وكالات – كتابات :
يجتمع وزراء المالية حول العالم في “واشنطن”، تحت إشراف “صندوق النقد” و”البنك” الدوليين، لإيجاد حلول لأزمة الاقتصاد، فهل يمكن إنقاذ الموقف أم أن صراع القوى الكبرى سيظل سيد الموقف ؟
مجلة (فورين آفيرز) الأميركية؛ نشرت تحليلاً يرصد كيف أصبح مستقبل البشرية على المحك، حيث يواجه كل بلدٍ مجموعةً متداخلةً من الأزمات المتفاقمة، رغم أن هذه الدول لم تتأثر بالدرجة نفسها، ولا تمتلك جميع الدول الوسائل نفسها لتحمُّل هذه التحديات، ناهيك عن التغلب عليها.
فالدول الغنية رفعت أسعار الفائدة لمواجهة التضخم مؤخرًا، دون أن تُعاني من الركود العميق الذي كان يُقلق الكثيرين. وعلى الجانب المقابل، غرقت الدول منخفضة الدخل في الديون وصار معدل نموها المتوقع أقل بكثير مما ستحتاجه للتنمية المسّتدامة.
أزمة واحدة ولكن الفارق شاسع بين الأغنياء والفقراء..
ورغم كل التحذيرات والنداءات؛ لم يبذل “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” والمؤسسات الأخرى -وحملة أسّهمها الأثرياء – مجهودًا كافيًا للتغلب على غياب المسّاواة حتى الآن. ولا شك أن بعض أوجه معاناتهم مفهومة. إذ تأسست العديد من تلك المنظمات؛ في عام 1944، لتسّاعد في إعادة إعمار الدول بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تكن مصمّمةً لمواجهة عدة أزمات عالمية في وقتٍ واحد.
لكن الكثير من أوجه معاناتهم المعاصرة تأتي نتيجةً لخياراتهم السياسية. حيث أهملت الدول الغنية في الوفاء بالتزاماتها السابقة. بينما عّانى “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” من أجل صياغة الأدوات المناسبة لدعم الدول في الوقت الراهن، وهو وقت يعُمه الاحتياج الشديد.
ونتيجةً لذلك؛ لم تُعد تلك المؤسسات قادرةً على تأدية مهامها. مما أسّفر عن انهيار كبير ضرب الميثاق القائم منذ نحو 80 عامًا بين الدول الغنية، التي تعهّدت بدعم المؤسسات الدولية للارتقاء بالمُعرضين للخطر وبناء عالمٍ أكثر رخاءً واستقرارًا للجميع، وبين الدول الفقيرة التي استخدمت ذلك الدعم للاستثمار في مبادرات التنمية التي تُعّزز النمو الشامل وتدعم مواطنيها.
وستكون اجتماعات؛ الأسبوع المقبل، هي الأولى في سلسلةٍ من الجلسات المتعددة التي سيشهدها العام الجاري، وستُتيح الفرصة أمام الدول لاستعادة ذلك الميثاق، لكن من الطبيعي أن يُشكك المليارات حول العالم في إمكانية تحقيق أي شيء، كما أن أجندة الاجتماع لا تُبشر بالكثير من التفاؤل حتى الآن.
وأصبح “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي”، وحّملة أسّهمهما وقياداتهما، في مواجهة الخيار التالي: فإما أن يُعّززوا تضامنهم حول التحديات المشتركة، أو يستمروا في زيادة تقويض الثقة التي دعمت تعددية الأطراف لعقود – والتي ستكون ضروريةً من أجل عيش حياة أكثر رخاءً، وعدلاً، وسلامًا في القرن الـ (21). لكن السؤال المهم في تلك الاجتماعات هو: هل يؤمن هؤلاء بأن مصيرنا واحد فعليًا ؟
هل آن أوان مساعدة الفقراء ؟
تأسست منظومة تمويل التنمية استجابةً للحروب العالمية في القرن العشرين. حيث اجتمعت عشرات الدول بالقرب من “بريتون وودز”؛ عام 1944، وذلك بغرض جعل عالم ما بعد الحرب مزدهرًا ومستقرًا بما يكفي لتفادي كارثة عالمية جديدة. فاستقروا على تأسيس “البنك الدولي”، و”صندوق النقد الدولي”، وغيرهما من المؤسسات بغرض مسّاعدة الدول في جهود البناء وإعادة الإعمار، وتحمُّل الصدمات الاقتصادية، وممارسة التجارة الحرة.
وساعدت المنظومة على دعم النمو طيلة عقود، مما أتاح انتعاشة “أوروبا” وصعود “آسيا”، وساعدت المليارات على الخروج من مسّتنقع الفقر. لكن هذه المنظومة عانت كثيرًا في السنوات الأخيرة. ولا تتعلق المشكلة بقلة التفاني من جانب المؤسسات، بل ترتبط المشكلة بصعوبات ناتجة عن طبيعة ونطاق الأزمات الحالية، التي أثرت على كل الدول في وقتٍ واحد وزعزعت مكتسّبات التقدم السابق في الكثير من الحالات؛ على حد ادعاءات المجلة الأميركية المضللة.
كما كانت المؤسسات مُكبلةً بسبب الطبقات المتراكمة من قواعدها وإجراءاتها التي عفا عليها الزمن. لهذا يُمكن القول إن تلك المؤسسات تُعاني من القصور برغم حُسّن النوايا والعمل الجيد (!).
وإذا تحدثنا عن أداء المؤسسات النقدية الدولية، وعلى رأسها “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”، أثناء فترة جائحة (كوفيد-19)؛ على سبيل المثال، سنجد أن “صندوق النقد الدولي”، و”البنك الدولي”، وغيرهما قد اتخذت خطوات كبيرة للحيلولة دون انهيار الاقتصاد العالمي، لكن اتضح أن تلك الخطوات لم تكن كافية.
إذ إن محدودية الدعم الخارجي أجبرت الدول منخفضة الدخل على الاستجابة للأزمة بصورةٍ محدودة، ولم تُخصص سوى: 2% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي لتحفيز اقتصاداتها في المتوسط. بينما كانت الدول الغنية تُخصص: 24% من ناتجها المحلي الإجمالي في المتوسط. ويُعَدُّ هذا الفارق من الأسباب التي تُفسّر التوقعات بنمو الدول النامية بمعدل: 4% سنويًا في المتوسط حتى 2030، بعد أن كانت تنمو بمعدل: 6% سنويًا بين عامي: 2000 و2010.
وحتى معدل النمو المنخفض هذا لن يكون مضمونًا بأي حال من الأحوال، نظرًا لمسّتويات الديون المرتفعة. إذ كشف تحليل من “البنك الدولي” مثلاً أن حجم الديون العامة والخاصة قد تضاعف ثلاثة أضعاف على مدار العقد الماضي، وذلك لدى الدول المؤهلة لبرامج مساعدة التنمية.
ثم جاءت أزمة التغيّر المناخي لتُفاقم أزمات تلك الميزانيات العمومية، حيث كشف تحليل حديث من “البنك الدولي” أن الدول النامية تحتاج لتمويل سنوي يتراوح بين: 01 و02 تريليون دولار، ويجب أن تأتي غالبيتها في استثمارات لدعم المرونة المناخية والموارد، من أجل تعويض الأضرار الناجمة عن الطقس القاسي. لكن تلك الدول لا تحصل حاليًا إلا على جزءٍ بسيط للغاية من ذلك المبلغ.
وهذه هي الأسباب التي جعلت “صندوق النقد الدولي” يقلق حيال عملية: “تباعد كبير”، وجعلت “البنك الدولي” يتنبأ: بـ”عقدٍ ضائع”. ولا شك أن الحكم الأساس واضح بعيدًا عن البيانات والتوقعات، ألا وهو أن البشرية تواجه مجموعةً من أخطر الأزمات في تاريخها، لكن عدم كفاية الاستجابة تركت الدول وشعوبها رهينة مشاعر الوحدة المتفاقمة.
هل يوجد أمل في تفادي الانهيار الاقتصادي ؟
شهدت السنوات القليلة الماضية؛ تكوين إجماعٍ جديد، وينص هذا الإجماع على القناعة بأن أفضل آمال توسّيع الاستثمار والابتكار – اللازمين لمواجهة أزمات اليوم – تتمثل في إنعاش وتعّزيز منظومة تمويل التنمية. وقد وضعت مجموعة متنوعة وكبيرة من المسؤولين الحكوميين الحاليين والسابقين، والنشطاء، والجماعات المستضعفة، وجماعات الإغاثة، والمنظمات الخيرية والإنسانية، والباحثين عدة مقترحات وإصلاحات محددة لهذا الغرض.
وفي الصيف الماضي؛ اجتمعت قيادات المنظمات العامة والخاصة والخيرية معًا في “باربادوس”، وذلك لمناقشة إنعاش المنظومة بمشاركة نائبة الأمين العام للأمم المتحدة؛ “أمينة محمد”. وتم إطلاق مبادرة (بريدج تاون)؛ التي تسّعى لتعبئة وتعّزيز الدعم المُوجّه لأفكار بعينها. وفي الوقت ذاته، تعمل “مجموعة العشرين”؛ (G20)، و”مجموعة المعرضين العشرين”؛ (V20)، و”بنك التنمية الإفريقية” بشكلٍ نشط من أجل دفع بعض تلك المقترحات للأمام.
ويتمحور الإجماع الجديد حول القليل من المباديء الأساسية. فأولاً، تحتاج الدول إلى طرق جديدة لتخفيف معدلات الدين التي تفوق طاقتها والاستثمار في المستقبل، بدلاً من قضاء الوقت في تسّديد التزامات الماضي. وتعتمد إحدى الخطوات هنا على إصلاح: “إطار مجموعة العشرين المشترك لمعالجة الديون”، وهي الآلية المستخدمة في إعادة جدولة الديون وتخفيف أعباء الدين. كما يجب تمّديد وتحسّين: “مبادرة مجموعة العشرين لتعليق مدفوعات خدمة الدين”، من أجل تغطية مجموعةٍ أوسّع من الديون كديون القطاع الخاص.
ويجب على “صندوق النقد الدولي” أن يُمّدد الأفق الزمني الخاص باسّتدامة تحمُّل الديون لعقود، مما سيسمح للدول باقتراض المزيد اليوم والحصول على فترات سداد أطول، حتى تفي بالالتزامات الحالية والمستقبلية. كما يجب على الصندوق أن يؤكد على اختلاف أنواع الديون في ما بينها، عن طريق وضع معايير جديدة للتعامل مع ديون الاستثمار في مرونة المناخ باعتبارها من أشكال الانضباط المالي. مما سيُشجع تبني هذه الأنواع من استثمارات التكيف والتخفيف المفيدة للجميع.
وفي الوقت ذاته؛ تستطيع الدول فعل المزيد للمسّاعدة في منع أزمات السّيولة من التحول إلى أزمات ديون، وذلك بتحويل “حقوق السّحب الخاصة” من “صندوق النقد الدولي” إلى الدول المعرضة للخطر – التي تحتاج للسّيولة اليوم. كما يستطيع الصندوق رفع حدود الوصول إلى التسّهيلات المالية السّريعة، مع تعليق مؤقت للرسوم الإضافية على الفائدة الخاصة بأكبر المقترضين.
ويجب فعل ذلك خاصةً حين تكون هناك علامات واضحة تدل على الضغوط المالية الدولية، كما هو الحال اليوم. وقد تحرك “صندوق النقد الدولي” بشكلٍ عاجل لمساعدة “أوكرانيا” في ساعة محنتها، كما كان متوقعًا منه. لكن الدول الأخرى تسّتحق استجابةً عاجلةً بالقدر نفسه، نظرًا للتكاليف الإنسانية الفظيعة التي تتكبدها.
ويتمثل المبدأ الثاني في أن الدول تحتاج للوصول إلى قروض بأقل من أسعار السوق. ويجب أن تزيد بنوك التنمية متعددة الأطراف من حجم رأس المال المتاح للاقتصادات النامية، وأن تقدم أدوات اقتراض ذات آجال استحقاق تصل إلى 50 عامًا. كما يجب أن تزيد تركيزها على جذب استثمارات رؤوس الأموال الخاصة واستغلالها داخل الدول الأضعف التي تُعّاني.
وأخيرًا؛ يجب على القطاعات العامة والخاصة والخيرية أن تتعاون معًا لتوسّيع الوصول إلى السّلع العامة. إذ ستستمر الاكتشافات العلمية في إفادة البشرية. لكن ترك السوق الحرة دون رقيب سيؤدي لوصول تلك الاكتشافات المتقدمة إلى أيدي الأثرياء أولاً، ثم إلى الأشخاص الأكثر عرضةً للخطر لاحقًا – هذا إن وصلتهم من الأساس. ويمكن حل هذه المشكلة عبر المنصات العامة – الخاصة مثل (Gavi)، التي تسلم اللقاحات لجميع أنحاء العالم عن طريق جمع التبرعات من الحكومات، والجمعيات الخيرية، والمؤسسات لشراء وتوزيع التطعيمات على نطاقٍ واسع. وهناك مبادرات مماثلة يمكنها المساعدة في زيادة التقدم المُحرز بمجالات الزراعة، وغيرها من القطاعات عالية الأولوية.
ما المطلوب من “صندوق النقد” و”البنك” الدوليين ؟
لطالما كان الميثاق بين الدول الأغنى والدول منخفضة الدخل قائمًا على المصلحة المشتركة، التي تتمثل في العيش معًا داخل عالم مزدهر ومستقر وصحي. وتستطيع منظومة تمويل التنمية دعم هذا الهدف بعد تطويرها، وذلك عبر منح الدول منخفضة ومتوسطة الدخل الموارد التي تحتاجها لمواجهة الفقر وتغير المناخ.
لكن يخشى بعض المراقبين أن الإصلاحات ستُخاطر بمنح الأولوية للتكيف المناخي وتخفيف أضراره، بدلاً من القضاء على الفقر الذي يُعد الشغل الشاغل للدول الأفقر. لكن المفترض ألا يكون الحل هو الاختيار بينهما، إذ تستطيع المنظومة مكافحة كلتا المشكلتين في الوقت نفسه؛ من خلال الإصلاحات المناسبة؛ مما سيُفيد الجميع بتحويل العالم إلى مكانٍ أكثر رخاءً واستقرارًا، وأقدر على مواجهة تحدي المناخ.
بينما يُجادل آخرون بأن فرص الإصلاح ضعيفة نظرًا لتركيز العالم على حرب “أوكرانيا”، والتوترات المتزايدة بين القوى العالمية، والتقاعسّ الطويل عن التغيير من جانب بعض قادة المؤسسات.
لكن ما لم يُدرك الجميع أن القرن الـ (21) سيكون أقل رخاءً وأخطر على الجميع، وذلك في حال عدم بذل مختلف الأطراف لجهود أكبر، فالنتيجة كارثية بطبيعة الحال. وبهذا يُمكن القول إن ما سيحدث في اجتماعات “صندوق النقد” و”البنك” الدوليين سيكشف عن استعداد العالم – أو عزوفه – عن التصدي لأزمات اليوم، والتركيز على المكاسب طويلة الأجل بدلاً من الأرباح الفورية. وإذا غابت التحركات هذا العام، فمن المحتمل أن تكون الوعود التي بُنِيَ عليها النظام الاقتصادي العالمي قد ضاعت للأبد، لكن وضع الأجندة الصحيحة سيفتح الباب أمام استرداد وإنعاش النظام.