خاص: قراءة- سماح عادل
يحكي الكتاب عن الأخلاق لدى الهنود في العصور القديمة، وعن عادة إحراق المتوفى والانتحار في الحالات الحرجة، وعن اختراع الهنود للعبة الشطرنج. وذلك في الحلقة التاسعة والستين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
أخلاق الهنود..
انتقل الكتاب إلى الحديث عن أخلاق الهنود في العصور القديمة: “وإنه لمن العسير أن تنفذ خلال هذه الظواهر الخارجية لتصف أخلاق الهنود، لأن كل شعب فيه خليط من فضائل ورذائل، وترى الزائرين يختارون من هذه ما يروقهم بحيث يؤيدون وجهة نظرهم أو يزينون روايتهم بما يمتع. يقول “الأب دبو”: “أظن أن أبشع رذائلهم هي الخيانة والخداع والغش. وهي صفات شائعة بين الهنود جميعاً. ويقيناً إنك لن تجد على الأرض شعباً يستخف بحلف اليمين أو شهادة الزور كما يستخفون. ويقول “وستر مارك”: “لقد قيل إن الكذب هو الرذيلة القومية عند الهنود”. ويقول ماكولي: “الهنود مخادعون متلونون” فالكذب إذا اقترف بنية حسنة كان مغتفر في رأي “مانو” وفي مواضعات الحياة العملية، فمثلاً إن كان قول الصدق سيؤدي إلى موت كاهن، فالكذب عندئذ له ما يبرره.
لكن “يوان شوانج” يروى لنا فيقول: “إنهم لا يعرفون الخدع ويرعون التزاماتهم التي أقسموا عليها. وهم لا يعتدون على ما ليس لهم متعمدين، ويتنازلون عن حقوقهم أكثر مما تقتضي العدالة”. ويقول “أبو الفضل” الذي لا يذهب بهواه من الهنود، يقول عن هنود القرن السادس عشر: “إنهم متدينون، محببون إلى النفوس، مرحون، محبون للعدل، زاهدون في الحياة، قادرون في التجارة، يدعون للصدق، ويعترفون بالجميل، ويتصفون بالوفاء الذي لا حد له”. ويقول عنهم “كير هاردي” الأمين: “إن أمانتهم مضرب الأمثال، فهم يقترضون ويقرضون، لا تلزمهم في ذلك إلا كلمة غير مكتوبة، ويكادون لا يعرفون عدم الوفاء للدين”.
ويقول قاض بريطاني في الهند: “لقد عرضت أمامي مئات القضايا التي كانت أملاك الفرد منهم وحريته وحياته متوقفة كلها على كذبة يقولها، ومع ذلك يأبى على نفسه الكذب”. فكيف لنا أن نوفق بين هذه الشهادات المتضاربة؟ يجوز أن يكون التوفيق بينها غاية في البساطة، وهو أن بعض الهنود أمين وبعضهم خائن.
وكذلك قل إن الهنود غاية في القسوة وغاية في الرقة في آن معاً؛ فلقد استحدثت اللغة الإنجليزية لفظة قصيرة قبيحة، استعارتها من تلك الجمعية السرية العجيبة، التي تكاد تكون طبقة اجتماعية، جمعية “الغادرين” التي ارتكبت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر آلاف الجرائم الشنيعة، وذلك كما قالوا بغية تقديم هؤلاء الضحايا قرابين للإلهة “كالي”، وأما الكلمة التي استحدثتها اللغة الإنجليزية لتدل على هؤلاء الغادرين فهي Jhugs وقد كتب عنهم “فنسنت سمث” بلغة ليست غربية عن عصرنا هذا، فقال:
“هذه العصابات توشك ألا تخشى أحدا، وتكاد تتمتع بحصانة تامة. فلها دائما حماة أقوياء، ولقد هبط الشعور الخلقي عند الناس هبوطا بحيث لا تشهد فيهم أثرا للجزع من هذه الجرائم المدبرة التي يقترفها هؤلاء “الغادرون”، وذلك أن هذه الفئة المجرمة قد انخرطت في مجرى أمور الحياة جزء منها لا يتجزأ وقبل أن يفتضح سر هذه الجمعية، كان يستحيل عادة أن تظفر بدليل يثبت الجريمة على هؤلاء الغادرين، حتى الذين اشتهروا منهم بين الناس”.
الجريمة..
وعن الجريمة في المجتمع الهندي فصل الكتاب: “ورغم ذلك فالجرائم في الهند قليلة نسبياً، وحوادث الاعتداء نادرة، فالعالم كله مجمع على أن الهنود من الوداعة بما أوشك أن يكون جبنا وضعفا فهم يجاوزون الحدود في التزلف وحسن الطوية، وقد طحنتهم رحى الغزو والحكومات المستبدة الأجنبية زمنا امتد وطال إلى حد أفقدهم القدرة على أن يكونوا من المقاتلين الأشداء، إلا إذا فهمنا القتال بمعنى احتمال الألم، عندئذ ترى لديهم من الشجاعة ما لا يشق لهم فيه غبار.
ولعل أبشع سيئاتهم عدم المبالاة والكسل، ولو أن هاتين الصفتين في أعين الهنود ليستا من السيئات، بل هما ضرورتان للمناخ ومواءمة أنفسهم لجو بلادهم، مثل حلاوة الطبع، التي تتصف بها الشعوب اللاتينية، والحمى الاقتصادية التي جن بها الأمريكيون؛ والهنود حساسون، عاطفيون، ذوو أهواء وأصحاب خيال؛ ولذلك تراهم أبرع في الفن والشعر منهم في الحكم والتنفيذ، فلئن وجدتهم يستغلون بعضهم بعضاً استغلالاً فيه من الشدة والعنف ما تلمسه في المستغلين بسواهم في أي بلد من بلاد العالم، فقد كانوا كذلك يتصفون بسخاء لا يقف عند حد، وهم أكرم أهل الأرض للضيف، إذا ما غضضت النظر عن الشعوب الهمجية الأولى، فحتى أعداؤهم لا يسعهم إلا الاعتراف بحسن مجاملتهم.
وهذا هو إنجليزي سمح الأخلاق يلخص لنا تجاربه الطويلة فيعزو للطبقات العليا من أهل كلكتا “آداب السلوك المهذبة ووضوح التفكير وكماله وشعور التسامح والتمسك بالمبدأ، مما يطبعهم بطابع السادة المهذبين في أي بلد من بلاد العالم””.
العبقرية الهندية..
وعن عبقرية الهنود يكمل الكتاب: “والعبقرية الهندية في عين الغريب عن البلاد تبدو حزينة سوداء، ولاشك في أن الهنود لم يصادفهم في الحياة كثير مما يبرر لهم المرح، وتشير محاورات بوذا إلى أنواع كثيرة مختلفة من اللعب، بينها لعبة شديدة الشبه جدا بلعبة الشطرنج.
الشطرنج من القدم بحيث ترى نصف الشعوب القديمة تدعيه لنفسها، لكن الرأي السائد بين الباحثين في منشأ هذه اللعبة هو أنها نشأت في الهند، ويقيناً أننا نجد هناك أقدم شبيه لها مما لا يحتمل الجدل (حوالي سنة 750 م)، وكلمة شطرنج بالإنجليزية chess جاءت اشتقاقا من الكلمة الفارسية شاه ومعناها ملك، وكلمة “كش الملك” بالإنجليزية Checkmate هي في الأصل “شاه مات” أي “مات الملك” ويسميه الفرس “شطرنج” ولقد أخذوا الكلمة واللعبة كليهما من الهند عن طريق العرب، وكانت اللعبة في الهند يطلق عليها اسم “شاطورنجا” ومعناها “الزوايا الأربع”- الفيلة والجياد والعربات الحربية والمشاة، وما يزال العرب يسمون القطعة التي هي بالإنجليزية “Bishop” بالفيل”.
أسطورة نشأة الشطرنج..
ويضيف الكتاب عن نشأة لعبة الشطرنج في الهند: “ويروى لنا الهنود أسطورة ممتعة يعللون بها نشأة اللعبة، فتقول هذه الأسطورة أنه في بداية القرن الخامس من التاريخ الميلادي، أساء ملك هندي إلى أعوانه المعجبين به من طبقتي البراهمة والكشاترية، وذلك بأن أهمل مشورتهم ناسيا أن حب الشعب له هو أرسخ دعامة لعرشه، فأخذ برهمي- يدعى سيسا- على نفسه أن يفتح عيني الملك الشاب باختراعه لعبة تكون فيها القطعة التي تمثل الملك- رغم سموها عما عداها في الجلال والقيمة ، كما هي الحال في حروب الشرق، إن تركت وحدها تكاد تتجرد من كل حول وقوة، ومن ثم جاءت لعبة الشطرنج.
ولقد أعجب الملك باللعبة إعجابا دعاه إلى أن يطلب إلى سيسا أن يحدد لنفسه ما شاء من جزاء، فطلب سيسا في تواضع حفنة من أرز، وإنما يحدد مقدارها بأن توضع حبة واحدة من الأرز في المربع الأول من مربعات رقعة الشطرنج، وعددها أربعة وستون، ثم يضاعف في كل مربع لاحق عدد حبات الأرز في المربع السابق، فوافق الملك من فوره، لكنه سرعان ما دهش إذ رأى أن وعده ذاك يقتضي أن يدفع كل ما في ملكه، فانتهز “سيسا” هذه الفرصة السانحة، وأشار إلى مولاه كيف يمكن الملك أن يضل عن جادة السبيل إذا ازدرى رأي مستشاريه، لكن لا هذه الألعاب التي أعقبتها تدل على فرح ومرح كاللذين تراهما في ألعاب الغربيين”.
لعبة “البولو”..
ويكمل عن الألعاب مع ما يلاحظ من انحياز في رأي مؤلفي الكتاب عن كآبة الهنود: “وأدخل “أكبر” لعبة “البولو” في الهند في القرن السادس عشر، التي جاءت على الأرجح من بلاد فارس ثم شقت طريقها عبر التبت إلى الصين واليابان وكان يمتعه أن يلعب بلعبة “باشيسي” وهي التي تسمى اليوم بارشيسي، في مربعات تحفر في أرض فناء القصر في “أجرا” وكان يتخذ اللعبة قطعا حية من الإماء الجميلات”.
الأعياد الدينية..
وعن الأعياد الدينية يواصل الكتاب: “كانت الأعياد الدينية الكثيرة تخلع لونا زاهيا على حياة الشعب، وأعظم هذه الأعياد “دورجا- بوجا” الذي يقام تكريما للإلهة الكبرى أم الإلهات “كالي”، فيأخذ الهنود في الاحتفال والغناء عدة أسابيع قبل قدوم ذلك العيد؛ ثم يأتي يوم الحفل العظيم، فيسير موكب تحمل فيه كل أسرة تمثالا للإلهة، ويتجه صوب الكنج حيث يلقون في النهر بتلك التماثيل الصغيرة، ثم يعود الجميع إلى ديارهم ليس على وجوههم شيء من علائم المسرح السابق.
وأما الاحتفال “المقدس” الذي كانوا يقيمونه تكريما للإلهة “فاسانتي” فقد كان يصطبغ بشيء من المجون، إذ يحملون، وهم مشاة في صف، رموزا للعلاقة الجنسية يهزونها هزات تمثل حركات العملية الجنسية وكان وقت الحصاد في “شوتاناجبور” إيذانا بإباحية خلقية “حيث يطّرح الرجال جانبا كل أوضاع التقاليد، ويخلع النساء عن أنفسهن كل حياء، ويترك للفتيات الحبل على الغارب يفعلن ما شئن بغير قيود”.
وهناك قبيلة تدعى “بارجاني”، وهي طبقة من الفلاحين تسكن تلال “راج محل”، تقيم احتفالا زراعيا كل عام، يباح فيه لغير المتزوجات أن ينغمسن في علاقات جنسية حرة من كل ضابط أو نظام.
ولاشك أن في هذه الحفلات آثارا من السحر الزراعي القديم، الذي كان مراده أن يزيد الأسر والحقول خصوبة؛ وأما حفلات الزواج التي تتمثل فيها أكبر حادثة في حياة الهندي، فقد كانت أكثر احتشاما؛ وكم من أب جلب على نفسه الخراب في إعداد وليمة فاخرة بمناسبة زواج ابنته أو ابنه”.
الاحتفال بإحراق الميت..
وعن إحراق الميت يحكي الكتاب: “وفي ختام الحياة يقام حفل ختامي، هو الاحتفال بإحراق جثمان الميت، فقد كانت الطريقة المألوفة في أيام بوذا هي الطريقة الزرادشتية في تعريض الجثة لسباع الطير، إلا إن كان الميت علما من الأعلام البارزين، فعندئذ تحرق جثته بعد موته، على كومة من الحطب، ثم يدفن رماده في ضريح يحفظ ذكراه لكن هذه الطريقة في إحراق الجثة عمت الناس جميعا فيما بعد، حتى لترى كل ليلة حطبا يجمع ويكوم لإحراق الموتى.
وفي عصر “يوان شوانج” لم يكن من الحوادث النادرة أن يقبل الكهول المتقدمون في السن على الموت راضين، فيطلبوا إلى أبنائهم أن يسبحوا بهم في زورق على نهر الكنج إلى منتصفه حيث يقذفون بأنفسهم في نهر الخلاص، ومثل هذا الانتحار في ظروف معينة قد صادف في الشرق قبولا أكثر مما صادف في الغرب، فكان مباحا في عهد “أكبر” للكهول وللمرضى الذين لا رجاء في شفائهم، ولأولئك الذين ابتغوا تقديم أنفسهم قرباناً للإلهة.
وأن بين الهنود آلافاً كان آخر عبادتهم أن يجيعوا أنفسهم حتى الفناء، أو أن يدفنوا أنفسهم في الثلج، أو يهيلوا على أنفسهم روث البقر ثم يشعلوا فيه النار، أو أن يتركوا أنفسهم للتماسيح تلتهمهم عند مصب الكنج”.
انتحار..
وعن الانتحار يتابع الكتاب: “ولقد نشأ بين البراهمة نوع من “الهاراكيري” وهو اسم للانتحار عند اليابانيين يأتونه تخلصاً من عار، فينتحر المنتحر ليرد عن نفسه أذى أو يحتج على إهانة، وحدث أن فرض أحد ملوك راجبوت ضريبة على طبقة الكهنة، فطعن عدد كبير من أغنى البراهمة أنفسهم انتحارا بين يديه، وهم يستنزلون عليه لعنة هي في زعمهم أبشع اللعنات وأشدها أثراً- ألا وهي لعنة يستنزلها كاهن وهو يلفظ الأنفاس الأخيرة، وتنص كتب التشريع البرهمي على أن من أراد أن ينتزع روحه بيده، عليه صيام ثلاثة أيام، وأما من حاول الانتحار وفشل في إنجازه فعليه أن يؤدي أقسى ما عرفوه من كفارة وتوبة، إلا أن الحياة مسرح له مدخل واحد ومخارج عدة”.