خيمينا دي لا بارا
ر.أ. ديلو بونو
ترجمة: د. هاشم نعمة
عندما أضطر التوسع الرأسمالي العالمي للتعامل مع فترات الركود المتكررة خلال السبعينيات، جرى نشر استراتيجية جديدة لتوسيع تغلغله في الأسواق الوطنية. وقد أدى هذا إلى مواجهة بين احتياجات رأس المال العابر للحدود واحتياجات تشكيلات أمريكا اللاتينية غير المتكافئة والمتخلفة. ومع استثناءات قليلة، أدت الأزمة التي تلت ذلك في نموذج اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي لإحلال الواردات إلى فرض تعديل هيكلي على النحو الذي تمليه القوى الاقتصادية العظمى الأساسية. وتشير هذه الأزمة الناتجة داخل الدولة التنموية والكوربوراتية إلى أن موجة أخرى من الإصلاحات كانت وشيكة.
تشكلت الخلفية الجديدة للتنمية من ظهور تكتل قوي من الشركات الضخمة العابرة للوطنية التي أطلق عليها المنظر الأرجنتيني أتيليو بورون “لوياثانس الجديد” (2000). يُتوقع الآن من الدول ذات السيادة في أمريكا اللاتينية أن تتكيف مع “الحقوق الطبيعية” لرأس المال العالمي. وفي وقت لاحق، كان من الواضح أن إعادة الهيكلة العالمية للتراكم الرأسمالي في السبعينيات قد مثّل بداية لما نعرفه الآن بـ “العولمة” في حين أصبحت السياسات الاقتصادية والسياسية التي دعمتها تُعرف بالليبرالية الجديدة. في ظل الليبرالية الجديدة، اعتبر دعم الدولة بعد إصلاحها مرادفا لوعود التنمية للجميع، وظروف معيشية افضل وزيادة مستويات الاستهلاك الشخصي. وستكون الوسيلة لتحقيق ذلك هي السوق، وسيتم إقصاء الدولة التمثيلية لتأكيد سلبية المجتمع المدني وحرمة حقوق الملكية الخاصة باعتبارها أفضل طريقة لتجربة الحقوق الفردية.
مع استثناءات قليلة، مثل دولة جزيرة كوبا، أصبحت الليبرالية الجديدة بسرعة متوطنة في أمريكا اللاتينية. وفي أعقاب فترتين من حكم المحافظين الجدد في عهد رولاند ريغان، أصدر عضو في الإدارة التي خلفت جورج بوش (الأب) ما أصبح يعرف باسم “إجماع واشنطن”، أي مجموعة من المبادئ التوجيهية للشكل الجديد لحكم الدولة الذي تضمن: الانضباط المالي؛ إعادة تنظيم أولويات الانفاق العام؛ إصلاح الضريبة؛ تحرير معدلات الفائدة؛ أسعار صرف تنافسية؛ تحرير التجارة؛ تحرير الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل؛ الخصخصة؛ رفع القيود؛ وتعزيز جميع حقوق الملكية (واشنطن 2002). في الواقع، أصبح التراجع الجذري عن المبادئ اليكنزية يُمثل الشكل الوحيد الممكن للتطور الديمقراطي.
بالطبع، لم تكن عملية قبول إملاءات واشنطن سلمية ومتناسقة. كانت الليبرالية الجديدة قد فُرضت أولا عن طريق التجريب وتحت تهديد السلاح في حالة شيلي في عام 1973. وفي أوائل الثمانينيات، خضعت البلدان المثقلة بالديون للتكيف الهيكلي كشرط للحصول على قروض جديدة من أجل بقائها. وعملت المبادرات الجديدة لواشنطن على توحيد هذه السياسات الليبرالية الجديدة وترسيخها من خلال سياسات التجارة والاستثمار “التفضيلية” التي بلغت ذروتها في مجموعة كاملة من اتفاقيات التجارة الحرة شبه الإقليمية والثنائية التي كانت اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية أولها.
سعت الليبرالية الجديدة إلى خلق الأساطير الخاصة بها بشأن توزيع الثروة، وإحياء الفكرة التي فقدت مصداقيتها فعليا القائلة بأن الرأسمالية تصحح نفسها بنفسها وتتطور نحو المزيد من المساواة. ما تم تفسيره على أنه عدم مساواة متأصلة سيظل عند مستوى “مقبول”، كما تقول الخرافة، وسيعمل “سحر السوق” على تسخير التقنيات الجديدة والقوية التي من شأنها تحقيق أفضل عالم ممكن لعدد أكبر من المواطنين. و تحت العبارات الأيديولوجية المتناغمة، سعى إجماع واشنطن لتسهيل الوصول إلى الموارد الطبيعية والمواد الخام الرخيصة في المنطقة، مع التركيز المتزايد على الطاقة. كما اقترحت سياسات تجارية مصممة للاستفادة من هيمنة الولايات المتحدة على التكنولوجيا والمعلومات لتعميق هيمنتها على اقتصادات أمريكا اللاتينية الناشئة. ويسعى الجيل الجديد من مبادرات التجارة العالمية إلى تجريد الدول الوطنية من عمليات صنع القرار الأساسية الخاصة بها، ووضعها في أيدي مؤسسات فوق وطنية وغير ديموقراطية مثل مؤسسات التمويل العالمية والشركات فوق الوطنية، وإخضاعها لآليات التحكم التي تعمل خارج نطاق المؤسسات الوطنية. في هذا السيناريو، وبما إن الكثير من الشركات فوق الوطنية لديها ميزانيات أكبر بكثير من معظم دول أمريكا اللاتينية، فستكون التباينات واضحة إلى حد كبير. باختصار، كان هذا بمثابة هجوم رأسمالي عالمي يهدف إلى تكريس “حقوق” رأس المال على حساب الحقوق البشرية والبيئية لشعوب المنطقة وخارجها.
تمثّل التناقض الواضح لهذه العملية بالفصل العالمي لصنع القرار الاقتصادي عن آليات المشاركة الديمقراطية. ويُمنع المواطنون الذين صوتوا في الانتخابات على نحو متزايد من ممارسة تأثيرهم على السوق التي على العكس من ذلك استجابت لإملاءات الشركات الأجنبية الكبيرة. لقد ركزت الليبرالية الجديدة بدقة على تفكيك جميع أنظمة وقدرات التدخل لدى الدول الوطنية، مدعية أن “السوق الحرة” لا يمكن أن تتسامح مع أي شكل من “تدخل الدولة” في الشؤون الاقتصادية. وباسم الحرية، سيحل الاقتصاد محل السياسة. في حين يجادل بورون بأنه كان هناك دائما اهتمام معين بالمساواة في المبادئ الغربية الديمقراطية منذ أفلاطون، لكن الليبرالية الجديدة كانت تطمح لتحقيق حالة من عدم الاكتراث الكامل بالتوزيع الاجتماعي للثروة، وبالتالي خلق التناقض الكامن وراء الادعاءات الديمقراطية المنسوبة للسياسات الليبرالية الجديدة. ومن خلال تجاهل القبول المتزايد للحقوق الأساسية، فقد صادرت الليبرالية الجديدة بشكل أساسي حق ممارسة المواطنة بصورة فعلية لدى قطاعات اجتماعية بأكملها.
لم تتعرض الليبرالية الجديدة الأرثوذكسية للهجوم من قبل المؤسسات العالمية إلا بعد اندلاع أزمات متعددة في عام 2008، وذلك في محاولة لإعادة الاستقرار للرأسمالية. وبدأ معظم القوى الغربية الرئيسة في سياق الأزمة المالية التحمس بشكل انتقائي لأراء الكينزية الجديدة. تكليف الدولة بدور الإنقاذ المالي لتلك الكيانات نفسها التي تسببت في الأزمة في المقام الأول من خلال تكهناتها المتهورة. ولم يكن هذا سوى نصف الصورة، لأنه بدلا من ضمان العمل والأجر المعيشي للتخفيف من الاتجاه المزمن نحو الإنتاج الزائد وتقلص الطلب الكلي، جرت المحاولة لجعل العمال يتحملون عبء خطة الإنقاذ من خلال خفض الأجور، وتراجع الإنفاق الاجتماعي، والسياسة المالية التراجعية والبطالة والقمع. وقد أبقى هذا الإحياء الجزئي للتفكير الكينزي السليم الاقتصاد العالمي في وضع صعب، في حين أظهر إلى أي مدى باتت الدولة بعيدة عن المبادئ الديمقراطية لتمثيل مصالح الأغلبية.
الترجمة من كتاب: Victor Manuel Figueroa Sepulveda (ed.), Development and Democracy: Relations in Conflict (Leiden/ Boston: Brill, 2017).