خاص: قراءة- سماح عادل
يحكي الكتاب عن الأخلاق والزواج في الهند القديمة، وكيف أنهم كانوا يزوجون الأطفال أو يفضلون شراء الزوجة على الحب. كما تناول الكتاب البغاء المقدس وإحراق الأرملة وذلك في الحلقة السابعة والستين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الأخلاق والزواج..
يحكي الكتاب عن الأخلاق في ارتباطها بالزواج في المجتمع الهندي القديم: “إذا ما انقرض من الهند نظام الطبقات، تحتم أن يطرأ على الحياة الخلقية فيها طور طويل الأمد تسوده الفوضى، لأن التشريع الخلقي في هذه البلاد قد ارتبط بنظام الطبقات ارتباطاً يكاد لا يكون له انفصام، والأخلاق عندهم هي “ذارما”- أي أنها هي قواعد السلوك في الحياة لكل إنسان كما تحددها له طبقته؛ فلأن تكون هندوسي المذهب، فليس معنى ذلك اعتناقك لعقيدة بقدر ما هو اتخاذك مكاناً معيناً في نظام الطبقات، وقبولك “الذارما” أي الواجبات التي تترتب على مكانك ذاك، وفق ما تقضي به التقاليد والقوانين؛ ولكل مكان من ذلك النظام التزاماته وقيوده وحقوقه، ولا مندوحة للهندوسي الورع أن يسلك حياته ملتزماً تلك الالتزامات والقيود والحقوق، واجداً فيها قناعة الراضي بالطريق الذي مهد له لكي يسير فيه، ولا يطوف بباله قط أن يجاوز حدود طبقته إلى طبقة أخرى.
جاء في كتاب “بهاجافادجيتا”: “خير لك أن تؤدي عملك المقسوم لك أداء سيئاً من أن تؤدي عملاً مقسوماً لغيرك أداء حسناً”؛ إن “ذارما” للفرد من الناس هي بمثابة النمو الطبيعي للبذرة- تحقيق مرسوم الطريق لطبيعة كامنة فيها وقضاء مكتوب عليها، ولقد بلغ هذا التصور للأخلاق من الرسوخ في القدم مبلغاً جعل من المتعذر على الهندوس جميعاً ومن المستحيل على الكثرة الغالبة منهم أن ينظروا إلى أنفسهم نظرة لا تجعلهم أعضاء طبقة معينة، تهديهم وتقيدهم وقوانينها؛ وفي ذلك يقول مؤرخ إنجليزي: “يستحيل تصور المجتمع الهندي بغير نظام الطبقات””.
الأخلاق العامة..
ويواصل عن الأخلاق العامة: “وإلى جانب “ذارما” الخاصة بكل طبقة على حدة؛ نرى الهندوسيين يعترفون “بذارما” عامة، أي التزامات تلتزم بها جميع الطبقات، وتتضمن قبل كل شيء احتراماً للبراهمة وتقديساً للبقر؛ ويأتي بعد ذلك في الأهمية واجب النسل، ففي تشريع “مانو” ما يلي: “النسل وحده يكمل الرجل، فهو يكمل إذا ما أصبح ثلاثة- شخصه وزوجه وابنه”؛ فليس الأبناء حسنة اقتصادية لآبائهم فحسب، يعولونهم في شيخوختهم بغير أدنى تردد في هذا الواجب؛ بل هم إلى جانب ذلك سيمضون في عبادة الأسرة لأسلافها، ويقدمون لأرواح هؤلاء الأسلاف طعاماً آناً بعد آن، حتى لا تفنى أرواحهم إذا امتنع عنها الطعام، وبناء على ذلك لم يعرف الهنود ضبط النسل، وعد الإجهاض جريمة تساوي في فداحتها جريمة قتل برهمي، نعم كان يحدث أحيانا أن تقضي الأمهات على الأجنة، لكن ذلك كان نادر الوقوع، لأن الوالد كان يسره أن ينسل الأبناء، ويفخر إذا كان له منهم عدد كبير. وإن حنان الشيوخ على الصغار بين الهنود لمن أجمل ظواهر المدنية الهندية”.
الزواج..
وعن الزواج يتابع الكتاب: “ولم يكد الطفل عندهم يشهد النور حتى كان يأخذ أبواه في التفكير في زواجه، لأن الزواج- في النظام الهندي- إجباري للجميع، والرجل الأعزب طريد الطبقات، ليس له في المجتمع مكانه ولا اعتبار، وكذلك بالنسبة للفتاة إن طال بها الأمد عذراء بغير زواج، فذلك عار أي عار على أن الزواج لم يكن يترك لأهواء الفرد يختار من يشاء، أو لدفعة الحب تدفع العاشق إلى زواج من يهوى، بل كان الزواج عندهم أمراً حيوياً تهتم له الجماعة كلها والجنس كله، فيستحيل أن يوكل أمره إلى العاطفة بما لها من قصر بعواقب الأمور، أو إلى المصادفة تجمع من شاءت بمن شاءت، فلا بد أن يتولى الوالدان أمر زواج الوليد قبل أن تستولي عليه حمى الرغبة الجنسية فتقذف به إلى زواج مصيره في نظر الهنود- إلى خيبة الرجاء واليأس المرير: ولقد أطلق “مانو” اسم “زواج الجانذارفا” على الزيجات التي تتم باتفاق الزوجين، ووصف أمثال هؤلاء وصفاً شائناً إذ وصفهم بأنهم وليدو الشهوة؛ نعم إن التشريع يبيح مثل هذا الزواج، لكن الزوجين عندئذ يوشكان ألا يجدا عند الناس شيئاً من الاحترام.
ولقد أدى النضوج المبكر بين الهنود، الذي يجعل البنت في سن الثانية عشرة مساوية لزميلتها في أمريكا في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، إلى خلق مشكلة عويصة في النظام الاجتماعي والخلقي فهل الأفضل أن يدبر الزواج بحيث يطابق سن النضوج الجنسي، أم الأفضل أن يرجأ- كما في أمريكا- حتى يبلغ الرجل نضوجه الاقتصادي؟ والظاهر أن الحل الأول للمشكلة يؤدي إلى ضعف البنية في أبناء الأمة ويزيد من عدد السكان زيادة سريعة لا تتمشى مع مقتضيات الظروف، ويضحي بالمرأة تضحية تكاد تكون تامة في سبيل النسل؛ وأما الحل الثاني فيؤدي إلى مشكلة أخرى وهي التأخير الذي تأباه الطبيعة، وإلى كبح الرغبة الجنسية كبحاً يؤدي إلى حبوطها، كما يؤدي إلى الدعارة والأمراض السرية؛ ولقد آثر الهنود لأنفسهم زواج الأطفال على اعتبار أنه أهون الشرين، وحاولوا أن يخففوا من أخطاره بأن يجعلوا بين الزواج وبين إثماره فترة تبقى فيها العروس مع والديها حتى يتم نضجها.
هذا عندهم نظام اجتماعي قديم، ومن قدمه جاءت قداسته، وإنما نبتت جذوره بادئ ذي بدء في رغبة الناس في منع التزاوج بين الطبقات تزاوجاً قد تسببه مجرد الجاذبية الجنسية العابرة ثم ازداد في نفوس الناس قوة فيما بعد، بسبب أن المسلمين الغزاة، الذين لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً حتى لو لم يكونوا غزاة فاتحين، كانت ديانتهم لا تحرم عليهم أن يسبوا النساء المتزوجات ليكن لهم إماء؛ وأخيراً اتخذ النظام شكله الجامد الذي جعله تصميماً عند الأبوين على وقاية ابنتهما من استثارة الذكور لحساسيتها الجنسية”.
كامسوترا..
وعن الاهتمام بالحياة البيولوجية يضيف الكتاب: “والدليل على أن هذه الحساسية عند البنت كانت مرهفة إلى حد ما، وعلى أن الذكر قد يعهد إليه أداء وظيفته البيولوجية لأقل مثير يثير شهوته، ظاهر في أدب العشق عن الهنود؛ فكتاب “كاما سوترا” ومعناها “مذهب الشهوة” هو أشهر كتاب من بين مجموعة كبرى كلها تعبر عن اشتغال عقولهم إلى حد ملحوظ بفنون العلاقة الجنسية في صورتيها الجسدية والعقلية؛ ويؤكد لنا مؤلف الكتاب أنه كتبه “وفق المبادئ التي جاءت في الكتاب المقدس لفائدة العالم؛ وكاتبه هو فاتسيابانا، كتبه عندما كان يحيا حياة طالب ديني في بنارس، ولا يعينه شيء في الدنيا سوى التأمل في ذات الله” ويقول هذا الناسك: “إن من يهمل فتاة، ظناً منه أنها أكثر حياء من أن تكون موضع صلة جنسية، تزدريه هذه الفتاة نفسها وتعده حيواناً يجهل طبيعة ما يدور في عقل المرأة” ويصور لنا “فاتسيابانا” صورة جميلة لفتاة عاشقة لكنه يتجه بمعظم حكمته إلى تصوير فن الأبوين في التخلص منها بالزواج، وفن الزواج في إشباع رغبات جسدها.
ولا يجوز لنا أن نفرض بأن الحساسية الجنسية عند الهنود وقد انتهت بهم إلى إباحية أكثر من الحد المألوف عند غيرهم؛ فقد أقام زواج الأطفال سداً في وجه العلاقات الجنسية السابقة للزواج؛ والعقوبات الدينية الصارمة التي كانوا ينذرون بوقوعها ليحملوا الزوجة على الوفاء لزوجها، جعلت الزنا أصعب جداً وأندر جداً مما هو عليه في أوربا أو أمريكا؛ وكان الزنا في الأعم الأغلب مقصوراً على المعابد”.
البغاء المقدس..
وتكتشف أن الهند عرفت البغاء المقدس في معابدها: “ففي الأصقاع الجنوبية كانت رغبات الرجل الشهواني تشبعها له من كن يطلق عليهن “خادمات الله” طائعات في ذلك أوامر السماء، وما خادمات الله- أو “دفاداس” كما يسمونهن- إلا العاهرات؛ وفي كل معبد في “تامل” مجموعة من “النساء المقدسات” اللائي يستخدمن المعبد أول الأمر في الرقص والغناء أمام الأوثان، ثم من الجائز أن يستخدمن بعد ذلك في إمتاع الكهنة البراهمة؛ وبعض هؤلاء النسوة- فيما يظهر- قد قصرن حياتهن على عزلة المعابد وكهانها.
وبعضهن الآخر قد وسع من نطاق خدماته بحيث يشمل كل من يدفع أجراً لمتعته، على شريطة أن يدفعن لرجال الدين جزء من كسبهن عن هذا الطريق، وكان كثير من زانيات المعابد- أو فتيات الرقص- يقمن بالرقص والغناء في الحفلات العامة والاجتماعات الخاصة، على نحو ما يفعل فتيات “الجيشا” في اليابان؛ وكان بعضهن يتعلمن القراءة، فيكن وسيلة أحاديث ثقافة في المنازل حيث لا تجد الزوجة ما يشجعها على القراءة، ولا يسمح لها بمخالطة الأضياف، وهؤلاء الفتيات القارئات شبيهات بمن كن يسمين hetairai عند اليونان.
ويحدثنا نص مقدس أنه في سنة 1004 م كان في معبد الملك الكولي “راجا راجا” في تانجور أربعمائة امرأة من “خادمات الله”؛ وأكسب الزمان هذه العادة صبغة الجلال، فلم ير فيها أحد ما يتنافى مع الأخلاق؛ حتى إن السيدات المحترمات كن آناً بعد آن يهبن ابنة إلى مهنة العهر في المعابد، بنفس الروح التي يوهب بها الابن إلى الكهنوت.
ويصف “ديبوا”- في أول القرن التاسع عشر- معابد الجنوب بأنها في بعض الحالات كانت “تتحول إلى بيوت للدعارة ولا شيء غير هذا”، وكانت عامة الناس تطلق على “خادمات الله”- بغض النظر عن مهمتهن في بداية الأمر- اسم الزانيات، ويستخدمونهن على هذا الأساس؛ ولو أخذنا بقول هذا “الأب” الكهل، الذي لم يكن أمامه ما يبرر أن يتعصب للهند فيما يكتب، علمنا أن: “واجباتهن الرسمية تتألف من الرقص والغناء داخل المعابد مرتين كل يوم. وكذلك في الاحتفالات العامة كلها؛ وهن يؤدين الرقص أداء رشيقاً إلى درجة مرضية، على الرغم من أن طريقة الرقص تثير الشهوة وليس في إشارتهن شيء من الوقار؛ وأما غناؤهن فيكاد كله يتألف من أشعار فاحشة تصف ما مر في تاريخ آلهتهم من حوادث الإباحية الجنسية””.
الحب..
وعن وجود الحب يحكي الكتاب: “في هذه الظروف التي يسودها عهر المعابد وزواج الأطفال، لم يبق أمام ما نسميه “بالحب الشعري” إلا أضيق الفرص؛ نعم إن التفاني المثالي الذي يبديه أحد الجنسين تجاه الآخر، له آثاره الظاهرة في الأدب الهندي- مثال ذلك ما نراه في أشعار “شاندي داس” و “جاياديفا”- لكنه في الأغلب يتخذ رمزاً للروح تسلم زمامها لله؛ أما في الحياة الواقعة، فأكثر ما تظهر فيه هذه الروح هو تفاني الزوجة في زواجها تفانياً كاملاً؛ وأحيانا ترى شعرهم الغزلي من الطراز الخيالي السامي كالذي يصوره شعراؤنا المحافظون على تقاليد الأخلاق المتزمتة من أمثال “تنسن” و “لنجلفو”، وأحياناً أخرى تراه من الطراز الجسدي الحسي كالذي نعرفه في عصر اليصابات؛ فهذا أديب منهم يوحد بين الدين والحب، ويرى الجانبين معاً متمثلين في نشوة الدين ونشوة الحب؛ وهذا أديب آخر يذكر قائمة من ثلاثمائة وستين عاطفة مختلفة تملأ قلب المحب، ويعد الأشكال المختلفة التي رسمتها أسنانه على جسد حبيبته، أو يصف كيف أخذ يزين نهدي حبيبته برسوم أزهار من معجون الصندل العبق.
وكذلك يصف لنا مؤلف قصتي “نالا” و”داما يانتي” في ملحمة “ماهابهاراتا” آهات المحبين الحزينة وشحوبهم كأحسن ما تراه عند الشعراء الجوالين في فرنسا. لكن أمثال هذه الأهواء المتقلبة لم يركن إليها نادراً في تقرير الزواج في الهند؛ ولقد أباح “مانو” ثمانية صنوف من الزواج، كان أدناها في القيمة الخلقية هو الزواج بالاغتصاب والزواج “بالحب”؛ وأما الزواج بالشراء فهو الصورة المقبولة على أنها الطريقة المعقولة لتدبير الزواج بين رجل وامرأة؛ فالمشرع الهندي من رأيه أن صور الزواج التي تنبني على أسس اقتصادية هي في نهاية الأمر أسلم الصنوف عاقبة، وفي أيام “دبوا” كانت العبارة الهندية التي تعنى “يتزوج”، والعبارة التي تعني “يشتري زوجة” “عبارتين مترادفتين””.
تعدد الزوجات..
وعن إباحة التعدد يتابع الكتاب: “وأحكم الزواج زواج يدبره الوالدين مراعين فيه كل قواعد الزواج من داخل أو من خارج، فالشاب ينبغي أن يتزوج داخل طبقته الاجتماعية، لكنه يختار زوجته من خارج مجموعته العائلية؛ وله أن يتزوج من زوجات كثيرات لكن واحدة منهن فقط يكون لها السيادة على الأخريات، ويشترط فيها أن تكون من طبقته الاجتماعية؛ على أن الأفضل- في رأي مانو- أن يقتصر الزوج على زوجة واحدة وكان على الزوجة أن تحب زوجها في تفان ُيصبّره على المكاره، وأما الزوج فلم يكن ينتظر منه أن يبدي لزوجته حباً شعرياً، بل حماية أبوية”.
منزلة المرأة..
وعن تدني منزلة المرأة في المجتمع الهندي: “كانت الأسرة الهندية من الطراز الأبوي الصميم، فالوالد هو السيد الكامل السيادة على الزوجة والأبناء والعبيد وكانت المرأة مخلوقاً جميلاً يحب، لكنها أحط منزلة من الرجل؛ تقول أسطورة هندية: أن “تواشتري” المبدع الإلهي، حين أراد في البداية أن يخلق المرأة وجد أن مواد الخلق قد نفذت كلها في صياغة الرجل، ولم يبق لديه من العناصر الصلبة بقية، فإزاء هذه المشكلة طفق يصوغ المرأة من القصاصات والجذاذات التي تناثرت من عمليات الخلق السابقة، يختار قصاصة من هنا وجذاذة من هناك:
“فأخذ استدارة القمر، وتثنى الزواحف وتعلق المحلاق وارتعاش الكلأ ودقة قصبة الغاب وازدهار الزهور وخفة أوراق الشجر وانخراط خرطوم الفيل ونظرات الغزال وتجمع النخل وخلاياه، وبهجة أشعة الشمس المرحة وبكاء السحاب وتقلب الريح وجبن الأرنب وزهو الطاووس وطراوة صدر الببغاء، وصلابة جلمود الصخر، وحلاوة العسل، وقسوة النمر، ووهج النار الدافئ وبرودة الثلج وثرثرة أبي زريق، وهديل الحمام، ونفاق الكركي ووفاء الشكرافاكا، ومزج كل هذه العناصر مزجاً صنع منه المرأة ثم وهبها للرجل” لكن على الرغم من هذه العدة كلها، لم يكن للمرأة في الهند ألا أسوأ الحظوظ؛ فمكانتها العالية التي بلغتها في العصور الفيدية، زالت عنها بتأثير نفوذ الكهنة وبفعل المثل الذي رسمه المسلمون؛ فترى الروح العامة في “تشريع مانو” موجهة ضدها في عبارات تذكرنا بمرحلة أولى من مراحل اللاهوت المسيحي:
“إن مصدر العار هو المرأة، ومصدر العناء في الجهاد هو المرأة، ومصدر الوجود الدنيوي هو المرأة، وإذاً فإياك والمرأة ” وفي فقرة أخرى تقرأ: “إن المرأة لا تقتصر قدرتها على تضليل الأحمق عن جادة السبيل في هذه الحياة، بل هي كذلك قادرة على تضليل الحكيم؛ فهي تستطيع أن تمسك بزمامه وأن تخضعه لشهوته أو لغضبته”.
ولقد نص التشريع على أن المرأة طوال حياتها ينبغي أن تكون تحت إشراف الرجل، فأبوها أولاً وزوجها ثانياً وابنها ثالثا، وكانت الزوجة تخاطب زوجها في خشوع قائلة له: “يا مولاي” و “يا سيدي” بل “يا إلهي” وهي تمشي خلفه بمسافة إن مشيا على مرأى من الناس، وقلما يوجه إليها هو كلمة واحدة وينتظر من المرأة أن تبدي إخلاصها بخدماتها في كل المواقف، بإعدادها للطعام، وبأكلها لما يتبقى بعد أكل زوجها وأولادها، وبضمها لقدمي زوجها إذا حانت ساعة النوم.
يقول مانو: “إن الزوجة الوفية ينبغي أن تخدم … سيدها كما لو كان إلهاً، وألا تأتي شيئاً من شأنه أن يؤلمه، مهما تكن حالته، حتى إن خلا من كل الفضائل” أما الزوجة التي تعصي زوجها فمآلها أن تتقمص روحها جسد ابن آوى في خلقها التالي.
ولم يكن نساء الهند يتلقين تعليماً -كأخواتهن في أوربا وأمريكا قبل عصرنا هذا الحديث- إلا إن كن من سيدات الطبقة الراقية أو من زانيات المعبد، ففن القراءة كان في عرفهم لا يليق بامرأة؛ ذلك لأن سلطانها على الرجال لا يقوى به، ثم هو يؤدي إلى نقص فتنتها؛ فيقول “طاغور” على لسان “شترا” في إحدى مسرحياته: “إن المرأة يسعدها أن تكون امرأة فقط- أن تلف نفسها حول قلوب الرجال بابتسامتها وتنهداتها وخدماتها وملاطفاتها؛ فماذا يجدي عليها العلم وجليل الأعمال؟” وليس من حقها أن تلم بكتب الفيدا، ففي الماهابهاراتا: “إذا درست المرأة كتب الفيدا كانت هذه علامة الفساد في المملكة”، ويروي المجسطي عن أيام “تشاندرا جوبتا”: “إن البراهمة يحولون بين زوجاتهم- ولهم زوجات كثيرات- وبين دراسة الفلسفة، لأن النساء إن عرفن كيف ينظرن إلى اللذة والألم، والحياة والموت نظرة فلسفية، أصابهن مس من جنون، أو أبين بعد ذلك أن يظللن على خضوعهن”.
ثلاثة أشخاص في تشريع مانو لا يجوز لهم أن يملكوا شيئاً: الزوجة والابن والعبد، فكل ما يكسبه هؤلاء يصبح ملكاً لسيد الأسرة؛ على أنه يجوز للزوجة أن تحتفظ بملكية المهر والهدايا التي جاءتها عند زواجها، وكذلك يجوز لأم الأمير أن تحكم البلاد في مكان ابنها حتى يبلغ الرشد؛ ومن حق الرجل أن يطلق الزوجة لخيانتها الزوجية، لكن الزوجة لا تستطيع أن تطلق زوجها لأي سبب من الأسباب، وفي مقدور الزوج إذا ما شربت زوجته الخمر أو إذا مرضت أو إذا شقت عليه عصا الطاعة أو كانت مسرفة أو شكسة، أن يتزوج من غيرها في أي وقت شاء (لا أن يطلقها).
رفق بالمراة..
ويكمل الكتاب عن وجود حالات رفق بامرأة: “أن في “التشريع” فقرات توحي بالرفق المستنير في معاملة المرأة: فلا يجوز ضربهن “حتى بزهرة” ولا يجوز مراقبتهن مراقبة تجاوز الحدود في صرامتها، لأن دهاء مكرهن عندئذ يجد سبيلاً للشر، وإذا أحببن جميل الثياب فمن الحكمة أن تشبع فيهن ما أحببن “لأن الزوجة إذا حرمت أنيق الثياب فلن تثير في صدر زوجها ميلاً إليها” على حين أنه “إذا زينت الزوجة زينة بهيجة، اكتسب المنزل كله مسحة الجمال”، ويجب أن تخلى الطريق للمرأة كما تخليه للكهول والكهنة، والواجب أن يطعم “الحاملات والعرائس والكواعب قبل سائر الأضياف” ولئن فات المرأة عندهم أن تحكم باعتبارها زوجة، فلها أن تحكم بوصفها أما، وإن كانت المرأة أما لأطفال كثيرين، استحقت عند الناس أعظم العطف والتقدير؛ فحتى تشريع مانو الذي يؤيد سيطرة الوالد في الأسرة، ينص على أن “الأم أولى بالتوقير من ألف ووالد””.
الحجاب..
وعن فرض الحجاب: “ولاشك أن دخول الأفكار الإسلامية كان عاملاً على تدهور مكانة المرأة في الهند بعد العصر الفيدي، فقد جاءت إليها عادة “البردة” (أي الستار)- وهي عزل النساء المتزوجات- مع الفرس والمسلمين، ولذلك فهي أقوى جذوراً في شمال البلاد منها في الجنوب؛ ولكي يحمي الأزواج الهنود زوجاتهم من المسلمين- وهذا عامل من عدة عوامل- فقد اصطنعوا نظام “البردة” وتمسكوا به في تزمت بلغ من شدته أن المرأة المحترمة لا تستطيع أن تبدي نفسها لغير زوجها وأبنائها، ولا يمكنها الانتقال خارج دارها إلا مستورة بقناع سميك؛ حتى الطبيب الذي يعالجها ويجس نبضها، لا مندوحة له عن أداء واجبه خلال ستار ؛ وإنه لمن الخروج على القواعد الخلقية في بعض الأوساط أن تسأل عن زوجة غيرك أو أن تتحدث وأنت ضيف إلى سيدات البيت الذي يضيفك”.
حرق الأرامل..
ويواصل الكتاب عن عادة حرق الأرامل: “كذلك عادة إحراق الأرامل على الكومة التي احترق فيها أزواجهن جاءت إلى الهند من خارج، ويقول عنها “هيرودوت” أنها كانت عادة جارية بين السُّكَّيت القدماء وأهل تراقيا؛ ولو كان لنا أن نصدقه في روايته، إذن لعلمنا أن زوجات الرجل من أهل تراقيا كن يقتتلن تسابقاً على امتياز القتل على قبر الزوج، ولعل هذه الشعيرة قد هبطت إلى الهنود من عادة قديمة كادت تشمل شعوب العالم البدائية كلها، وهي التضحية بواحدة أو اكثر من زوجات الأمير أو الغني، أو من خليلاته، والتضحية معها بطائفة من عبيده، وغير ذلك مما لابد من تقديمه قرباناً إثر وفاته، وذلك ليعنى هؤلاء بالميت في الحياة الآخرة؛ ويذكرها كتاب “إتارفا فيدا” على أنها عادة قديمة؛ أما “رج فيدا” فيذكر لنا أن هذه العادة في العصر الفيدي كانت قد خف شأنها حتى أصبحت محصورة في مطالبة الأرملة بالرقاد على كومة الحطب التي أعدت لزوجها لحظة قبل إحراق جثته.
ثم تعود قصيدة “ماهابهاراتا” فتصف هذه العادة الاجتماعية وصفاً يدل على عودتها كاملة بغير شعور من الناس بفداحة ما يفعلون، وهي تذكر أمثلة كثيرة لهذه العادة ثم تضع للناس قاعدة عامة مؤداها أن الأرملة الطاهرة لا تحب أن تحيى بعد زوجها، بل تراها تدخل النار فخورة بصنيعها، وكانوا في هذه المناسبات يحرقون جسد الزوجة في حفرة من الأرض، أو يدفنونها حية، كما كان يحدث بين قبيلة “تلوج” في الجنوب؛ ويروي لنا سترابو أن عادة قتل الزوجة بعد موت زوجها كانت شائعة في الهند أيام الإسكندر، وأن قبيلة “كاثي”- وهي قبيلة تسكن البنجاب- اتخذت من هذه العادة قانوناً حتى لا تدس زوجة لزوجها السم فتقتله ولا يذكر “مانو” عن هذه العادة شيئاً؛ ولقد عارضها البراهمة أول الأمر، لكنهم عادوا فقبلوها، وأخيراً خلعوا عليها قداسة دينية تحميها من العبث، وذلك بأن جعلوها مرتبطة بأبدية الرابطة الزوجية: فالمرأة إذا ما تزوجت رجلا كان عليها أن تظل زوجته إلى الأبد، وستعود إلى الارتباط الزوجي به في حياته المقبلة؛ وهذه الملكية المطلقة من الزوج لزوجته، اتخذت في “راجستان” صورة ما يسمونه “جوهور” وهي عادة تقضي على الرجل من أهل راجبوت، إذا ما أصابه نوع معين من الهزيمة، أن يضحي بزوجاته قبل أن يتقدم هو إلى الموت في ساحة القتال؛ وانتشرت العادة في حكم المغول انتشارا واسعاً على الرغم من كراهية المسلمين لها، ولقد فشل ملوك المسلمين، حتى “أكبر” بكل نفوذه، في زحزحة هذه العادة من النفوس، وحاول “أكبر” ذات مرة أن يثني عروساً هندية عن تقديم نفسها طعاماً للنار على كومة الحطب التي أحرقت خطيبها الميت، وتوسل إليها البراهمة بما يؤيد رجاء الملك، لكن العروس أصرت على التضحية فلما دنت منها السنة اللهب، وكان “دانيال”- ابن “أكبر”- عندئذ ماضيا في إقناعها بالعدول، إجابته قائلة: “كفى، كفى”.
وحدث كذلك لأرملة أخرى أن رفضت مثل هذه التوسلات بالإقلاع عن التضحية بنفسها، ووضعت إصبعها في شعلة مصباح حتى التهمتها النار، ولكونها أمسكت عن إظهار ألمها بأية علامة من علاماته، فقد عبرت عن ازدرائها لأولئك الذين نصحوها بالإقلاع عن إحراق نفسها جرياً مع الطقوس؛ وفي “فيجاياناجار” كان قتل الزوجة هذا يتخذ صورة جمعية، فلا يكتفي فيه بقتل زوجة واحدة أو عدد قليل من زوجات الأمير أو القائد بعد موته، بل كان لابد لكل زوجاته أن يتبعنه إلى الموت.
ويروى لنا “كونتي” أن “الرايا” أو الملك قد اختار ثلاثة آلاف من زوجاته البالغ عددهن اثني عشر ألفاً، ليكن مقربات له “على شرط أن يحرقن أنفسهن مختارات عند موته، وأن ذلك ليعد شرفاً عظيماً لهن” وأنه من العسير علينا أن نحكم إلى أي حد كانت الأرملة الهندية في عصور الهند الوسطى راضية النفس عن هذه العادة بقوة التأثير الديني والعقيدة، وبقوة الرجاء في أن تعود إلى الاتحاد بزوجها في الحياة الآخرة.
وأخذت “السوتي”- قتل الزوجة بعد موت زوجها- تقل شيئاً فشيئاً كلما ازدادت الهند اتصالاً بأوربا، ولو أن الأرملة لم تزل تعاني صعاباً كثيرة، فما دام الزواج قد ربط المرأة بزوجها رباطاً أبدياً، فإن زواجها مرة ثانية بعد موت زوجها كان يعد جريمة فادحة، ومن نتائجه المحتومة أن يحدث للزواج اضطراباً في حياته المقبلة، وعلى ذلك كان لابد للأرملة وفق قانون البرهمي أن تظل بغير زواج وأن تحلق شعرها وتحيى حياتها (إذا لم تؤثر لنفسها القتل في نار زوجها) معنية بأطفالها ومشتغلة بأعمال البر والإحسان ولم يكن يحكم على الأرملة بالفقر، بل الأمر على عكس ذلك، إذ كان لها الحق الأول في أملاك زوجها، غير أن هذه القواعد لم تجد قبولاً إلا عند النساء المحافظات على التقاليد من نساء الطبقتين العليا والوسطى- وهؤلاء نسبتهن ثلاثون في المائة من مجموع السكان-.
وأما المسلمون والسيخ والطبقات الدنيا فقد أهملوا تلك القواعد إهمالاً تاماً والرأي عند الهنود هو أن هذه العذرية الثانية التي تصطنعها الأرملة عندهم شبيهة بامتناع الراهبات في المسيحية عن الزواج ففي كلتا الحالين ترى طائفة من النساء يرفضن الزواج ويكرسن حياتهن لأعمال الإحسان”.