حين يساق المجتمع المأزوم للانخراط في أتون الحروب السياسية ، أو يدفع للتورط في دوامة الصراعات الأهلية ، أو يستدرج للوقوع في مهاوي التطهيرات العرقية والطائفية ، سرعان ما يتفكك نسيجه السوسيولوجي إلى عناصره الأولية ، ويستقطب تكوينه الانثروبولوجي نحو أصوله البدائية ، ويتشظى معماره الإيديولوجي صوب ثقافاته الفرعية ، وكأنه بذلك أشبه ما يكون بالمومياء التي تتعرى لعوامل الطبيعة على نحو مفاجئ ودون سابق إنذار . والملاحظة العامة في مثل هذه الحالة ، إن غالبية شرائح ذلك المجتمع ومعظم فئاته ، لن تتردد كثيرا”حيال حسم الأمر باتخاذها خيار الدين ملاذ يعصمها من تيه الغربة ويقيها محنة الضياع ، ولن تتوانى للتذرع بطقوسه والتماس شعائره لاستدعاء ما تعتقده مخلصها / منقذها ، لكي يشبع توقها ويطمئن لواعجها إزاء قلق الوجود ومعاناة الواقع . في حين تيمم القلة الباقية وجهها باتجاه رحاب الثقافة للاعتصام بحبلها المتين ، والالتجاء إلى موئل العقل للاحتماء بقلعته الحصينة ، على أمل أن يستفيق المجتمع لاحقا”من سكرته ويشفى من طيشه ويستعيد وعيه ويسترد ذاكرته ، وتستأنف ، من ثم ، دورة الحياة فيه من جديد . قد يوجد من يتأرجح بندوله الفكري وتتقلب موازينه السلوكية بين هذه الحالة أو تلك ، تعبيرا”عن فقدان الاتجاه وانعدام الرؤية في خضم التدافع والترافع بين أساطير الجموع المجيشة وخرافاتها من جهة ، وبين ادراكات النخب المستنفرة وخطاباتها من جهة أخرى . ولعل المجتمع العراقي – في ضوء انثيال معطياته وانسياح تداعياته – لا يشذ عن هذه القاعدة ، إن لم يكن نموذجا”شاخصا”لها ودليلا”حيا”عليها ، لاسيما وان بنيته الداخلية افتقرت ، طيلة العقود الماضية ، إلى الصلابة التي تقيها من التصدع ، والى المرونة التي تحميها من الانحراف . ولهذا فقد كانت الصدمة التي تعرضت لها كافية لأن تحيلها إلى هباءا”منثورا”، توزعت شظاياه بين تطرف طائفي وتعصب عرقي وتصلب مذهبي وخوف نفسي وعنف اجتماعي وتناحر سياسي وتفاخر قبلي وتباغض مناطقي وتنابذ لغوي . ولأن هاجس الموضوع يتركز حول طبيعة الإسهامات الفكرية وماهية النشاطات الثقافية ، التي اجترحتها عقول بعض من أبرز مثقفي العراق لحقبة ما بعد السقوط ، فإننا سنضرب صفحا”عن كل ما له علاقة بأنماط الوعي الاجتماعي الأخرى ، التي تتراوح خصائصها ما بين الذهنية الدوغمائية ونظيرها الذهنية البرغماتية ، حيث المصالح الشخصية هي المعيار والمكاسب الآنية هي المقياس . ولكي لا نحشر تعاطينا مع هذا النوع من الفاعلين الاجتماعيين ، بين شقي رحى التصنيف (الغرامشي) الذي يقسم المثقفين – وفقا”للمعيار الطبقي – إلى عضويين وتقليديين ، بحيث تنتفي الحاجة لمراعاة الأشكال الانتقالية من عناصر الفئة الأولى إلى الثانية وبالعكس ، وهو الأمر الذي يفضي إلى إرباك التحليل السوسيولوجي وتعطيل التأويل الابستمولوجي . فقد احتفى هذا المقال بتلك الثلة من المثقفين العراقيين النجباء ، الذين نعتقد بأنهم يمثلون ذلك النمط الذي يضع رحاله حيثما تكون الثقافة في الصفوف الأمامية لتقارع مظاهر التخلف ، ويشمّر عن ساعده حيثما يكون العقل في المقدمة ليصارع عناصر الخرافة . ليس فقط لأنهم ينأون بأنفسهم عن مشاغل التكسب الحزبي والارتزاق الإيديولوجي ، كما ليس فقط لأنهم يربأون بإبداعهم عن كل توظيف طائفي أو استثمار عنصري فحسب ، وإنما عبر تأويلاتهم الفكرية وتأملاتهم الفلسفية وجرأتهم النقدية واهتماماتهم الاجتماعية وحفرياتهم النفسية وتطلعاتهم المستقبلية . والجدير بالذكر إن لهؤلاء المبدعين مواقف سياسية مشرّفة وإسهامات ثقافية قيمة ، إلا إن هذا الامتياز لم يحملهم على ترك أسلحة النقد العقلاني التي يجيدون استخدامها ، والتخلي عن أزاميل الحفر المعرفي التي يبرعون باستعمالها ، والتي طالما جلبت لهم المشاكل مع (العقّال) وخلقت لهم العدوات مع (الجهّال) . ولأنهم على بيّنة من جلال الرسالة التي يبشرون بها وعظم المسؤولية التي ينافحون عنها ، فقد هجروا كل ما هو تقليدي في تشخيص الأباطيل الاجتماعية ، وتعيين الخرافات الدينية ، وتحديد الأساطير التاريخية . للحد الذي إن العبارات التي تأتي في ساق السرد الثقافي الذي يمارسونه ، غالبا”ما تكون شبيهة باللوحة السريالية الأخاذة ، من حيث انطباقها على جغرافية الواقع الاجتماعي الملئ بالانحناءات والانكسارات ، وقدرتها في التعبير عن تضاريسه الفكرية المتعرجة والكشف عن أخاديده النفسية الغائرة . بحيث لا يفوتك وأنت تتابع نتاجاتهم وتطالع كتاباتهم ، إلاّ وان تغبطهم على حيازتهم لأزاميل الحفر في الوعي وأنصال التشريح في الواقع ، ليس فقط حيال جسارة الأفكار وشجاعة الطرح وبلاغة التعبير ودقة التشخيص فحسب ، بل وإزاء الاختيار للمواضيع الحساسة والقضايا الإشكالية ، حتى لكأنها وضعت بوحي من أفكارك وقيلت بالنيابة عن مشاعرك . ولعل معترض يأخذ علينا إهمالنا الاحاطة ببقية المثقفين الآخرين ، الذين لا يقلون إبداعا”وتألقا”عمن تناولهم الموضوع بالاحتفاء والإشادة ، لذا فان من الإنصاف – طالما إن المقال يتحدث عن أزاميل الإبداع في مجال الثقافة – إن يشار إليهم ويحتفى بهم ، أسوة بمن أسرف الموضوع بتعداد مناقبهم والإلماح لفضائلهم . ومن باب المحايثة للواقع والمعايشة للتجربة ، فانه إذا ما وضعنا أكاليل الغار حول أعناق هذه الثلة من المثقفين المبدعين فلأننا خبرنا – عن كثب – نقاء معدنهم وصدق سرائرهم وعمق تفكيرهم ووطنية مقاصدهم وعراقية حميتهم ، خلافا”لأولئك المدعين الذين آثروا اللجوء إلى مركب الثقافة للنجاة من طوفان الواقع ، وإيثار السلامة من فوضى المجتمع . لذلك فليس من الغرابة في شيء أن يترك المثقفين المبدعين الماضي خلف ظهورهم ، لا لكي يتبرأوا منه وينسلخوا عنه ، أو أن يخشوا التسمّر عند أضغاثه والتباكي فوق أطلاله ، ليلعنوا هذا الطرف ويدينوا تلك الجهة – كما يفعل الباقين هذه الأيام – وإنما ليشتبكوا مع قوى الظلام التي تحكم قبضتها على زمام الحاضر، لاستئصال شرّهم واجتثاث زؤانهم وانتزاع المبادرة من بين أيديهم ، فضلا”عن شحذهم للعقول المتكلسة وقدحهم للأفكارالصدئة ، بغية الكشف عن تخوم المستقبل والتوقع لآفاق المجهول . فعلى الرغم من كون بعضهم يتقنون لغة الشعر ، وما تنطوي عليه من رمزية عالية تتسامى فوق صخب الواقع وضجيج المجتمع ، لتستبطن ، من ثم ، لواعج الهمّ الإنساني عبر توظيف صور المخيلة وتفعيل طاقة الوجدان . إلاّ أن ذلك لم يحول دون ولوجهم ميادين البحث في شعاب التاريخ العراقي المكتنز بأساطير الأنا الأوحد وخرافات الذات المتعالية ، والتنقيب في تضاريس الجغرافيا العراقية المليئة بألغام الانعزال المناطقي والانفصال الأقاليمي ، والحفر في طبقات العقل العراقي الموبوء بطفيليات التعصب القبلي والتطرف الطائفي ، والنبش في رواسب الشخصية العراقية المسكونة بشياطين العنف السياسي وعفاريت العدوان الاجتماعي ، والتعرية لأصول العقيدة العراقية المقرونة بتكفير المخالف في الدين وتدمير المغاير في المذهب ، وكشف النقاب عن طبيعة الاجتماع العراقي الممهور بصراع الهويات والمدموغ بتصدع الذاكرات . وعلى أساس من هذه المعطيات وتلك المنطلقات ، فان هاجس الكتابة عن موضوع ما ، لا يأتي بوازع من تلطيف الأجواء الملبدة وتخفيف الغلواء المحتقنة ، بقدر ما يستهدف نكأ الجروح الفاسدة لاستئصال أنتاناتها ، وإثارة القروح المصدية لاقتلاع مضاعفاتها ، بلغة هي أقرب إلى مبضع الجراح منه إلى ريشة الفنان ، وأدنى إلى أزميل المنقب منه إلى يراع الكاتب . ولذلك لا تلبث موضوعة من الموضوعات التي تجترحها أفكارهم وتطرزها أناملهم ، حتى تجد صداها وقد انداح بين أروقة الوعي الاجتماعي ، الذي لم تتلوث عناصره بعد برذائل (الوقوف على التل والتطلع إلى الكل) في أحسن الأحوال ، أو اللجوء إلى مسارب الدين الشعبي المسيس والانغماس في طقوسه المطيفة في أسوأها ، كما تفعل العامة من الناس . وهنا تتجلى ، على أسطع ما يكون ، صرخة الفيلسوف الإغريقي (أبيقوروس) في وجه خصومه – سوف يستعيرها لاحقا”الفيلسوف ماركس في سجاله حول موضوعة الدين – (( ليس الكافر من يحتقر آلهة الجمهور ، وإنما الكافر من يتبنى تصور الجمهور عن الآلهة )) . فطوبى لكل المبدعين في حقول الثقافة وميادين الفكر؛ الذين لا يألون جهدا”في الدفاع عن إرادة الحياة ضد إرادة الموت ، ومؤآزرة قوى العقل والمعرفة ضد قوى الجهل والتخلف ، وتعزيز مبادئ العدل والحرية ضد نوازع الظلم والاستبداد ، وتدعيم قيم التعايش والتضامن ضد أعراف التخاصم والتغالب ، وإشاعة ثقافة التنوع والاختلاف ضد جلافة الإقصاء والتهميش ، وتحفيز تطلعات التجديد والتحرر ضد مسبقات التخليد والتبربر .
[email protected]