محمود البياتي سندباد السرد العراقي – هذا عنوان كتاب قام هيثم بهنام بردى باعداده وتقديمه , وهو عمل علمي نادر في زماننا الصعب , وقد صدر هذا الكتاب الفريد عام 2022 في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر , ويقع في 269 صفحة من القطع المتوسط . هو كتاب جميل ومدهش قبل كل شئ , بدءا من لوحة الغلاف لمحمود البياتي نفسه , والتي رسمها الشاعر الكبير والفنان التشكيلي العراقي يوسف الصايغ , واستطاع الصايغ ان يجسّد في بورتريت محمود البياتي ملائكية هذا ( السندباد !) كما أسماه هيثم بهنام بردى بدقّة متناهية . مقالتنا هذه ليست عرضا للكتاب , وليست قراءة في صفحاته , فكل ذلك يتطلب مقالات تفصيلية عديدة , مقالتنا هذه عرض للاندهاش من هذا العمل الفكري النبيل , واكرر صفة ( النبيل !!!) هذه , النبيل قلبا وقالبا و بكل معنى الكلمة , والذي قدمه لنا – مشكورا – هيثم بهنام بردى .
الاندهاش الاول يكمن في الخطة العلمية المتقنة جدا لهذا الكتاب , الخطة التي قام بها (معلّم!) يعرف صنعته واسرارها وشعابها , وكل ذلك واضح جدا حتى من النظرة الاولى للكتاب . الخطة العلمية الصحيحة هي السكة الحديدية , التي سوف يتهادى عليها القطار , ويصل الى هدفه بسهولة , وهي ( المفتاح !) , الذي يفتح ( القفل!) ويغلقة متى يشاء , (وقد تذكرت كم عانينا اثناء عملنا في الدراسات الجامعية العليا من طلبتنا , الذين كانوا يريدون منّا مواضيع اطاريحهم وخططها العلمية الكاملة !!!) . هيثم بهنام بردى اختار موضوعه , لانه أحبه , واطلع بشكل معمق على اولياته كافة , ووضع الخطة العلمية الممتازة لعمله نتيجة لكل ذلك , ولهذا , فقد استطاع – وبجدارة عالية – ان يرسم صورة قلمية متكاملة لابداع محمود البياتي وبكل أبعادها .
الاندهاش الثاني يكمن , في ان بهنام قدّم لنا اسم مبدع عراقي كبير , لكنه شبه مجهول لعموم القراء العراقيين , لانه عاش (… اثنين وعشرين سنة داخل العراق , واربعة عقود وثلاثة اعوام خارج العراق….وان قريحته الابداعية نمت في تربة بعيدة عن العراق …) اي ان ( …جهل المتلقي العراقي في الداخل بهذا الرمز الابداعي العراقي لا يتحمله الطرفان ….)
الاندهاش الثالث – هو الاختيار الذكي والدقيق للنصوص الابداعية , التي كتبها محمود البياتي , ولنقرأ معا هذا المقطع ليس الا –
غافلتني ذات مرة وسبحت بعيدا عن الشاطئ , غابت عن مدى البصر , انتظرتها ساعتين ولم تعد , انتظرتها يومين , سنتين , لم تعد , لا أعرف كم بالضبط انتظرتها , ولما يئست أيقظني كابوس مفزع , رأيتها ترقد مهشمة الى جانبي على الفراش . آ , ماذا حدث ؟! , احتضنت كومة أحجار باردة وانتحبت , ماذا اقترفت خديجة ؟ سقطت من علو شاهق ؟ أم ضربتها مطرقة مجنون ؟ بذلت محاولات مضنية لترميمها بالعسل والدموع , أعطيتها دفقات من روحي , صرخت بالناس الذين تجمعوا – لم أقتلها , هي سقطت , قلت لهم ساعدوني , لعلها تاهت في الغابة او خطفها لصوص …
وها أنا أنتظر مبتهلا الى الله ان يتغمدني برحمته , قد تحملها اليّ موجة أو قارب صيادين , قد يرشدها الى بيتي درويش … لن أصنع اخرى , لقد تعبت , سألهو بالرمال وأنتظر .
بعد هذا المقطع , لم اتعجب , لأن طلال عبد الرحمن كتب مقالة بعنوان ( كافكا يلهم محمود البياتي ….) , ولم أتعجب ايضا , لأن علي عبد الامير كتب مقالة بعنوان ( رحيل كافكا العراقي محمود البياتي مسموما بذكرياته ) , والمقطع وكتابات الباحثين الاثنين ثبّتها هبثم بهنام بردى في كتابه هذا .
تصفيق حاد لهيثم بهنام بردى , لأنه قدّم اضافة جديدة نوعيا الى المكتبة العربية , رغم انه يشير , الى انه ليس ناقدا أدبيا , وان كتابه هذا هو (… رصد وأرشفة وتبويب وقراءة تاريخية لهذا الجنس السردي الجديد في العراق …) , ونحن نقول له , تعليقا على قوله , ان ذلك هو التطبيق العملي للتعبير العربي الخالد – ( تواضع العلماء!) .
الذكرى العطرة للمبدع العراقي محمود البياتي , الذي يرقد في شغاف قلوبنا , رغم ان جثمانه الطاهر يرقد في مقبرة لندن , بعيدا جدا عن .. لوذ الحمائم ( العراقية) بين الماء (والدمع) والطين…