كنت أنظر بإنبهار إلى الكبار في طفولتي، وكان عالمهم يروق لي حيث يستطيعون فعل ما يحلو لهم كما كان كل طفلٍ يعتقد ذلك، وكنت أنتظر أن أكبر لأقوم بالكثير من الأشياء التي يفعلها الكبار بحرية ومنها شرب القهوة التي كانت مخصصة ً للكبار فقط فيما يثير ذلك غيرتي، وكنت أستمع إلى نقاشاتهم الملتهبة في السياسة والحياة والدين والفن متسائلاً لم تبدو الأمور معقدةً هكذا ؟ وكنت أحياناً أقول في داخلي لا داعي لأن أكبر في وجود كل تلك التعقيدات التي تملأ عالم (الكبار)..
وبمرور الوقت وبإزدياد التجارب وتصاعد الأسئلة التي سعيت للبحث عن إجابةٍ لها كي أشعر بكينونتي وقيمتي كإنسانٍ يفكر ويحاول أن يفهم حياته وبيئته فيصنع قراره الذي قد يغير مصيره، تغيرت الكثير من المفاهيم وكسرت الكثير من (المحاذير) كما يعتقدها الناس في الدخول إلى مناطق يخشى الأغلبية الدخول إليها بأفكارهم ولا تجلب لهم سوى المتاعب، لكنها ما صنعني وجعلني أرى وجوهاً مختلفة للحياة والناس والعوالم المتشابكة التي نعيش فيها فأشارك بعضها وأحتفظ بالكثير منها لنفسي، فقد اعتاد أغلب الناس ألا يرهقوا أنفسهم بما لا يعود عليهم بالنفع المباشر مهما بلغت قيمته المعنوية، كما أن علينا أن نعترف أن مجتمعاتنا ليست جاهزةً لتغيير أفكارها حتى نحو الأفضل لخوفها وتكاسلها وتفضيلها أن تظل وسط نفس المشكلات على أن تأتي بفعل ٍ لم يعتده الناس وإن كانت مقتنعةً بصوابه ومدركةً لزيف الأوساط التي تعيش فيها..
وبالطبع كان عالم الكبار مفاجاةً كبيرة بالنسبة لي، لكنه غيّر مفهوم (الكبار) تماماً لدي، فالتقيت كغيري بأشخاصٍ وأسماء ينظر الكثيرون إليهم بإعجاب ٍ وتقدير أثبتت التجربة لي أنهم لا يستحقونه لأن حقيقتهم هي نقيض ما يظهر منهم، ففي العادة ينجذب العامة إلى البريق والقوة والسلطة والنفوذ والنجومية والهالة التي تحيط ببعض الشخصيات من كافة المجالات، ويشارك في تعزيز تلك الصورة تسويق البعض من المحيطين بهم لها بشكلٍ لا ننفي ذكائه لكنه لا يخدع الجميع طويلاً، خاصةً وأن الكثير يدرك الحقيقة حتى وإن التزم الصمت حرصاً على استفادةٍ يحققها فيحلل التفاصيل ويربط الأحداث ببعضها ويقارن مايسمعه بما يراه ويشعره، فيفصل بين ما يدركه وبين مصلحته الشخصية ويتعامل بأسلوب (عملي وواقعي) حسب قناعاته..
وكما كان هناك (كبارٌ مزيفون) كان على النقيض منهم أسماء ٌ عديدة علمتني بشكل ٍ حقيقي معنى أن تكون كبيراً من خلال احترامهم لذاتهم الذي ينعكس على الآخرين ويدفعهم إلى حفظ قيمتهم عبر اختياراتهم وعملهم وخلقهم وترفعهم عن الصغائر والخوض في مهاترات مع أيٍ كان، إلى جانب ثقتهم بأنفسهم وبموهبتهم وأدواتهم التي تزيدهم تواضعاً وقرباً حقيقياً من الناس دون تصنعٍ أو تكلفٍ أو افتعال، وتدفعهم إلى منافسة أنفسهم واحترام الجميع مهما كان الفرق بينهم، فلا يخجلون من الثناء على مبتدأٍ أو صاحب موهبةٍ في بداية الطريق لأن الجمال في داخلهم صادق يدفعهم إلى التصفيق لكل ما هو أصيل وجميل ونقي، ولأنهم يعرفون قيمة أن يكون المرء نفسه ويظل صاحب بصمةٍ مؤثرة وإن كان ذلك عبر حدثٍ بسيط لأنهم كبارٌ في داخلهم، ولا يلهثون خلف الظهور أو المساحات المدفوعة والتجمعات المعروفة لنيل هذه المكانة أو هذا اللقب أو ذاك لأنهم أكبر من الألقاب، ولأن لكلٍ منهم إنجازاً وخطاً يميزه فيدرس للآخرين ويجعلهم مؤهلين ليكونوا قدوةً للأجيال الحالية والأجيال المقبلة، لأن النجاح المقترن بالخلق والشفافية والعطاء والنقاء الحقيقي نادر ووجود أمثالهم هو ما أعطى دون أن يدري عبر تجربته ورحلته حافزاً للإستمرار سواءاً كان بالنسبة لي أو لغيري، والكثير منهم يعرف أو يشعر بقيمته لدي وبنظرتي واحترامي وتقديري له ولعطائه من المبدعين والمبدعات في مختلف المجالات سواءاً كانت في الكتابة أو التصوير الفوتوغرافي أو الفن التشكيلي أو الشعر أو التمثيل أو الخط وغيرها الكثير..
فمن الصعب أن يقترن اسمك بالنجاح والعطاء المتراكم والإحترام دون أن تكون من الكبار، ومن الصعب أن تقدم العمل المرتوي بالشغف والموهبة المتجددة والفكر المستقل والغير محسوب على أي طرف كما اعتدنا في بلادنا دون أن تكون من الكبار، ومن الصعب أن تكون مدفوعاً بحس وطني وانساني بحت في ما تقدم دون أن تكون من الكبار، لذلك قد تكون هذه السطور فرصةً للإحتفاء بهم وتقديرهم وشكرهم على صمودهم في زمننا الحالي، ولذلك هم في مكانهم لا يشبهون أحداً ولا أحد يشبههم فالكبار في الحياة قد تخطأهم العين لكن كبار النفوس لا يخطأهم القلب ولا تخطأهم الروح.