24 نوفمبر، 2024 9:28 م
Search
Close this search box.

كيف تُبقي التبرعات على منظومة الاستغلال وتُديمّها ؟

كيف تُبقي التبرعات على منظومة الاستغلال وتُديمّها ؟

خاص : بقلم – جودت محمود جودت :

لنبدأ بحثنا بافتراض هذا المثال البسيط: لنفترض معًا أن سعر أحد الأدوية الضرورية لمرضى القلب قد ارتفع إلى الضعف، وذلك من ‏دون أن يُرافق هذا الارتفاع في سعره ارتفاع مماثل في مداخيل متلقيه من المرضى، ما الذى سنشهده في هذه الحالة ؟ في هذه الحالة سنشهد ‏نقصًا في الطلب على هذا الدواء قد يدفع بمنتّجيه إلى تخفيض سعره وإعادته إلى السعر الأول، أو حتى قد يدفع بهم إلى تخفيضه دون ‏هذا السعر الأول إذا ظهرت صعوبات تسّويقية خاصة نشأت عن هذا الإرباك الذي أحدثته هذه الزيادة ولم تكن في الحسّبان. هذا مفهوم ‏إذًا وجلي على نحوٍ واضح، ولكن ماذا لو أشترى بعض الناس هذا الدواء لمحتاجيه على سبيل التبرع لهم والإحسّان إليهم، هل يضطر ‏منتجو هذا الدواء إلى تخفيض سعره في هذه الحالة والعودة به إلى السعر الأول ؟ هنا تحديدًا تكمن كامل القضية التي نحن بصدد ‏تناولها، فطالما هناك من يدفع ثمن الدواء بعد زيادة سعره، فلن ينزل هذا السعر مرة أخرى ليعود إلى ما كان عليه في السابق قبل ‏الزيادة، فالطلب على الدواء لا يزال على حاله لم ينخفض طالما هناك من أشترى لهؤلاء المرضى ما عجزوا عن شرائه لتدني قواهم ‏الشرائية، بل وأكثر حتى فقد يتخطى سعر الدواء هذه الزيادة الأولى ليبلغ زيادة أخرى جديدة طالما وجد من يدفع له هذه الزيادات ‏ويؤديها.‏

في واقع الأمر، لا تبدو لنا التبرعات التي يجرى تبنّيها كنهج مسّتدام لتعويض ضحايا الفقر والاستغلال بصورة جزئية على أنها آلية لمواجهة ‏الاستغلال والتصدي له كما يحلو للبعض أن يراها ويُسّميها، بل تبدو لنا على العكس من ذلك كآلية لإدامة الاستغلال والإبقاء عليه، آلية ‏تعمل لصالح الاستغلال لا ضده وذلك على مسّتويين رئيسيين: الأول يتعلق بتسّويق سّلعه وخدماته بالأسعار المرتفعة التي عينها لها. ‏والثاني يتصل بتخفيف حدة الاحتقان والتزمر التي قد تنشأ وتنّجم عن تقرير هذه الزيادة والعمل بها.‏

إن ما يعني مُنتِج السّلعة والخدمة في الأخير إنما هو تصريف منتوجه لا غير، وهو لذلك لا يولي أي أهمية خاصة لهذا الطرف أو ذاك ‏الذى آلت إليه ملكية سّلعته، فسواء استهلكها مشتريها بشخصه أم وهبها لغيره من دون مقابل لا يُغيّر من الأمر شيئًا بالنسبة إليه طالما ‏هو قد قبض ثمنها وحول بذلك قيمته المتشّيئة تلك من صورتها العينّية السّلعية إلى الصورة النقدية التي تمكنه من استخلاص ربحه ‏منها بعد طرح تكاليفه ومصروفاته، ومن ثم القدرة على تجديد إنتاجه مرة أخرى لدورات جديدة.‏

يحق لنا إذًا أن نرى في التبرعات وفق السّياق المطروح أعلاه؛ حيلة تسّويقية واعية ليس إلا يلجأ إليها المنتجون الاحتكاريون ‏لتصريف منتوجهم بالسعر الذى يريدون من دون الاضطرار إلى تخفيض سعره كنتيجة متأتية عن تلك الزيادة التي أقروها والتي ‏تسّتتبع بدورها هبوطًا في الطلب على هذا المنتوج قد يرغمهم على العودة عن هذه الزيادة. ويحق لنا أيضًا أن نستخلص نتيجة مؤداها ‏أن التصدى لواقع الاستغلال لا يكون بجمع التبرعات لصالح المتضررين بغية تعويضهم جزئيًا عما أصابهم من ضرر من جراء هذا ‏الاستغلال، فمسّلك كهذا لن يؤدى، كما سبق وأشرت، سوى إلى إثراء الاستغلال وإدامته طالما لم تتأثر مبيعاته وبقيت على حالها، بل ‏هو يكون، أي التصدي للاستغلال، بالقضاء على الاستغلال ذاته وتجفيف منابعه للحيلولة دون وقوع ضحايا جُدّد وتجديد إنتاج ‏الاستغلال نفسه.‏

إن غاية هذا المقال ليست فى الصّد عن فعل الخير أو ذم تلك الجهود الفردية حسّنة النية وتبكيتها على ما تقوم به من محاولات فى سبيل ‏جعل حياة الآخرين أفضل، لا ليست هذه هي الغاية المتوخاة من وراء هذا المقال، ولكن الغاية التي نرمي إليها إنما هي التعريف بواقع ‏حركة المشهد الكلية، بواقع أن التبرع وحده منفردًا وبمعزل عن خوض نضال جدي فى مواجهة الاستغلال الذي يولد الحاجة إليه لن ‏يفعل سوى الإبقاء على الاستغلال الذي ندعي مواجهته بواسطة هذه التبرعات. وعليه يتحتم علينا ولا مناص، إن أردنا حقًا مواجهة ‏الاستغلال والقضاء عليه، أن نُعين بموضوعية وتجرد ذلك الأثر الذى يتولد عن تلك التبرعات وغيرها من الأعمال الخيرية حين نكتفي ‏بها وحدها من دون السعي وراء اجتثاث الظرف الذى ولدها نفسه، وإلا فنحن نديم عملاً هذا الاستغلال ونبقيه بل ونثريه كذلك حين ‏نوفر له الأموال التي طلبها ونقدمها له.‏

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة