غالبا”ما كانت ظاهرة الاختلاف في الأصول السلالية / القومية ، والتباين في المرجعيات الدينية / المذهبية ، والتنوع في الأرومات اللغوية / اللسانية ، والتعدد في الخلفيات الحضارية / الثقافية ، ينابيع لا تجف لإثارة العدوات والكراهيات ، ومصادر لا تنضب لإنتاج الصدامات والصراعات . ليس فقط بين الشعوب والمجتمعات الخارجية بوازع من الحمية الوطنية والاعتزاز بالأنا الجمعي فحسب ، إنما – وهو الأشد قسوة والأكثر ضراوة – بين المكونات الداخلية للشعب أو المجتمع الواحد ؛ بدافع من الحساسيات العنصرية والنعرات الطائفية والاحتقانات العشائرية والمناكفات المناطقية . وهو الأمر الذي لاحظه المفكر السوري (برهان غليون) حين كتب يقول إن ((العلاقات الأشد حساسية وتوترا”هي تلك التي تنشأ بين جماعات تنتمي إلى القومية ذاتها والى الثقافة ذاتها ، حيث تأخذ قضية تأكيد الذاتية أهمية سياسية كبرى في الوقت الذي تبدو فيه صعبة المنال)) . والغريب في الأمر حقا”هو إن مستويات العدوانية البينية تتزايد ومؤشرات العنف المتبادل تتصاعد ، بمعدلات يستحيل ضبطها والسيطرة عليها والحد منها ، حين يكون الاختلاف قائم بين المكونات الداخلية للمجتمع أكثر مما هو كائن بين الجماعات الخارجية ، وذلك لأسباب تتعلق بالثوابت المعيارية في الحالة الأولى والمتغيرات الإجرائية في الحالة الثانية . فالصراع الذي يحتدم أواره بين الجماعات الداخلية / المحلية ، عادة ما يتمحور حول قضايا تأسيسية / مبدئية نادرا”ما تبيح للخصوم المعنيين ، القبول بالمساومات والإقدام على التنازلات من مثل ؛ الاثنيات الاقوامية وأحقيتها المزعومة في امتلاك سلطة الدولة واعتلاء سدة النظام ، أو الجماعات الطوائفية وأفضليتها المزعومة في تفسير الدين واحتكار حقيقة الإيمان ، أو الهويات الثقافية وأسبقيتها المزعومة في تمثيل الوطن والتماهي بالشعب ، أو الذاكرات التاريخية وجدارتها المزعومة في حفظ الأحداث وأرشفة الوقائع ، والرمزيات المخيالية ومصداقيتها المزعومة في التعبير عن الوعي والكشف عن السيكولوجيا .هذا في حين نجد إن التنافس الذي تندلع ألسنته بين المجتمعات الخارجية / الأممية ، عادة ما يتركز حول مسائل نسبية / حوارية غالبا”ما توفر للأطراف المعنية غطاء شرعيا”، ليس فقط للقبول بالمساومات المتبادلة فحسب ، بل والمبادرة على تقديم التنازلات المتقابلة أيضا”من قبيل ؛ الأهداف السياسية وما تنطوي عليه من طابع تفاوضي / تكتيكي ، أو المصالح الاقتصادية وما تشتمل عليه من طابع تجاري / تعاوني ، أو العلاقات الثقافية وما تحتويه من طابع حضاري / تداولي . وإذا كانت ظاهرة تسييس المواقف والتصورات تعد من صميم القضايا والمسائل في الحالة الخارجية ، بحيث إن العدول عنها والاستخفاف بها يشكل ضربا”من الخروج على الأعراف والقوانين المرعية ، وبالتالي الخروج عن الإجماع الدولي والإنساني . فان اللجوء إلى ذات الظاهرة في مسائل الحالة الداخلية لا يمثل استثناء لتلك القاعدة فحسب ،إنما يعتبر خروجا”عن المألوف العرفي وتخطيا”للتواضعات القيمية ، ومن ثم إيذانا”باستشراء الكراهية بين مكونات المجتمع الواحد ، واستدعاء للعنف بين جماعات البلد الواحد . إذ إن المشكلة الحقيقية – كما جادل برهان غليون – ((تبدأ عندما يصبح لهذا التمايز الثقافي وجود سياسي مميز ،أي تصبح الأقلية أو الطائفة حزبا”سياسيا”وقناة للسلطة . وتتعقد المشكلة أكثر عندما ترتبط هذه الجماعة بقصد الدفاع عن نفسها لأسباب تاريخية موضوعية خارجة عن إرادة كل فرد فيها بسلطة استبدادية أو بدولة أجنبية مهيمنة عالميا”)) . ولعل من خصائص الظاهرة الاجتماعية / الإنسانية أنها تستجيب للتفاعل بين المكونات السوسيولوجية ، وتميل للتواصل بين الخلفيات الانثروبولوجية ، وتقبل التداول في المؤثرات السيكولوجية ، مما يستتبع مطاوعتها للتغيير في المسارات واستجابتها للتطوير في الاتجاهات . بمعنى أنها تتمتع بالمرونة الفكرية في التعبير عن حراكها ، والنسبية التاريخية في الإعلان عن تطورها ، وان أي إهمال لهذه السمات أوالتجاهل لتلك الصفات ، كفيل بخلق المنازعات بين الأخوة في الوطن الواحد ، وإثارة الصراعات بين الأتباع للدين الواحد ، وتأجيج الصدامات بين أبناء التاريخ الواحد ، وتفخيخ العلاقات بين المملثين للهوية الواحدة . ولذلك فقد أشار مؤرخ الثقافات (كليفورد غيرتز) إلى ((أن هذا التبلور للصراع المباشر بين النزعات الفطرية والنزعات المدنية – هذا (التوق إلى الانتماء إلى جماعة معينة وعدم الانتماء إلى أي جماعة أخرى) – هو الذي يضفي على تلك المشكلة ، التي توصف أيضا”بالقبلية والابرشانية الضيقة والطائفية وهلم جرّا ، صفة أكثر خطورة وأكثر تهديدا”بالشر من معظم المشاكل الأخرى)) . وبغياب المعايير الاجتماعية الضابطة ، واندثار المؤسسات السياسية الملزمة ، واحتضار المقاييس الأخلاقية الموجهة ، على خلفية طغيان الفوضى في الحالة الأولى ، واستشراء الفساد في الحالة الثانية ، وانفلات النزعات في الحالة الثالثة . فان الركون إلى (القوة/ العنف) بين الجماعات المختلفة والكيانات المتباينة – لتأكيد ما تراه حقها في السيادة والقيادة – ستبدو فكرة مغرية تستهوي كل جماعة أو مكون ، ليس فقط لدرء مخاطر الوقوع في دائرة التهميش والإقصاء فحسب ، وإنما لرفع معدلات خصوصيتها الاقوامية أو الطوائفية أو القبائلية ، إلى مصاف مبدأ سلطوي أوحد ومعيار اجتماعي متفرد ؛ يستدعي من جميع الفرقاء / الشركاء الامتثال له والتماهي معه ، بحيث يؤدي إلى احتواء القوميات / الاثنيات المغايرة ، وطمس التنوعات الدينية / المذهبية المفارقة ، وتذويب الخصوصيات الحضارية /الثقافية المباينة . ومن الواضح إن رصد ظاهرة صراع العصبيات في المجتمعات التعددية ، ينبغي ألاّ توحي بأن هذه ملازمة لتلك في كل زمان ومكان ، كما لو أنها في مقام السبب وعلاقته بالنتيجة أو العلة وارتباطها بالمعلول . فالأمر لا يتعدى كونها حصيلة عوامل تاريخية شاذة ، وأوضاع اجتماعية مضطربة ، وظروف سياسية قلقة ، وأنماط ثقافية مرتبكة . سرعان ما تجف ينابيعها وتضمحل بؤرها وتتلاشى مصادرها ، متى ما بلغ المجتمع المعني تخوم وعيه لذاته ككيان مغروس في الجغرافيا ومتلابس في التاريخ ومتجانس في الذاكرة أولا”، وتلمس قيمة تمسكه بشخصيته الاجتماعية العابرة للانتماءات الفرعية ثانيا”، وأدرك آفاق انتمائه لهويته الوطنية المتخطية للولاءات التحتية ثالثا”. ولكن يبقى السؤال مطروحا”بخصوص المدى الذي تستطيع تلك المكونات الذهاب من خلاله ، شوطا”أبعد في الحد من كبح غرائزها البدائية والجد في ترويض نوازعها الفطرية . إذ أن أمر هذا التحول النوعي في الذهنيات والعلاقات ، لا يرتهن فقط بإرادات الأفراد والجماعات المنخرطة بتلك الصراعات فحسب ، إنما – وهو العامل الحاسم هنا – بطبيعة الدولة التي تحكم ونمط السلطة التي تسود . ذلك لأن البشر – كما يؤكد (مايكل كاريذرس) أستاذ ورئيس قسم الانثروبولوجيا في جامعة دورهام البريطانية ((لا ينتجون مجتمعا”فحسب ، بل ينتجون مجتمعا”ذا أشكال عديدة لا حصر لها ، قابلا”للتغيير دائما”وأبدا”، وشديد التعقيد في تفاصيله وأحكام بنيته)) .
[email protected]