خاص : بقلم – جودت محمود جودت :
لنبدأ بحثنا بافتراض هذا المثال البسيط: لنفترض معًا أن سعر أحد الأدوية الضرورية لمرضى القلب قد ارتفع إلى الضعف، وذلك من دون أن يُرافق هذا الارتفاع في سعره ارتفاع مماثل في مداخيل متلقيه من المرضى، ما الذى سنشهده في هذه الحالة ؟ في هذه الحالة سنشهد نقصًا في الطلب على هذا الدواء قد يدفع بمنتّجيه إلى تخفيض سعره وإعادته إلى السعر الأول، أو حتى قد يدفع بهم إلى تخفيضه دون هذا السعر الأول إذا ظهرت صعوبات تسّويقية خاصة نشأت عن هذا الإرباك الذي أحدثته هذه الزيادة ولم تكن في الحسّبان. هذا مفهوم إذًا وجلي على نحوٍ واضح، ولكن ماذا لو أشترى بعض الناس هذا الدواء لمحتاجيه على سبيل التبرع لهم والإحسّان إليهم، هل يضطر منتجو هذا الدواء إلى تخفيض سعره في هذه الحالة والعودة به إلى السعر الأول ؟ هنا تحديدًا تكمن كامل القضية التي نحن بصدد تناولها، فطالما هناك من يدفع ثمن الدواء بعد زيادة سعره، فلن ينزل هذا السعر مرة أخرى ليعود إلى ما كان عليه في السابق قبل الزيادة، فالطلب على الدواء لا يزال على حاله لم ينخفض طالما هناك من أشترى لهؤلاء المرضى ما عجزوا عن شرائه لتدني قواهم الشرائية، بل وأكثر حتى فقد يتخطى سعر الدواء هذه الزيادة الأولى ليبلغ زيادة أخرى جديدة طالما وجد من يدفع له هذه الزيادات ويؤديها.
في واقع الأمر، لا تبدو لنا التبرعات التي يجرى تبنّيها كنهج مسّتدام لتعويض ضحايا الفقر والاستغلال بصورة جزئية على أنها آلية لمواجهة الاستغلال والتصدي له كما يحلو للبعض أن يراها ويُسّميها، بل تبدو لنا على العكس من ذلك كآلية لإدامة الاستغلال والإبقاء عليه، آلية تعمل لصالح الاستغلال لا ضده وذلك على مسّتويين رئيسيين: الأول يتعلق بتسّويق سّلعه وخدماته بالأسعار المرتفعة التي عينها لها. والثاني يتصل بتخفيف حدة الاحتقان والتزمر التي قد تنشأ وتنّجم عن تقرير هذه الزيادة والعمل بها.
إن ما يعني مُنتِج السّلعة والخدمة في الأخير إنما هو تصريف منتوجه لا غير، وهو لذلك لا يولي أي أهمية خاصة لهذا الطرف أو ذاك الذى آلت إليه ملكية سّلعته، فسواء استهلكها مشتريها بشخصه أم وهبها لغيره من دون مقابل لا يُغيّر من الأمر شيئًا بالنسبة إليه طالما هو قد قبض ثمنها وحول بذلك قيمته المتشّيئة تلك من صورتها العينّية السّلعية إلى الصورة النقدية التي تمكنه من استخلاص ربحه منها بعد طرح تكاليفه ومصروفاته، ومن ثم القدرة على تجديد إنتاجه مرة أخرى لدورات جديدة.
يحق لنا إذًا أن نرى في التبرعات وفق السّياق المطروح أعلاه؛ حيلة تسّويقية واعية ليس إلا يلجأ إليها المنتجون الاحتكاريون لتصريف منتوجهم بالسعر الذى يريدون من دون الاضطرار إلى تخفيض سعره كنتيجة متأتية عن تلك الزيادة التي أقروها والتي تسّتتبع بدورها هبوطًا في الطلب على هذا المنتوج قد يرغمهم على العودة عن هذه الزيادة. ويحق لنا أيضًا أن نستخلص نتيجة مؤداها أن التصدى لواقع الاستغلال لا يكون بجمع التبرعات لصالح المتضررين بغية تعويضهم جزئيًا عما أصابهم من ضرر من جراء هذا الاستغلال، فمسّلك كهذا لن يؤدى، كما سبق وأشرت، سوى إلى إثراء الاستغلال وإدامته طالما لم تتأثر مبيعاته وبقيت على حالها، بل هو يكون، أي التصدي للاستغلال، بالقضاء على الاستغلال ذاته وتجفيف منابعه للحيلولة دون وقوع ضحايا جُدّد وتجديد إنتاج الاستغلال نفسه.
إن غاية هذا المقال ليست فى الصّد عن فعل الخير أو ذم تلك الجهود الفردية حسّنة النية وتبكيتها على ما تقوم به من محاولات فى سبيل جعل حياة الآخرين أفضل، لا ليست هذه هي الغاية المتوخاة من وراء هذا المقال، ولكن الغاية التي نرمي إليها إنما هي التعريف بواقع حركة المشهد الكلية، بواقع أن التبرع وحده منفردًا وبمعزل عن خوض نضال جدي فى مواجهة الاستغلال الذي يولد الحاجة إليه لن يفعل سوى الإبقاء على الاستغلال الذي ندعي مواجهته بواسطة هذه التبرعات. وعليه يتحتم علينا ولا مناص، إن أردنا حقًا مواجهة الاستغلال والقضاء عليه، أن نُعين بموضوعية وتجرد ذلك الأثر الذى يتولد عن تلك التبرعات وغيرها من الأعمال الخيرية حين نكتفي بها وحدها من دون السعي وراء اجتثاث الظرف الذى ولدها نفسه، وإلا فنحن نديم عملاً هذا الاستغلال ونبقيه بل ونثريه كذلك حين نوفر له الأموال التي طلبها ونقدمها له.