليثيوم) محليًا، مع مشاركة شركات من دول أخرى، بخلاف “الولايات المتحدة”، وخاصةً “الصين” الرائدة في مجال (الليثيوم) عالميًا.
وإذا كانت إدارة “بايدن” تُريد تنويع سلاسل توريدها العالمية فعلاً من أجل تحويل سوق السيارات الأميركية إلى الكهرباء، فيجب عليها أن تتخلى عن سياساتها العقابية العتيقة الموروثة عن الإدارات السابقة داخل “أميركا اللاتينية”، وأن تتفاعل بصورةٍ بناءة مع حكومات “مثُلث الليثيوم”.
وقد فشلت شركات استخراج (الليثيوم) الأميركية في إحراز تقدم كبير في المنطقة حتى الآن. بينما تُعتبر عمليات شركة (Albemarle)؛ في “تشيلي”، حالةً استثنائية، لكن الشركة تواجه ضغطًا تنظيميًا متزايدًا في عهد حكومة البلاد اليسارية. ولم تسّتفد الشركات الأميركية كثيرًا من تاريخ تدخلات “الولايات المتحدة”، ودعمها للديكتاتوريات العسكرية في جميع دول: “مثُلث الليثيوم” والدول المجاورة.
وتناول تقرير لصحيفة (فايننشال تايمز) البريطانية، واحدًا من فصول الصراع في: “حرب الليثيوم”، ألقى الضوء على ما تشهده “بوليفيا”، الدولة الأميركية الجنوبية، من صراع شرس بين الشركات الصينية والروسية والأميركية للفوز بهذا الكنز.
وفي آذار/مارس، قال الرئيس البوليفي؛ “لويس آرسي”، أثناء تقديم مقترح تشكيل تحالف سّيادي إقليمي من أجل (الليثيوم): “لا نُريد أن يقع (الليثيوم) الذي نملكه في أيدي القيادة الجنوبية الأميركية، ولا نُريده أن يكون سببًا في زعزعة استقرار الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا أو ذريعةً للمضايقات الأجنبية”.
ويُمكن القول إن أول إدارة أميركية مُلتزمة بالتحول إلى الطاقة الخضراء ليست مسّتعدةً للتفاعل بشكلٍ بنّاء مع حكومات “مثُلث الليثيوم”. ولنأخذ “بوليفيا” كمثال، حيث تمتلك أكبر موارد (الليثيوم) غير المسّتغلة في العالم، لكنها لا تملك سوى القليل من الاحتياطيات المجدية اقتصاديًا في الوقت الراهن. إذ توتّرت علاقات “الولايات المتحدة” مع “بوليفيا” منذ انتخاب الرئيس البوليفي السابق؛ “إيفو مورالس”، عام 2005، مما أعاق قدرة الشركات الأميركية على التفاوض على عقود (الليثيوم) هناك.
دعم “الانقلاب” في بوليفيا..
ولطالما انتقد “مورالس”؛ الزعيم اليساري من السكان الأصليين، تدخلات “الولايات المتحدة” في “بوليفيا”. ولم يسّع خلال فترته لتوقيع شراكات مع الشركات الأميركية لاستخراج (الليثيوم). وخلال زيارته لـ”إسبانيا” لإجراء محادثات مع شركات استخراج (الليثيوم)؛ في عام 2009، قال “مورالس”: “نحتاج إلى شركاء وشركات تحترم القواعد البوليفية. ونُرحب بالشركات التي تأتي من أجل الاستثمار، وليس من أجل التدخل في السياسة”.
وفي عام 2018، وقّعت الحكومة عقدًا لمعالجة (الليثيوم)؛ وإنتاج البطاريات مع شركة (ACI Systems) الألمانية. وبعدها في أوائل عام 2019، وقّعت “بوليفيا” اتفاقية شراكة مع مجموعة (Xinjiang TBEA Group) الصينية لبناء مصانع معالجة (الليثيوم).
وقبل تدشّين المشروعين بالتعاون مع (ACI Systems) و(TBEA)؛ في عام 2019، تمت الإطاحة بـ”مورالس”، من الحكم في الأحداث التي وصفها حزبه بانقلاب مدعومٍ من “الولايات المتحدة”، ما أسّفر عن تعليق تلك المشروعات.
وجاءت الإطاحة به مدفوعةً بمزاعم التزوير الانتخابي التي أطلقتها “منظمة الدول الأميركية، ودعمتها “وزارة الخارجية” الأميركية، لكن الباحثين، وخبراء الاقتصاد، والكيانات الإعلامية مثل: (نيويورك تايمز) الأميركية شكّكوا في تلك المزاعم لاحقًا.
وقال “مورالس”: “كان هناك انقلاب… لأننا أمّمنا مواردنا الطبيعية وبدأنا عملية التحول الصناعي لخام (الليثيوم)”. وانتُخِبَ “آرسي”، وزير الاقتصاد السابق في حكومة “مورالس”، لمنصب الرئيس بعدها بعامٍ واحد. وكتب انتخاب “آرسي” نهاية الولاية المؤقتة والقمعية للسياسية اليمينية؛ “غانين آنييز”. ويُردد “آرسي” منذ انتخابه نفس حجج؛ “مورالس”، بخصوص دور (الليثيوم) في إجبار الرئيس الأسبق على الاستقالة.
ولا يزال السبب وراء الإطاحة بـ”مورالس” محل جدل، كما تساءلت وسائل الإعلام التقدمية عن دور (الليثيوم) فيما حدث، لكن جميع رؤساء دول: “مثُلث الليثيوم”، يعتبرون الإطاحة بـ”مورالس” انقلابًا، خاصةً بعد أن رحبت بها إدارة “ترامب”. كما وصف بعض الساسة الأميركيين الأمر بأنه انقلاب أيضًا، ومنهم السيناتور؛ “بيرني ساندرز”، والنائبة؛ “ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز”.
وقد توقّعت حكومة “آرسي”؛ المنتخبة ديمقراطيًا، أنها ستتلقى الدعم من إدارة “بايدن”. لكن إدارة “بايدن” سّارت على نهج سابقتها، وأدانت اعتقال “غانين”؛ عام 2021، على خلفية اتهامات بالإرهاب والتحريض. وبعدها ببضعة أشهر، استبعدت الإدارة الأميركية “بوليفيا” من: “قمة من أجل الديمقراطية” التي تعقدها، ما أثار غضب “بوليفيا” وحليفتها “الأرجنتين”.
وخلال القمة، قال الرئيس الأرجنتيني؛ “ألبرتو فرنانديز”، في وجود نظيره الأميركي؛ “جو بايدن”، إن “أميركا اللاتينية”: “عاشت فترةً صعبة للغاية مؤخرًا، وخاصةً بوليفيا، الجمهورية الشقيقة التي عانت من انقلاب أيّدته شريحة كبيرة من المجتمع الدولي ومنظمة الدول الأميركية”.
وكثيرًا ما تؤدي قرارات مسؤولي؛ “بايدن”، المتعلقة بـ”أميركا اللاتينية”، إلى إثارة غضب حكومات: “مثُلث الليثيوم”، التي تعطي الأولوية للتضامن الإقليمي بينها. حيث أدانت الحكومات الثلاث استمرار الحصار والعقوبات المفروضة على “كوبا”، وكذلك استبعادها مع “نيكاراغوا وفنزويلا” من: “قمة الأميركتين” العام الماضي.
وقد قاطع “آرسي” تلك القمة قائلاً إنه: “برغم الخطاب المؤيد للديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن المسؤولين الأميركيين ليست لديهم رغبة حقيقية في تغيير سياستهم العدائية تجاه الحكومات ذات الكرامة، والتي لا تُخضِع نفسها للمصالح الأميركية”. كما انتقد “ألبرتو” والرئيس التشيلي؛ “غابرييل بوريك”، قرار “واشنطن” باستبعاد تلك الدول أيضًا.
أما تكتيكات (البنتاغون) الرامية للحصول على عقود (ليثيوم) في المنطقة، فقد أدت لمفاقمة التوترات. إذ ترغب دول “مثُلث الليثيوم”؛ في إبقاء القوات المسّلحة الأميركية بعيدًا عن شؤونها السياسية، لكن قائدة القيادة الجنوبية الأميركية، الجنرال “لورا ريتشاردسون”، قالت مؤخرًا إنها التقت بالسفارات وشركات (الليثيوم) الأميركية لنقاش مسّألة الاستثمار في المنطقة و”إخراج منافسّينا منها”.
لماذا تتفوق “الصين” على “أميركا” هناك ؟
وجاء ذلك بعد مزاعم باستثمار “الصين” و”روسيا” في المنطقة: “لتقويض نفوذ الولايات المتحدة وتقويض الديمقراطية”. وفي آذار/مارس، تدعي “لورا” أمام “الكونغرس” الأميركي بأن “الصين”: “تنتزع الموارد من تلك الدول ومن شعوبها”. لكن مدير شركة (الليثيوم) الحكومية البوليفية؛ “كارلوس راموس”، رفض المزاعم التي أدلت بها.
وفي الوقت ذاته؛ تُؤكّد حكومات “مثُلث الليثيوم” على سّيادتها على مواردها الطبيعية بصورة متزايدة، حيث حوّلت إدارة “آرسي” عملية استخراج (الليثيوم) وإنتاج البطاريات التي تقودها الحكومة إلى أولوية وطنية. وتسّعى الإدارة بذلك لضمان عدم تكرار تاريخ المنطقة من الاعتماد على دول أخرى في استخراج، ومعالجة، وتصدير الموارد عالية القيمة مثل: “الفضة والقصدير والنحاس”. وتجري حاليًا إعادة كتابة دستور “تشيلي”، قبل إقرار تعديلاته في استفتاء. ومن المُرجّح أن يتبع دستور “تشيلي” النموذج البوليفي بإنشاء شركة حكومية، من أجل توقيع شراكات استراتيجية وتنظيم استثمارات (الليثيوم) الخاصة.
لكن دول “مثُلث الليثيوم” تُدرك جيدًا أنها لا تستطيع معالجة (الليثيوم) بمفردها، بل تحتاج إلى شركاء لتمويل وإنشاء البنية التحتية والتقنيات المناسبة. وتتدخل “الصين” حاليًا لسّد هذه الفجوة، نظرًا لأن تاريخها في المنطقة ليس مشحونًا بالقدر نفسه. وتُهيمن “الصين” على أسواق (الليثيوم) العالمية بالفعل، إذ تُنتج نحو ثلاثة أرباع بطاريات (أيون الليثيوم) في العالم، فضلاً عن أنها كانت موطنًا لنصف نمو سوق السيارات الكهربائية العالمية عام 2021.
ولا عجب إذاً أن “بوليفيا” وقّعت في كانون ثان/يناير 2023، عقد شراكة مع ائتلاف (CATL) الصيني، أكبر مُصنِّع لبطاريات (أيون الليثيوم) في العالم، بعد مفاوضات مطولة مع ست شركات عالمية. وينص العقد على بناء مصانع لاستخراج ومعالجة (الليثيوم) مباشرةً، مع تشيّيد البنية التحتية اللازمة في “بوليفيا”.
وبحسّب تحليل (فورين بوليسي)، يجب أن تعتمد السياسة الأميركية في التعامل مع دول “مثُلث الليثيوم” على احترام السّيادة الوطنية لتلك الدول، واحترام قرارات حكوماتها المنتخبة ديمقراطيًا. ويُمكن لـ”واشنطن” تقديم بادرةٍ جيدة بالدعوة للمشاركة النشطة من كافة حكومات “أميركا اللاتينية” على الساحتين الإقليمية والدولية، بدلاً من استبعاد بعض الدول، مع تقديم المزيد من فرص التعاون في مجالات تغير المناخ وتحوّل الطاقة العالمية.
علاوةً على ذلك، يجب على القادة المدنيين الأميركيين تولي دفة قيادة الدبلوماسية، بدلاً من الضباط العسكريين. كما يجب على إدارة “بايدن” خلق الحافز للشركات الأميركية من أجل شراء البطاريات التي تُنتجها دول “مثُلث الليثيوم”. وأخيرًا، في حال تمكنت الشركات الأميركية من الفوز بعقود على تراب “مثُلث الليثيوم”، فيجب أن تحرص على تحقيق الاستفادة الاقتصادية لتلك الدول – والمجتمعات المحلية المحيطة بمسّطحات (الليثيوم) – من عملية إنتاج البطاريات.
وتؤكد حكومات “مثُلث الليثيوم” مرارًا على أنها تُريد: “شركاء، لا رؤساء”. بينما يتعيّن على “واشنطن” أن تجتاز مرحلة أنماط الصراع والتدخل المتأصلة في تاريخها، لتبني شراكات مُنتجة مع تلك الدول بناءً على أولوية مشتركة واحدة: التحوّل إلى الطاقة النظيفة.