18 ديسمبر، 2024 4:54 م

جحيم الأيام / الحلقة التاسعة

جحيم الأيام / الحلقة التاسعة

” الأن سأطبخُ لك ولي طعاما شهياً.”. نظر اليّ بعينين واهنتين وقال بصوت ضعيف:
…” تجد قطعة الخبز و ملعقتين من الرز هناك”. دون أن أجيبه وضعت حصتي وحصته من الخبز والرز في الماء داخل العلبة المعدنية الصغيرة وأشعلت الحذاء بصعوبة وفاحت منه رائحةٌ كريهةٌ وتسأل بعض الزملاء عن مصدر تلك الرائحة غير الطبيعية إلا أنني لم أهتم لأقوالهم وتساؤلاتهم فقد كنت فرحا أنفخ النار بأعلى قوة صادرة من أنفاسي. شعرت بحرقةٍ لاتطاق في عينيَّ بسبب الدخان المتصاعد. لم يكن هناك غطاء للعلبة المعدنية ولم يكن هناك ضوءأً كافيا للنظر إلى الطبقة العليا من الطعام. حينما أطفأت بقية النار الملتهبة وحملت المائدة الغنية جدا بالفيتامينات ووضعتها قرب صديقي المريض وقربت الفسفوسة كي نرى الطعام اللذيذ – عفوا ياسيدي يجب ان أحدثك عن الفسفوسه قبل أن أكمل حديثي. ” الفسفوسة هي قنينة زجاجية صغيرة وقد تم استخدامها لدواء السعال من قبل. وضعنا فيها النفط وقطعة من القماش فأصبحت مصباحا لكل المتواجدين في ذلك المكان ولا أدري من هو أول شخص أطلق عليها هذا الاسم؟حينما قربت الفسفوسة من العلبة الساخنة ونظرت إلى الطبقة العليا من الغذاء وجدته قد غُطيَ بطبقةٍ سوداء مخيفة. كانت النيران والدخان الناتجة عن إحتراق الحذاء العسكري الكبير قد شوهت تلك الوجبة تماما. في البداية قررت مع نفسي أن لا أتناول منها أي شيء لأنني اعتقدت أن تلك الطبقة السوداء ماهي إلا مواد سامة قد تحطم معدتي ومعدة صديقي، لكنني فكرت بصديقي المصاب بالإسهال الدموي الشديد . لقد فقد سوائل كثيرة وينبغي عليه تعويضها فوراً. وبسرعة متناهية رحتُ أزيل الطبقة السوداء بملعقتي القديمة. لم ينتبه أبو مريم لتلك الحركة فقد كان ينتظر مني الإشارة لدعوته للأكل. عندما قلت له ” تفضل” سحب جسده بصعوبةٍ بالغة وكأنهُ كان قد تم تقييده إلى الفراش بسلسله قوية. حينما تذوق الملعقة ألأولى قال بصوتٍ ضعيف:

…” إن طعمها غريب هذا اليوم”. حاولتُ أن أتظاهر أمامه بالأكل بصورة طبيعية كي لاتتقزز روحه ويفقد الشهية وعند الملعقة الثانية قال بصوت واهن:

…” هل صحيح أنك كنت تتناول طعام العشاء يوما ما في فندق الرشيد؟ أنا لم أسمع بهذا الاسم من قبل. ولا أعرف أين يقع هذا الفندق. كنت لا أذهب إلى بغداد إلا عندما أنقل الطماطم في سيارتي البيك أب. ”

كان إستفساره عن ذلك الشيء قد عصر قلبي بقبضة فولاذية وكدتُ أتقيأ اللقمة التي كنت امضغها بصعوبة. أعادت كلماته لذاكرتي ذكريات بعيدة منسية أكل الدهر عليها وشرب وراحت تختفي في أفق روحي المعذبة كأنها سحب دخان لأحد المصانع الكبيرة عند حدود العاصمة. لم أنطق بحرفٍ واحد. شعرت بصراع عنيف داخل نفسي الحائرة. حلاوة الذكريات الشفافة الذهبية وجحيم الأيام المرة التي أكتوي بسعيرها في ذلك المكان الخالي من أبسط القواعد الإنسانية. عندها طفقتُ أحدثُ ذاتي دون أن أُخرجُ صوتاً” لماذا يعذب الإنسان أخيه الإنسان بهذه الطريقة الوحشية؟ لقد خلق الخالق سبحانه وتعالى هذا الكائن العظيم وفضله على كافة مخلوقاته ولكن لماذا يعيش الإنسان في هذا المكان بطريقةٍ لا تعيشها حتى المخلوقات الحيوانية القذرة؟ ما الذي جاء بنا إلى هذا المكان؟ هل هو القدر المحتوم الذي كتبه الله عزوجل على جباهنا منذ ولادتنا أم أنه الخطأ الفادح الذي ارتكبته حينما قررت الألتحاق إلى وحدتي العسكرية بعد قدومي من صحراء الكويت؟. مجرد هلوسة ذاتية لم يعد لها وجود في عالم الواقع الرهيب. ولغرض المجاملة حدثته بصورة سريعة عن الفندق وكيف كنت أذهب إليه مع الوفود الصحفية وكيف كانت الدائرة تدفع نفقات كل شيء .

استمرت الأيام في كرند كئيبة حزينة صعبة جدأ . بعدها بدأت مرحلة جديدة لم أر لها سابقة من قبل فقد بدأ رجال الدين يزوروننا في معسكرنا بشكل مركز ويلقون علينا محاضرات دينية مختلفة وشن رجال الدين حملات كبيرة جدا لشتم الحكومة المركزية وبالذات لعن وشتم صدام. كانوا ينعتونه بالكافر والمجرم وغيرها من الألفاظ التي كانت غريبة على مسامعنا طيلة فترة وجودنا في العراق. الحقيقة ومن أجل أن أكون صادقا في إعترافاتي كنا نتضايق من تلك الأساليب والسبب في ذلك طبيعي جداً فقد عشت طيلة فترة طفولتي وصباي وشبابي لا أسمع سوى كلمات الاحترام والتبجيل لشخصية القائد الضرورة كما كان يطلق عليه في ذلك الوقت. كان ذلك صراعاً جديداً لنا ..اختلطت علينا ألأوراق . هل كان القائد الضرورة ” ضرورة حقا” أم كان مجرد شخص كباقِ الأشخاص؟ هل هو الذي قاد البلاد إلى هذا الدمار أم أن القدر هو الذي فعل فعلته؟ازدادت الشائعات في تلك الفترة العصيبة في كرند من أننا سوف نعود إلى الوطن. كلما سمعنا اشاعة كانت معنوياتنا ترتفع ونحلق في سماء الأحلام بالعودة السريعة. وبرهنت التجربة أنهم كانوا يكذبون علينا حول عودتنا. وجاء يوم صعب لم نحسب له حساب. وزعوا علينا طعام الغداء كالعادة من خلال السيارة. لم يتقدم أحد من الأسرى العراقيين كعادتهم كل يوم. نظرت من خلال نافذة الغرفة التي أسكنها مع زملائي.شاهدت ثلاثة ” قدور” كبيرة مرمية في الساحة الوسطية للمعسكر تحت حرارة الشمس. كان الإضراب قد تم التخطيط له قبل يوم. بقيت القدور تنتظر من يأتيها كي يفرغها كما كان يحدث ذلك كل يوم. وظل الجنود الأسرى في غرفهم دون أن يتقدم أحد خطوة واحدة رغم الجوع الشديد الذي كان يعصف البطون الخاوية. من بعيد أرسلت نظراتي نحو تلك الخزانات الممتلئه بالرز الحار وتخيلت نفسي طيراً يطير في الفضاء وينقض على تلك القدور ٍ سال لعابي لتلك الخيلات الوهمية المدمرة لروحي الفتية. هل صحيح أن الإنسان يتحول إلى وحش عندما يُمنع عنه الطعام فترة طويلة؟ إشتد الإضراب عن الطعام وصاح بعض الجائعين:

…” نريد طعاماً..سنموت.. لا نريد الإضراب عن الطعام..نريد البقاء على قيد الحياة.” إلا أن بعض الجنود الأسرى راحوا يصرخون :

…” من يأكل من ذلك الرز فهو ليس برجل. يجب أن ينظروا في قضيتنا. نريد العودة إلى بلدنا. نريد مسؤولاً نتحدثُ معه حول قضيتنا.” وجاء حجي إسكندر من الحرس الجمهوري الإسلامي. رجل عسكري لا يحمل رتبة عسكرية كباقِ العسكريين ولكنه يتميز بنفوذ واسع. ذو لحية طويلة سوداء. وراح يتحدث بصوت مرتفع يحاول من خلال نبرته أن يضفي طابعا من الشفقة والرحمة. الحقيقة أنا شخصياً وجدتُ فيه نوعا من الرحمة ولا أدري هل كان يمثل دور الشخص الرحيم العطوف علينا بسبب تأزم الوضع؟ أم أن الأوامر صدرت إليه أن يكون رحيما معنا؟ قال بصوتٍ عطوف:

…” من أجلي حاولوا أن تتناولوا طعامكم. سوف أنقل طلبكم إلى السلطات العليا. ليس بيدي شيء. أنا مجرد رجل عسكري مثلكم. يجب أن تأكلوا كي تحافظوا على صحتكم.” وبدأت دمدمات وهمسات بين مؤيد ومعارض. الجائعون يريدون أن يأكلوا لأنهم لم يعودوا قادرين على تحمل الجوع القاتل. والبعض الآخر يصر على عدم تناول الطعام. وبقيت أنا حائراً بين الأثنين وظل أبو مريم ينظر اليّ بعينين غائرتين . قرأت في عينيه تساؤلات لا عد لها ولا حصر. في النهاية قال أبو مريم” إسمع ..فليستمر الإضراب أو يفشل.هذا ليس من شأني. لديّ قطعة من الخبز الجاف فلنضعها في الماء و نسخنها في العلبة المعدنية ونضع عليها قليلاً من الملح وكمية كافية من الماء وسوف تصبح شوربة من الدرجة الأولى. سوف تساعدنا على المقاومة حتى الغد”. حل المساء وجاءت مجموعة من الرجال الذين يرتدون الملابس السوداء ..وراحوا ينادون على أسماء رؤساء الأفواج واحدا تلو ألأخر ويجرون معهم تحقيقاً مخيفاً.

شاهدت رئيس فوجنا وهو جندي كان معنا في صحراء الكويت أثناء إحتلال ذلك البلد وهو من أهالي محافظة ديالى وأسمه باسم. عاد بعد ساعة وهو يرتعش من شدة الخوف. فجأة راح يبكي بصوت يمزق نياط الأفئدة. كان يقول:

…” لقد ضربني ذلك المحقق الذي لا يعرف الرحمة. هو يدعي انه عراقي ولكن لا توجد في قلبه أدنى صفة للرحمة. لقد أخرج مسدسه من تحت قميصه وصوبه نحو صدري وهو يقول بأنه يستطيع الآن أن يطلق علي النار في هذا الظلام و يدفنني في هذه الأرض الصخرية دون أن يسأله أي أحد عن سبب فعلته” وراح يبكي كأنه طفل صغير. حاولنا تهدئته عدة مرات إلا أن كتفيه كانتا تهتزان بشكل متواصل علامة البكاء المستمر. إنتهت تلك الليلة العصيبة وانتهى الإضراب ووزعوا الرز في ساعة متأخرة من الليل وكان الطعام باردا وحاولت مضغه بنفس الطريقة اليومية بيد أنني لم أشعر بأي لذة عند تناوله. ونمت كما نام كل من في المعسكر بعد أن عانينا من الاضطراب والخوف الشيء الكثير.

كان يوم 20/8/1991م ليس يوما عاديا ًكباقي ألأيام. يومٌ له طابع خاص في حياة أسرى كرند على العموم. شيئا لم نألفه من قبل. دون سابق إنذار جاءت عدة سيارات كبيرة – باصات –. قفزت قلوبنا جميعا وأعتقدنا بأنهم سوف ينقلوننا الى بلدنا. تجمعنا تحت الشمس المحرقة..كل شخص يريد أن يقفز الى داخل السيارة قبل رفيقه. جاء المسؤول وراح ينظر الى وجوهنا الكالحة من شدة الحر والتراب والجوع والعطش، قال بصوت مرتفع:

…” سوف نأخذكم كل يوم الى الحمامات … حمامات السوق…هي حمامات نظيفة وتحتوي على ماء بارد وحار سيذهب فوج بعد فوج…أي بالتعاقب”. وتدافع الجنود الأسرى غير مصدقين ما يجري في ذلك اليوم الفريد في حياتنا جميعاً. وراح يصرخ بصوت مرتفع:

…” الفوج الأول فقط يتقدم”. وحينما امتلأت السيارات نادى على الأفواج الأخرى. لم أستقل سيارة منذُ خمسة شهور ولم أشاهد أي بشر من الناس سوى الجنود الأسرى طيلة تلك الشهور.دخلنا الحمام كل خمسه مع بعض. ووقفت لأول مره منذ خمسة شهور تحت الدوش الحار. يالهي كم أن الماء لذيذ!!!. كنا نتسابق للوقوف تحت الدوش كأننا مخلوقات شيطانية قادمة من كوكب أخر. نتخاصم لاختطاف الصابونة من بعضنا البعض..والبعض يدفع البعض ألأخر للوقوف أطول فترة ممكنة تحت الدوش. البعض يضحك بصوت مرتفع كأنه مجنون من الدرجة ألأولى. وانتهت الحفلة الجهنمية في لمح البصر.وركبنا السيارات مرة أخرى لنعود الى قبورنا و جحيمنا اليومي.كم كنت متشوقا لسيجارة واحدة..سيجارة واحدة فقط.. ولكن من أين لي أن أحصل عليها؟؟؟. لو قال لي شخص ما في تلك اللحظة” أعطيك سيكارة واحدة ألأن على أن تعيدها لي حينما تعود يوما ما الى بلدك..بعشرة أضعاف..أو لنقل مئة علبة لوافقت فورا.” . نظرت من خلال نافذة السيارة التي لاتزال واقفة. كانت أفواجاً من المارة من تلك المدينة الصغيرة تنظر إلينا..الناس لايعرفون من نكون؟ هل نحن سجناء؟ هل نحن مختطفين؟ هل نحن أسرى؟ ولولا الحياء والخوف من العقوبة القاسية لصرخت بأعلى صوتي” أيها الناس في هذه المدينة..نحن محتجزين بلا ذنب.. نحن نتضور جوعا.. الرحمة..نريد قطعة من الخبز أو قطعة من الخضراوات..أو سيجارة واحدة فقط..”.

راح الجنود المكلفين بحراستنا يدفعون الجماهير المتسائلة عن هويتنا أو من نكون؟ نمتُ تلك الليلة والى جواري أبا مريم ..كئيباً أفكر بذلك النهار وكيف إنتهى؟ رحت أستعيد استذكار جميع الصور التي التقطها ذهني منذ لحظة دخولي تلك المدينة الصغيرة وحماماتها وذلك الماء الحار المتدفق بلا إنقطاع. أه أيها الماء المتدفق كم أنت رائع! كم أنت عظيم! ثم إستذكرت ُ صوراً لأطفال كانوا يركضون خلف سياراتنا ونساء يحملن حقائب صغيرة ذات ألوان مختلفة ورجال يرتدون قمصاناً نظيفة وأحذية جلد. كل هذه الأشياء التافهة كانت بالنسبة لذهني وروحي أشياء عجيبة كأني لم أر مثلها طيلة حياتي. كانت تلك الليلة فريدة من نوعها فقد كان المعسكر من أقصاه الى أقصاه يعمه السكون والهدوء التام . كان جميع الأسرى المعذبون في الأرض يرقدون بحزن وفرح في نفس الوقت بسبب ذلك النشاط غير المتوقع . خمسة أشهر في الأسر بمثابة يوم واحد لأن جميع الأيام تمر واحدة متشابهة ليس لها لون أو طعم محدد. نسيتُ أن أذكر أنه في بداية الربيع جاءت ماكنة حراثة وراحت تحرث الأرض المحيطة بالغرف القذرة التي كنا نسكن فيها. بدأت الماكينة تهدر بصوتها المألوف وهي تشق ألأرض. كان المشهد بالنسبة لنا غريباً..ممتعاً..لم نر شيئا مثل هذه الماكنه منذ زمن بعيد. كان سائقها يرتدي الملابس الكردية. تجمعنا حوله ننظر إليه وهو يشق الأرض بماكنته. بعد يومين جاءت مجموعة من الرجال وراحت تبذر الأرض ببذور الحمص. فرحنا فرحاً عظيماً فقد هجمنا على تلك الحبوب بعد ذهاب الفلاحين. رحنا نلتقط تلك الحبوب ومضغها بصعوبة وكأننا بركان من الحشرات الهائجة. مسحنا تلك ألأرض وأصبح الإنسان يفتش تفتيشا دقيقا كي يجد له حبة واحدة فقط. وانتقل الخبر إلى الفلاحين المساكين فجاءوا مسرعين فلم يجدوا حبة واحدة من تلك البذور.إستشاطوا غضبا وراحوا يسبون ويشتمون ويلعنون وعادوا من جديد يبذرون الأرض ووضعوا حراسا كي يحموا الأرض من الديدان البشرية. نجح الفلاحون الى حد ما في حماية أرضهم من الزحف البشري الجائع. كان بعض الأسرى يهجمون في جنح الليل ويسرقون قليلا من الحبات الظاهرة فوق سطح الأرض.سقطت الأمطار الغزيرة على تلك الحبات وتدفقت الأرض خضراء بعد مدة من الزمن وارتفعت سيقان الحمص. أخذتُ أنظر الى المحاصيل النباتية الخضراء وأنا أفكر مع نفسي وأقول” يا الهي..لقد مضت دورة حياة كاملة وأنا لا أزال في هذا المكان القذر” وجاء الحصاد وبدأت جموع الفلاحين تحصد نبات الحمص بعد أن أصبحت سيقانه صفراء كأنها سيقان الحنطة عند الحصاد. أرعبني منظر الحصاد فقد أحسستُ أن الزمن يمضي سريعاً وأنا هنا كأنني جماد لاأقوى على الحركة. حركة الحياة تؤدي دورتها الطبيعية في حين أن دورة حياتنا معطلة عن الدوران. الحياة في كرند رتيبة وقاسية جدا. يحس الإنسان أن المساحة الواسعة التي يُسمح لنا بالتجوال فيها تشهد قصصا عديدة كل يوم. كل مجموعة تحاول أن تجد لها مهربا للخلاص من الزمن الكئيب وتحاول أن تقضي على رتابة الحياة اليومية عن طريق ممارسة نوع خاص من النشاط. تجد مجموعة رياضية قد اختطت لها ساحة كرة قدم وراحت تلعب ليلاً ونهاراً كي تمضي الزمن الصعب ومجموعة أخرى راحت تقرأ القرآن بصورة مستمرة ومجموعة أخرى افترشت الأرض وصنعت لها سوقا تبيع فيه أي شيء يقع في يدها. أما المجموعة الأخيرة فقد صارت تسير كل ساعات النهار في حركة دؤوبة لا تتوقف إلا عند النوم. أما أنا فقد وجدت لي طريقة لقضاء الوقت ألا وهي قراءة القرآن في مكان خاص بي. عثرت على عدد من العواميد الحديدية النحيفه وصنعتُ لي …كبره…كما يقولون في اللهجة الدارجة حيث ثبتت العواميد بالقرب من مزرعة الحمص القريبة جدا من الغرفة التي أسكنها مع زملائي. غطيتُ تلك العواميد ببطانية كنت قد حصلت عليها بطريق الصدفة. كان المكان صغيراً بيد أنني شعرت براحة تامة وخصوصية مطلقه. كنت أستعير المصحف من الأخ نبيل المصري…هذا الشخص نبيل الأخلاق و يتمتع بأنسانية عالية لم أجد مثيلها في أي شخص عراقي هناك. أتمنى أن أصف ذلك الشخص بكل دقه ولكنني مهما حاولت فإنني أقف عاجزا أمام بنبله وصدقه وإخلاصه وأخلاقه العظيمة.هذا الشخص هو قصة كاملة بحد ذاتها. يشكل لوحده تاريخ طويل من العذاب الإنساني الحقيقي. جاء من مصر الى العراق طلبا للرزق مع شخص أخر أسمه صلاح وسكنا مدينة كركوك كعمال في أحد معامل البلوك وحينما اشتدت الأزمة واشتد القصف شعرا بالخوف وخطورة الموقف فجاءا الى السليمانية ومن هناك أجبرهم الأكراد على دخول البلد الذي نحن فيه مع خمسة آلاف رجل عسكري. كان نبيل من عائلة فقيرة ووالدته متوفية . هذا ما كان يخبرني به دئماً. متدين من الدرجة الأولى. كان قد جلب معه قرآن من مصر وظل يحتفظ به سنين طويلة. كنتُ أستعير القرآن منه وأجلس في عريشتي، أي الكبره وأقرأ ساعات طويله. ختمت القرآن عدة مرات، وعندما يتسلل الإنهاك الى جسدي يأتي ويجلس قربي ويبدأ هو بتلاوة القرآن. كان كريماً لدرجة لايمكن مقارنتها مع أي شخص عراقي هناك.

يتبع …..